تساؤلات عن الذكاء الاصطناعي وحقوق الصحفيين: الجزء الأول
ها نحن نعود من جديد الى تيمة الذكاء الاصطناعي الذي أحدث في عالم اليوم ثورة تقنية و معرفية و فلسفية كاسحة. إنها دون ريب ثورة جرافة لا تبقي و لا تذر، لأن الذكاء الاصطناعي أصبح معركة الحياة و الوجود، بل اضحى القطار السريع للحاضر و نحو المستقبل
“ليست هذه مداخلة اكاديمية صرفة حول الموضوع ” نامبر وان” للعصر الجديد
اشارككم بالأحرى شهادة مهنية حول بعض عناصر الاجابة عن السؤال الحاسم و المهم
ما هي حقوق الصحفيين في عالم تهيمن عليه تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ؟*
: قبل الاجابة عن هذا السؤال دعونا نتفق على ملاحظة بالغة الاهمية
حاليا، يشهد العالم ثورة تقنية هائلة بفضل الذكاء الاصطناعي الذي يتغلغل في مختلف المجالات : الطب، المال، الاعمال، الصناعة، الفلاحة، الصناعات الحربية و الترفيهية و الايديولوجية
و لعل مجال الإعلام والصحافة من المجالات الحية التي باتت تخضع ايضا لتحولات سريعة و خطيرة في ظل الثورة اللامحدودة للذكاء الاصطناعي
فبينما تُقدم هذه التكنولوجيا فرصًا جديدة لتعزيز كفاءة العمل الصحفي و توسيع نطاقه، تُثير أيضًا مخاوف جمة بشأن حقوق الصحفيين وحريتهم في التعبير
قبل ان نمضي قدما في شهادتنا المهنية حول هذا الموضوع ، من المهم البدء بالإجابة عن السؤال التالي
ما أهمية الذكاء الاصطناعي في عصرنا الحالي؟
ان الذكاء الاصطناعي أصبح أكثر من موضة فكرية باعتبار انه يشغل بال الكثيرين و له تطبيقات عديدة و عجيبة في حياتنا اليومية
دعونا نبدأ بالبداية ونعرف مفهوم الذكاء الاصطناعي
الذكاء الاصطناعي فرع من فروع علم الحاسوب وإحدى الركائز الأساسية التي تقوم عليها صناعة التكنولوجيا في العصر الحالي ويمكن تعريفه باختصار في جملة واحدة
قدرة الآلات والحواسيب الرقمية على القيام بمهام معينة تحاكي وتشابه تلك التي تقوم بها الكائنات الذكية
باختصار، يعني ذلك محاكاة الآلة للإنسان في القدرة على التفكير و على التعلم من التجارب السابقة أو غيرها من العمليات.
هذا هو التعريف الدقيق والبسيط جدا لمفهوم الذكاء الاصطناعي
:و لابد أن نشير إلى أن الذكاء الاصطناعي له مجموعة من الإيجابيات، و من ضمنها ما يلي
أولا: الحد من الخطأ البشري لأن الحواسيب لا ترتكب أخطاء البشر إذا برمجت بشكل صحيح.. فاذا برمجت الآلات مثلا بدقة على إجراء مقابلات العمل عن بعد مع الأشخاص فذلك سوف يحد من الخطأ البشري و يسمح لنا بربح الكثير من الوقت و بلوغ أعلى و أرقى مستويات الفاعلية
. ثانيا : الروبوتات يمكن ان تعمل طوال الوقت وعلى مدار الساعة دون الشعور بالتعب و الارهاق مثل البشر. و الإنسان طبعا في نظامه البيولوجي يحتاج الى 8 ساعات من أجل النوم، 8 ساعات مثلها أو أكثر من 10 إلى 12 ساعة من أجل العمل وكسب القوت اليومي و 8 ساعات أخرى من أجل القيام بأنشطة اجتماعية مختلفة. الآلات لديها القدرة أن تعمل 24 ساعة دون أن تقع في الخطأ، و دون أن تحس بذلك التعب والإرهاق الذي يطال البشر
. ثالثا: هناك ميزة أخرى للذكاء الاصطناعي الا و هي المساعدة في الوظائف المتكررة : اتمتة المهام. بعبارة أخرى، بفضل الآلات و التكنولوجيات الحديثة يصبح العمل بسيطا غير معقد و تسند فيه المهام الشاقة و المتكررة الى الربوتات
اما بالنسبة للصحفي الذي يستخدم تطبيقات الذكاء الاصطناعي على سبيل المثال في عمله، فعوض أن يذهب لمنطقة معينة تشتعل فيها الحروب أو تضربها الفيضانات أو الزلازل أو منطقة موبوءة، فعوض أن يذهب طاقم كامل مكون من 15 صحفي لتغطية حدث ما أو الوقوف على فاجعة معينة أو أمطار طوفانية في منطقة من المناطق أو يقصد منطقة يدمرها الإرهاب، يمكن أن نرسل صحفيا واحدا مزودا بأجهزة تكنولوجية متطورة مثل الموبايلات عالية الجودة ..و في حالات أخرى قد لا نرسل صحفيا و لا هم يحزنون !… بل نرسل طائرات الدرونز من أجل تغطية الأحداث و الرجوع الينا بكمية ضخمة من البيانات
. رابعا: يعمل الذكاء الاصطناعي على تشغيل العديد من الاختراعات في كل مجال تقريبا مما يساعد البشر على حل غالبية المشكلات، هذا يعني أن الذكاء الاصطناعي موجود الآن في جميع المجالات، موجود في التعليم، موجود في الصحافة، في الطب… و نتحدث هنا ، على سبيل المثال، عن الطب عن بعد و بفضله تجرى عمليات جراحية دقيقة على المخ و الأعصاب باستخدام الذكاء الاصطناعي و التحكم عن بعد في العمليات الجراحية الاكثر دقة و تعقيدا
و الان سوف أكون انتقائيا وسوف أتحدث بالخصوص عن بعض تحولات الصحافة في زمن الذكاء الاصطناعي
ان الصحفي الذي يستخدم تطبيقات الذكاء الاصطناعي يقلص حدود الزمان و المكان في التغطيات الاخبارية، و هو سوف يعمل أقل، و اذا كان في الماضي الصحفي يحتاج الى 17 ساعة للعمل المتواصل الذي ينهك صحته فإنه الآن يحتاج الى عدد ساعات أقل خاصة في الدول المتقدمة التي توظف بشكل كبير و مكثف تقنيات و برمجيات الذكاء الاصطناعي ، و بذلك سوف يتحول العمل بالنسبة للصحفيين الى نشاط أشبه ما يكون باللعبة المسلية (و هنا أدعو من هذا المنبر المؤسسات الصحفية في المغرب و في الدول السائرة في طريق النمو إلى الاهتمام اكثر بالذكاء الاصطناعي و دمجه في العمل)
هناك بعض الاصوات التي تتعالى بنظريات المؤامرة و تقول ان الذكاء الاصطناعي ما هو الا مخطط شيطاني يراد منه تسريح العمالة علاوة على التخلص من فائض الصحفيين و العمال، و هذا امر نسبي ، رغم أن هذه سلبية من سلبيات الذكاء الاصطناعي، و أنا كخبير في الذكاء الاصطناعي أعتقد أن الايجابيات تفوق بكثير السلبيات على مستوى المردودية، لأنه سوف تتقلص ساعات العمل و سوف يصبح الصحفي بمثابة مراقب لعمل الآلات، و بالتالي سوف يكون لديه وقت اكثر لقضائه مع العائلة، ثم لتكوينه المستمر و تحسين قدراته و مهاراته التواصلية و أيضا من اجل ان يطور ادوات عمله
دعونا الان نفتح قوسا ليس له علاقة مباشرة بموضوعنا الاساسي
في مجال التعليم ، أحدث الذكاء الاصطناعي ثورة معرفية ورقمية نعيشها في السنوات الأخيرة منذ عام 2019، وأنا اريد ان اربطها بجائحة كورونا التي تنامى فيها وتعاظم الاهتمام بالتعليم عن بعد وتلك التطبيقات التي استخدمناها كلنا، تطبيقات الدردشة والمحادثة الآنية بالصوت و الصورة، و كلها بطبيعة الحال من منتجات و مخرجات الذكاء الاصطناعي
هذا هو التوجه العالمي الضارب بقوة، و لكنه لا يغنينا بتاتا عن حضور الأستاذ أو المدرس في قاعات الدرس، لأنه عندما تكون لديك آلات و تبرمجها فان هذه الآلات ستحاكي سلوكيات البشر و قدراتهم و تصبح هذه الآلات “ذكية” الى حد ما ، قادرة على الاستنتاج و على اتخاذ القرارات
هنا، يجب ان نفهم ان هذه الآلات و لو أنها “ذكية” فإنها لن تعوض اطل
. الحدس
. القدرة على الحلم
. التعاطف
. تدفق المشاعر
. الى جانب طاقة اللاوعي العظيمة التي يمتلكها الانسان و التي تجعله حتما في موقع الكرامة و الريادة بل السيادة على باقي مخلوقات هذا الكون الشاسع
ولقد كرمنا بني آدم: صدق الله العظيم
و هنا اعتقد انه من باب الانصاف و وضع المفاهيم على السكة الصحيحة ان نعيد التفكير في مصطلح “الذكاء الاصطناعي” الذي اسقط إسقاطًا قسريا متعسفا على الآلات و البرمجيات
انها بالأحرى برمجة اصطناعية لأننا عندما نتحدث عن الذكاء، فإننا نشير الى الحدس و الروح، ناهيك عن الاحساس العميق الواعي و اللاواعي الذي يمتلكه الانسان، اننا هنا نتحدث عن العواطف التي تجري مثل النهر المتدفق في عقل و روح الانسان، و هذه الاخيرة ، في علمي، و الى حدود كتابة هذه السطور، لا تمتلكها الآلات
إن الآلات تحاكي فقط الإنسان وتقلده و تتحمل ساعات العمل أكثر، لكنها دائما و ستظل تحت سيادة الإنس
فالإنسان هو الأصل
من المؤكد اذا أن للذكاء الاصطناعي ايجابيات كثيرة، لكن سلبياته ايضا كثيرة تكاد لاتحصى.. و من ضمنها مثلا انه تهديد خطير و وجودي لحق الانسان في الخصوصية و الانفلات من الرقابة و التمتع بالحرية الشخصية داخل و خارج الشبكات، بعبارة اخرى : من المفروض ان الانسان يجب ان يكون حرا في اتخاذ قراراته سواء اوفلاين او اونلاين بعيدا عن دكتاتورية الخوارزميات
ففي نظركم، كيف تنتهك التكنولوجيات الحديثة، و خاصة ربوتات الذكاء الاصطناعي حقوق الانسان ؟
في واقع الامر، قبل أن نتحدث عن انتهاك التكنولوجيات لحقوق الانسان، نبدأ و نشير في نقاط سريعة الى بعض سلبيات الذكاء الاصطناعي
:سلبيات الذكاء الاصطناعي كثيرة جدا، و من بينها
. التكلفة المرتفعة نتيجة الاحتياج إلى تحديث البرامج التي غالبا ما تحتاج للتحيين و المتابعة من اجل تلبية أحدث المتطلبات، و من اجل ان تكون دائما معاصرة ومواكبة للتكنولوجيا الحديثة –
السلبية الثانية : هي ان الاعتمادية المفرطة على الذكاء الاصطناعي في العمل داخل المنازل سيجعل البشر كسالى، و هنا نشير للأتمتة التي مكنت العديد من الاشخاص من العمل داخل المنزل، في السنوات الاخيرة، و هذا أمر مفيد و سيء في الوقت ذاته، فهناك دراسات علمية و طبية حديثة تعود الى السنوات الخمس الاخيرة اثبتت ان هناك الملايين من الافراد ازدادت اوزانهم، و عانوا من البدانة، و هناك منهم من اصيب باضطرابات القلب و الدورة الدموية جراء قلة الحركة و المكوث لساعات طويلة في البيت في سياق ازمة كورونا، بل حتى ابان زمن اللايقين، اي بعد الوباء، و الى حدود اللحظة التي انهيت فيها قراءة هذه الفقرة
. السلبية الثالثة: هي ان الاعتمادية المفرطة للإنسان على الآلات أسهم بشكل كبير و مقلق في السنوات الاخيرة في الرفع من معدلات البطالة نتيجة تسريح العمالة. ففي الصين مثلا، عام 2020، تم تسريح ما يقارب مليون صحفي وتعويضهم بالآلات.. و هنا نتساءل عن مصير هؤلاء الصحفيين في دولة لا تحترم ادني اسس الممارسة الديموقراطية، فهؤلاء الصحفيون الذين تم الاستغناء عن خدماتهم ليس مضمونا 100٪ انهم سيعملون سريعا في مكان آخر
. السلبية الرابعة: للاستخدام غير الرشيد و اللامسوؤل للذكاء الاصطناعي تتمثل في أن الآلات لا يمكن ان تطور علاقة مع البشر بالمعنى العاطفي، إن الآلات لا تحس، انها تحاكي فقط و تنجز ما برمجت عليه
*د. مهدي عامري: خبير الذكاء الاصطناعي *
المعهد العالي للإعلام و الاتصال، الرباط، المغرب*
Related
Zahra
زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية
المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام
Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian
Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French)
هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة
كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر
رابط الموقع: Alwanne.com