حضور الآخر في الأنا
1/1 مصدر التميز هو التنافس
ذ. لحسن أحمامة
تشترك جميع المجتمعات البشرية مهما كان أصلها في سمات معينة. أولها و ربما أهمها هو أن المجتمع، و ليس الفرد، هو الوحدة المهمة في صراع جنسنا البشري من أجل البقاء. فالمجتمعات تستمر عادة إلى ما هو أبعد من عمر أي فرد، كما أنها عبارة عن وحدات وظيفية عاملة. و على الرغم من أنها مشكلة من أفراد، إلا أنها تعمل ككل، من حيث أن مصالح كل فرد من أفرادها تخضع لمصالح المجموعة بأكملها. لكنها لا تتردد في إقصاء أو القضاء على بعض الأفراد عندما يكون ذلك في صالح المجتمع ككل. إذا قام المجتمع بعمله في تشكيل الفرد بشكل صحيح، فلن يكون هذا الأخير واعيا بمعظم الإكراهات التي فرضها المجتمع أكثر من وعيه بالقيود التي تفرضها ملابسه المعتادة على تحركاته. في كل مجتمع، يتم تقسيم الأنشطة الضرورية لبقاء الكل و تقسيمها على مختلف الطبقات الاجتماعية، كما على الجنسين
لا يمكن للإنسان أن يعيش بمعزل عن الآخرين. إذ باعتباره فردا داخل المجتمع، يلزمه الامتثال إلى المعايير الاجتماعية التي يسنها المجتمع بهدف ضمان بقائه و استمراره و تماسكه. تتضمن هذه المعايير الاجتماعية سلسلة من القيم والمواضعات التي عادة ما يتم تمريرها عبر ممارسات خطابية يستطبنها الفرد، منذ التنشئة الاجتماعية، و يدافع عنها بصورة غير واعية، و تصبح جزءا من سلوكه و تصرفاته، إما من خلال أيديولوجيا إكراهية أو أيديولوجيا ثقافية. غير أن الفرد كلما رام تجنب هذه المواضعات أو قاومها، يصبح عرضة للإقصاء خارج المجتمع أو تتم معاقبته. لذلك، فالمجتمع أكبر من الفرد، بل إن هذا الأخير لم يتشكل إلا بعد تشكل المجتمع و ليس العكس. و كيفما تكون المجتمعات البشرية قد تكونت، فإن لها بعض المقومات المشتركة. من هنا أمكن القول إن الإنسان كائن اجتماعي، أو كائن أيديولوجي بحسب تعبير لوي ألتوسير. فدراسة الإنسان الاجتماعي و المجتمع حسب دوركايم، تتم عبر تحليل الفعل الاجتماعي، أي طرائق التصرف و التفكير و الإحساس التي توجد خارج الإدراكات الفردية. و الامتثال مرده ميل الفرد للحصول على الاعتراف من طرف الآخر، ذلك أن هذا الاعتراف أو الاعتبار، أو حتى التقدير، هو ما يحقق و يضمن للشخص وجوده. ما يهم الفرد هو هذا الاعتراف كي يحيا، و حتى في حالة الكره، فإن ذلك يقوي حضور الذات. لعل الكره أخف حدة من الرفض فقد يقوي الكره الإحساس بالوجود بينما التهكم يحكم على الشخص بالعدم. و لعل ما يخشاه الشخص هو التهكم و عدم الانتباه إليه. قد يتخذ الاعتراف صورا عديدة لعلها أهمها في نظرنا هو السعي إلى التميز أو التنافس. يقول وليم جميس: “يوجد بعض الأشخاص الذين يهمنا رأيهم قليلا لكننا نطلب اهتمامهم”. و يضيف قائلا :” إن الثقة التي نشعر بها نستمد الجزء الكبير منها من الآخرين”
في المجتمع المغربي، تلعب المظاهر الاجتماعية دورا فاعلا لدى أفراده. ذلك أن الفرد بصفة عامة ناقص و لا يكتمل إلا بالآخر، و هو دائما في بحث متواصل عن هذا الاعتبار، و غياب هذا الشعور أشد ضررا للإنسان. من ثمة تمحي الذات أمام الآخر الذي هو مصدر الاعتراف و الاعتبار. و الاعتراف يتطلب الآخر و يعتمد عليه. من هنا كانت نظرة الآخر ذات أهمية بالغة عند المنظور إليه. فما ترغب الذات الاجتماعية للإنسان في الحصول عليه من قبل أشباهه إنما هو هذا الاعتراف. إذ أنه ليس حيوانا اجتماعيا يحب أن يكون بالقرب من النوع الجنسي الذي ينتمي إليه، و إنما لديه ميل فطري لأن تتم ملاحظته، و النظر إليه باستحسان من قبل الكائنات من جنسه. هكذا فحضور الآخر يؤثر بشكل كبير في تصرفات الفرد و أدائه
عادة ما يردد المغاربة قولة: “كل بذوقك و البس بذوق الآخرين”. توحي هذه القولة بطبيعة العلاقة القائمة بين الذات و الآخر. ففيما يرتبط الداخل بالأنا، يكون الخارج معنيا بالآخر. و لئن كان هذا التعبير بسيطا في ظاهره، فإنه يحمل دلالة توحي بأن الأكل مرتبط بالداخل فيما يرتبط اللباس بالخارج أي بالمظهر الذي يظهر به الفرد. إن الأكل/ الذوق خفي لا يتعدى حدود الفرد، فيما يكون اللباس علنيا و صريحا. نشاهد اليوم، أكثر من أي وقت مضى، الشكل الذي يظهر به الفتيان و الفتيات في الشارع العام. أي شكل اللباس شبه الموحد: لباس رياضي مع صندل و جوارب عند الفتيان، و معطف و حجاب عند الفتيات. للتأثير قوة فاعلة يمتثل لها الأفراد، و أينما يوجد الاجتماعي، يوجد التأثير الذي يتضمن فكرة الطاقة و القوة التي تؤثر في الإفراد. يتبنى البشر في أكثر الأوقات طرائق عمل هي نفسها طرائق الآخرين لأنه ينظر إليها بأنها طبيعية، و يشعر الفرد و هو يقوم بذلك بأنه يتصرف من ذاته من حيث أن التصرف مثل الناس جميعا لا يجعله يفسر ذلك على أنه نتيجة تأثير و يكون لديه وعي بأنه يتصرف من تلقاء نفسه، لكنه في الواقع يستبطن طريقة تصرف يقبلها الوسط الذي يعيش فيه. هكذا فهو تحت تأثير القواعد التي تمارس عليه بعد أن يتبناها و تصبح قواعده. هذا التبني للقواعد الاجتماعية ليس له من هدف سوى قبول الشخص اجتماعيا داخل المجتمع، و إلا تم الحكم عليه بعدم مسايرة المظهر الذي تواضعت عليه الجماعة. فعملية الامتثال التي تهدف إلى تبني موقف الآخر، أو بمعنى آخر التأثير المعياري، إنما هي سعي الشخص إلى الحصول على ثقة الآخرين من أجل قبوله. و عليه، فالتأثير ظاهرة ملازمة للتفاعلات الاجتماعية
لا يتوقف التأثير المعياري عند مظهر اللباس و حسب، و إنما يتجاوز ذلك إلى السكن. إن الأفراد الذين يخضعون لرأي جماعة الضغط، يعدلون أحكامهم الفردية و يكون لديهم ميل إلى الامتثال لرأي الأكثرية. ثمة مثل يردده المغاربة: “افعل ما يفعله جارك أو ارحل عنه”. يقوم الضغط إذا على صيغة آمرة تجعل المغربي يضع نصب عينيه موقف الآخر، معدلا بذلك موقفه الخاص به، و ممتثلا لرأي الآخرين. و لما كانت قيمة الضيافة من أهم القيم الاجتماعية عند المغربي، فإن تشييد البيت، على سبيل المثال، يخضع لمواصفات خاصة تعزز حسن الاستقبال، و إبداء الكرم من قبل صاحب البيت، و تحسيس الضيف بمكانته الرفيعة. في هندسة البيت، تحتل قاعة الاستقبال حيزا أكبر بكثير من الغرف الأخرى. كما أن تأثيثها عادة ما يستلزم صرف مبالغ مالية هامة على حساب تأثيث الغرف الأخرى ليس بغية منفعة مادية بقدر ما هي استثمار رمزي. و هو استثمار من أجل التباهي؛ و إثبات الذات داخل مجتمع يحكمه منطق الاستهلاك، كما أن قيمة الفرد لا تتحقق قيمة إلا داخل ثقافة المظاهر الاجتماعية الخادعة، التي تعلي من قيمة المظهر الخارجي على حساب المستوى الفكري للفرد. في ذلك يقول باسكال “ليس الاتحاد الذي بين البشر غير قائم إلا على هذا الخداع المتبادل”. فالذات بطبيعتها تحب سماع ما ترغب في سماعه، و لذلك تم استبدال عبارة ” النفاق الاجتماعي” بالمجاملة
إن مصدر التميز هو التنافس. و هو تنافس من أجل تحقيق الذات من جهة، و من أجل جذب الآخر إلى الاهتمام بها. نرى ذلك، مثلا، في الحفلات كأحد المظاهر الاجتماعية التي تشكل للمرأة مناسبة بالغة الأهمية ليس للتظاهر و التميز بين النساء الأخريات، و إنما لإغاظتهن. فالإنسان يبحث عبر الامتثال إلى التشبه بمن تبدو مواقفهم محط تقدير و من ثمة إلى الاندماج الاجتماعي. هكذا تجد الذات نفسها داخل أطر مرجعية تحدد سلوكها و تصرفاتها. و هي أطر مرجعية منغرسة في اللاوعي الجمعي. إذ أن الذات لا تسعى إلى الاعتراف بها و حسب، و إنما هدفها هو الوجود. يقول هوجو: “إن الحيوان يعيش بينما الإنسان يوجد.” الوجود، إذا، أكبر و أهم من العيش. و إثباته لا يتحقق إلا بالآخر. قد يصل التنافس أحيانا إلى حد إسراف البعض في اقتناء ما لا طاقة لهم به، و عنه تترتب آثار مادية و معنوية. يقول سارتر: “إن الكرم، كما البخل أو العنصرية ليس سوى بلسم مفرز للشفاء من جراح داخلية و لا ينتهي إلا بتسميمنا.” من ثمة فالصراع من أجل الوجود لا يعني إزاحة الآخر في سبيل بقاء الذات على قيد الحياة، و إنما من أجل الحرص على بقاء هذا الآخر الذي في قوة وجوده وجود للذات
من هنا يمكن القول إن الحفلات إنما هي ولائم تنافسية تمثل مظهرا من مظاهر الرغبة في لفت الانتباه و في الاعتراف، و من ثم الحصول على مكانة رفيعة داخل الجماعة كما سنرى بعد ذلك. لعل سبب هذا التنافس هو غياب المساواة بين أفراد المجتمع و طبقاته الاجتماعية (لا نعني هنا الطبقة بالمفهوم الماركسي، من حيث أن المجتمع العربي بصفة عامة لم يعرف مفهوم الطبقية كما ساد في الغرب). كما أن هذه الحفلات مناسبة لرد هدايا أفضل من التي قدمها صاحب(ة) الحفلة في مناسبة سابقة. فالمغربي، و إن كان لا يبدي ذلك، يأنف أو يمج أخذ هدية تعادل هديته السابقة. نجدنا، إذا، أمام تبادل ودي لا يعد شكلا من أشكال التبادل الاقتصادي و إنما يشكل إحدى القيم الجوهرية في الثقافة المغربية، و هي قيمة الكرم أو السخاء. فما تستضمره مثل هذه المناسبات ليس الكرم في حد ذاته من جانب المضيف و الضيف، و إنما هو نوع من الاستهلاك الاستعراضي من أجل إذهال المنافسين من كلا الطرفين. هذا الكرم الذي يصل حد الإفراط و المبالغة، بما هما سمتان لصيقتان بالمغربي، يجلو حساسية هذا الأخير الشديدة تجاه الإطراء. ذلك أن المكافأة التي يهدف إليها من خلال الإسراف المادي، مكافأة معنوية
(يتبع)