…الإنسان بين الإبتلاء وإثبات الذات
…نماذج من عطاءات إنسانية
بقلم: الأستاذة سعيدة أملآح
الاختلاف ظاهرة كونية والثنايات تلمس الأشياء أو ظواهرها والتأرجح بين النقيضين والمتناقضين لا يعني إقصاء أحدهما ، فلكل دوره فلا مخلوق وجد عبثا ، إنما لحكمة يرتضيها ربك حتى أن الجمادات والحيوانات، بل أولئك الفاقدين للأهلية هم محطة اختبار للعقلاء في تحملهم للمسؤولية المنوطة بهم ، والاعتراف بإنسانية الإنسان في التربية على حقوق جميع الكائنات انه كون متناسق في اختلافه يبرز قيمة الأشياء كما أن الحق والواجب هما وجهان لعملة واحدة
فالكل يتمتع بحق الحياة والاعتراف بدوره فيها ، ومن ثمة فالكائن المختلف في الدائرة المجتمعية يجب الاعتراف بحقوقه كاملة ليصبح كائنا فاعلا منتجا ، وكل ذي احتياج خاص في ترقيه هو خلاص للمجتمع من الجهل بكافة أشكاله ، ومن التخلف المركب ، ومن مزالق سلوكية كالتهميش والاقصاء حتى يغدو المعني بالأمر قادرا على إثبات الذات ، وعلى صياغة الرؤى القائمة على احترام الغير والايمان بطاقاته، وإخراج الآخر من دائرة الانطواء والنأي عن الآخرين ، وقد أثبت الإنسان ذاته وحصل على الاعتراف الاجتماعي في أحلك الظروف ومع مختلف ضروب المعاناة . فهو المالك لدماغ عالي التطور ولديه القدرة على التفكير المجرد والنطق واستخدام اللغة ، والتفكير الداخلي ، وإيجاد حلول للصعاب التي تعترضه ، وبذلك فهو مميز عن باقي المخلوقات
و”الإنسان” كلمة تطلق على مختلف الكائنات البشرية من رجال ونساء وأطفال . وتعود هذه الكلمة في أصلها عند العرب إلى معنى الظهور ، فالإنس عكس الجن في ارتباطهم بالخفاء . كما قيل انها من النسيان ، كما ورد عند ابن منظور ، فإن ابن عباس -رضي الله عنهما- ، قال [ إنما سمي الإنسان إنسانا لأنه عَهِدَ اليه فَنَسِي ] وقد اتفق على لفظ إنسان كمصطلح في القرن الثامن الميلادي ، ويعرف بأنه الرئيسيات الحاملة للثقافة كعاقل مُناط بالتكليف
وإن حارت الفلسفات بين تعريفات عدة له ، فهو حيوان ناطق بمعنى أنه جسم نام حساس متحرك بالإرادة وعاقل بالتشخيص مقابل التمييز ، وهو أصالة الأشياء وماهيتها ، وقد كرمه الخالق عز وجل [ وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ] إلى قوله تعالى [وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين ] – سورة البقرة – . وقد أثبت الإنسان أنه كائن اجتماعي يتأثر ويؤثر ، وكائن سياسي يؤمن بقضية ما ، كما أنه كائن متدين له مبدأ يرتقي بالإيمان، و الإيمان يفترض الوثوقية التي يجمعها خيط ناظم بين الصبروالرضا بقضاء الله وقدره وبأن الاختيار الإلهي هو الخير كله وبأن التكليف الإلهي ارتبط بالتجريب ولنا في سير الأنبياء والرسل أكبر مثال . وقد سئل الأمام الشافعي رحمه الله : “أندعو الله بالتمكين ام بالابتلاء “. فأجاب : ” لن تتمكن قبل أن تبتلى” . والابتلاء لغة هو الاختيار ، أما اصطلاحا فهو التكليف بأمر شاق لتظهر حقيقة الإنسان ، ويطفوا جوهره . وفي سورة الفجر يقول تعالى [ فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعَّمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن] والابتلاء لا يصمد أمامه إلا الخُلًَص وبذلك صارت تصورات المبتلين أرجح من شهادة الحس عند غيرهم ، وأصبح صوت السريرة أعلى من هدير السنين
وإذا انطلقنا من كون الابتلاء هو الاختيار المفضي إلى لحظة الاختيار ، وإذا صح إيراد هذه العلاقة انطلاقا من المادة الصوتية ودلالاتها المعجمية المختلفة لقاربنا الدلالة على المعاناة ، انطلاقا من تمرين لفظي في افتراض العرب أن السفر يبلي الناقة فتشد إلى قبر صاحبها لا تعلق ولا تسقى حتى تنتهي
وقد تكون للردع [ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس] إعطاء فسحة للمراجعة والتوبة . كما يكون بشير رفع في نحو قوله تعالى [فإذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ] لاختيار الوثوقية وقوة الصبر . أو تقع في نحو قوله تعالى : [ولنبلونكم بشيء من الخوف…] لبيان قدراته وقد تكون كشفا لأهل الكمال كالأنبياء والرسل
وضروب الابتلاء لا يمكن حصرها لتنوعها فكل ما يشكل خروجا عن المألوف يمكنإدراجها في نسب الابتلاء انطلاقا من عدم قدرة الفرد على تفعيل الوظائف العقلية أو الذهنية أو الجسدية . الأمر الذي يؤدي إلى تعطيل أدائه المهاري أو التأثير على النشاط البدني، أو العضلات العصبية ، أو الإعاقة التعليمية ، أو التواصلية ، أو الهشاشة المادية ومن هنا تأتي فرضية مفادها هل تجاوز الابتلاء مسألة فردية أم أنها خاضعة لشروط مجتمعية ومسؤولية اجتماعية
ويمكن لمس هذه المسؤولية الاجتماعية في ما ذكره العالم الشهير ” ستيفن هوكنج ” في مقدمة كتابه ( تاريخ موجز للزمان من الانفجار الكبير حتى الثقوب السوداء ” ، بأنه بصرف النظر عما كفاه من سوء الحظ لإصابته بضمور العضلات وبالتليف الجانبي أو مرض العصبية الحركية ، فإنه لمحظوظ
من كل وجهة تقريبا فيما تلقاه من عون وسند من زوجته وأطفاله، مما مكنه من العيش حياة طبيعية إلى حد ما ، ولكي ينجح في عمله أي اختيار الفيزياء النظرية التي تدور في الذهن ، ولم يكن عجزه معوقا خطيرا ، ومساعدة زملائه العلميين بلا استثناء ، تلقى أعظم مساعدة ومن طلبته العون الكبير ، خاصة بعد أن فقد القدرة على النطق جراء شق حنجرته خاصة بعد تسخير برنامج اتصالات يسمى المركز الحي الذي بواسطته يقوم بقراءة الكتب والأوراق البحثة . فكان لهذا النظام كل الفارق وأصبح يتواصل مع الآخرين بشكل أفضل مما كان عليه قبل فقد صوته . وقد قال عن إنجازاته: ما كان يمكن إنجاز أي شيء من دون الدعم المقدم لبحثي ونفقاتي العلاجية التي نكلف بها كل من كلية ” جونفيل ” و ” كانبوس ” و ” مجلس البحوث العلمية والهندسية ” وإنني لجد ممتن لهم جميعا
ومن ثمة يمكن التأكيد على دور المجتمع في الحماية والاعتراف بالقدرات والكفاءات الإنسانية المساهمة في التنمية البشرية ، هذا العالم الفيزيائي المعاصر والذي عنونت به هذه الاسهامات تأكيد على أن النفائس مزيج من قدرة الإنسان الفردية وعناية المجتمع
فهذا العالم حبيس المقعد والمرض سافر عبر الزمن وتحدث عن الثقوب السوداء وتطوير الكون اللامحدود كطاقته ، وانطلق من سجن المعاناة عبر كتابه الذي ترجم إلى أربعين لغة وهو “ كتاب تاريخ مختصر للوقت ” ، باسطا المفاهيم المعقدة في الفيزياء، مؤكدا دوره المجتمعي كداعية للحلم والسلام العالميين ، فاعلا حقوقيا في اهتمامه بحقوق الأطفال، مساهما في تشكيل أفق مستقبلي لنساء ورجال الغد . ويبقى هو رمزا للذكاء الاستثنائي الذي يمكن تسميته بذكاء النفس والروح ، وفاعلا سياسيا في مشاركته في مظاهرة ضد الحرب على العراق ، ورفض المشاركة في مؤتمر ضد الشعب الفلسطيني وهنا يمكن القول بأهمية دراسة الجزئيات الحيثيات التي يتمتع بها المجتمع استشهادا بحركة التاريخ والواقع ومحاولة التجاوز . فالكائن البشري في ظل شروط مجتمعية بين الإيجاب والسلب يتقرر مصيره في إبراز قدرته وكفاءته وبيان اسهاماته ، وتأسيسا على ذلك فأولئك الذين اثروا التاريخ رغم ابتلائهم بعطاءاتهم الهائلة أكدوا عبر عناوين تاريخية بارزة أن الفكر الانساني لن تجهضه المعاناة ، فكلما زادت النار شدة ، اشتد معها اللمعان
فقضية كل فرد مسؤولية مجتمعية ، وهنا يكمن دور الوعي المجتمعي في رفع فاعلية ومشاركة كل طاقاته ، وفي تحريك بركانه الخامد وتجاوز التهميش أو الاقصاء لإبراز الصحوة الإنسانية . ولعل الراصد للمنعطفات والتحولات الكبرى في الفكر الانساني ، سيلاحظ بروز هذه المسؤولية لاستقصاء جذور الأزمة ، حيث تتحول الأزمة إلى تحد يحب الاستجابة ولأن المجتمع بؤرة لا تنشطر، فإن انتكاسة الأمم رهينة بتغييب جزء منها
والتراث الإنساني حافل بعطاءات ذوي الاحتياجات الخاصة الذين أسسوا امجادا وهم يعانون الابتلاء محاولين إثبات الذات . ولن نبتعد كثيرا لنقف عند نموذج عاش العبقرية والشدود الذهني ، وترجم آلام السجن ومعاناة المرض النفسي إلى دراسة لترات الشرق الفكري والروحي انه ” عزار باوند ” المثقل بثمار ثقافة فنية وتاريخها ضخم ، وهو الشاعر الغني بالرمز ، المثير للذهن ، الباعث على الفضول التاريخي والشغب الثقافي المنطلق من اللاوعي ومن كون الفضول العقلي هو سر حيوية الذهن البشري
وكذلك نقف عند سر من أسرار هذه الحيوية الذهنية في تجاوز الانكسار عند “جيبون ” الذي طغت عليه طائفة من العلل والاسقام مع ملامح غريبة ورأس كبير ودقن مركب ، فكان مختلفا شكلا وفطنة وابداعا . تَرَفَّع عن نظرة المجتمع المشدوهة وعجزه الجسدي وغَيب المعاناة واحتفى بكونه مختلفا فأنتج مؤلفا غاية في الأهمية حول سقوط الإمبراطورية الرومانية ، وهو كتاب ضخم تجاوزت صفحاته الآلاف ، خلص فيه إلى تشبيه النظم السياسية والدول بالبينة الحية ، وهو مؤلف عميق وصادم ومن خير المؤلفات التاريخية على الإطلاق