“قراءة في “مستقبل اللغة العربية لجبران خليل جبران

“قراءة في “مستقبل اللغة العربية لجبران خليل جبران
الصورة عن موقع: موضوع

                               …الغرب صديق وعدو لنا

                       بقلم: الأستاذ المختار عنقا الادريسي                                                                                                        

ونحن نعيش الإحتفال باليوم العالمي للغة العربية، يتبادر إلى أذهاننا سؤل قد يكون مستفزا حول اللغة العربية واستمرارية (ثقل الماضي بكثافته ) في حياتها المعاصرة وعن الوعي اللغوي في العالم العربي ، وكيف يمكن تطويره حتى يخدم أمتنا العربية حاضرا ومستقبلا ، مستهلين محطتنا هذه بالتوقف عند ما كتبه جبران خليل جبران ، في نهاية القرن التاسع عشر عن مستقبل اللغة العربية ، وهي تتراوح جيئة وذهابا بين الجمود و الانغماس في الماضي من جهة ، والحيوية والدينامية التي ميزت تلك المرحلة من جهة أخرى

لقد انطلق خليل جبران في حديثه عن مستقبل اللغة العربية بتعصب شديد ، فرأى بأنها مظهر لقوة الابتكار، وهو ما أكده  عندما قال في حوار*  أجرته معه مجلة الهلال المصرية في بداية القرن التاسع عشر حول “مستقبل اللغة العربية” ، على أنها  ” مظهر من مظاهر قوة الابتكار في مجموع الأمة (… ) فإذا هجعت قوة الابتكار ، توقفت اللغة عن مسيرها ، وفي الوقوف التقهقر، وفي التقهقر الموت والاندثار ” . ويُستنتج من حواره ذاك أن ” جدلية اللغة والفكرقائمة دائما ، وأنه لا يمكن بحال من الأحوال تجاهلها أو تجاوزها، مضيفا أن ” مستقبلها يتوقف على مستقبل الفكر المبدع ، الكائن في مجموع الأمم التي تتكلمها ، فإذا كان ذلك الفكر موجودا ، كان مستقبل اللغة عظيما كماضيها، وإن كان غير ذلك فمستقبلها سيكون كحاضر شقيقتيها السريانية والعبرانية
أما عن القوة التي يدعوها بقوة الابتكار فهو يرى أنها : ” في الأمة عزم دافع إلى الأمام ، في قلبها جوع وعطش وشوق إلى غير المعروف ، وفي روحها سلسلة أحلام تسعى إلى تحقيقها ليلا ونهارا ، ولكنًها لا تحقق حلقة من أحد طرفيها إلا بإضافة حلقة جديدة في الطرف الأخر . فهي في الأفراد النبوغ ،  وفي الجماعة الحماسة ، وما النبوغ في الأفراد سوى المقدرة على وضع ميول الجماعة الخفية في أشكال ظاهرة محسوسة
وفي حديثه عن المستقبل الذي ينتظر هذه اللغة ، فإنه حذر من تلاشي وخمود الابتكار ، فبعد أن كان الشاعر – قديما – يتصاعد إبداعه ويتلون فيظهر” أَناً كفيلسوف ، وآونة كطبيب و أخرى كفلكي” فإنه مع غياب هذه القوة وانطفاء شعلتها سيتحول كل ” الشعراء إلى ناظمين ، والفلاسفة إلى كلاميين ، والأطباء إلى دجّالين ، والفلكيون إلى منجمين ” ومع كل ذلك ستصبح اللغة مجرد رداء تاريخي أثري مغرق في القدم، مكانها الجمود المَتْحَفِي، وفي إطار حديثه عن الترابط العلائقي مابين المَدَنِية واللغة ، فهو ينطلق من مفهوم خاص يتسم بسمات بيولوجية ، وسوسيولوجية فكرية متميزة وتأسيسا عليه ، يرى بأن تأثير التمدين الاوربي والروح الغربية ، يبقيا بمثابة الطعام للانسان ، والماء للشجر ، كل منهما يأخذ منه ما هو نافع له ويطرد الباقي ، الأمر الذي يتوقف على سلامة الجهاز الهضمي وطريقة التناول . أما إذا كانت اللغة العربية ” بدون أضراس تقضم ولا معدة تهضم ، فالطعام يذهب سُدًى بل ينقلب سمًّا قاتلا (…) ومن له يُعط ويُزداد ، ومن ليس له يؤخد منه ” . ثم يضيف قائلا بأن حياة الإنسان هي موكب سائر نحو الأمام يتأثر فيها ، ويؤثر في مختلف مكوناتها ، مستهديا بقوة الابتكار” فالأمم التي تسير في مقدمة هذا الموكب هي المبتكرة والمبتكر مؤثر ، والأمم التي تمشي في مؤخرته هي المقلدة والمقلد يتأثر (…) وأمسينا نحن اللاحقين،  فصارت مدَنيتهم بحكم الطبع ذات تأثير عظيم في لغتنا وأفكارنا وأخلاقنا “
ويضيف مفرقا بين التطورالأوروبي القائم على التأثر بمختلف علومنا و تنوع ثقافتنا ، وبين تعثرنا في استلهام علوم الغرب وتقليدها بعيدا عن كل ابتكار أو استيعاب حي خلاق ، ويقول أن:  الغربيين كانوا في الماضي يتناولون مانطبخه فيمضغونه ويبتلعونه محولين الصالح منه إلى كيانهم الغربي أما الشرقيون – وهي إشارة منه إلى الدول العربية قاطبة – في الوقت الحاضر،  فيتناولون ما يطبخه الغربيون ويبتلعونه،  ولكنه لا يتحول إلى كيانهم بل يحوِّلهم إلى شبه غربيين،  وهي حالة أخشاها وأتبرّم منها،  لأنها تبين لي الشرق تارة كعجوز فقد أضراسه وطورا كطفل بدون أضراس 

والارتباط بالماضي أو السجن فيه ، لم يبق محصورا على جبران خليل جبران وحده ، بل هو مجال خاض فيه العديد من المفكرين العرب أمثال : طه حسين ومحمد عابد الجابري وأدونيس ، وغيرهم كثير . فجميعهم يدعون إلى أعمال العقل وتفعيله في الحاضر . الأمر الذي نستشف منه أن اللغة العربية تبقى في أمس الحاجة إلى التجديد ، ليس فقط في قواعدها وكلماتها بل حتى في كيفية استخدامها 
ويبقى لجبران موقف واضح وصريح يستمده من وطنيته وعروبته الصادقة، فهو عدو كل تقليد أو انهيار أو انكماش أو أي نسخ أعمى ، ومقابل ذلك فهو منحاز إلى التجديد و داعي إلى الخلق واستلهام ما وصل إليه الغرب ، دون أي انمحاء للشخصية العربية أو ما يعبر عنه ب ( التغريب ) . ثم يزيد قائلا ، وبشكل استباقي عن كل تحليل سياسي ، تدعمه وقائع الحياة ومجرياتها ، بأن  روح الغرب صديق وعدو لنا،  صديق إذا تمكنا منه، وعدو إذا تمكن منا . صديق إذا فتحنا له قلوبنا وعدو إذا وضعنا نفوسنا في الحالة التي توافقه
وفي إطار حديثه عن الوسائل الكفيلة باحياء اللغة العربية ، يرى بأن الوسيلة الوحيدة لأحياءها هي” في قلب الشاعر وعلى شفتيه وبين أصابعه ، فالشاعر هو الوسيط بين قوة الابتكار والبشر ، وهو السلك الذي ينقل ما يُحدثه عالم النفس إلى عالم البحث ، وما يقرره عالم الفكر إلى عالم الحفظ والتدوين ” . وهو هنا يعني بالشاعر ” كل مخترع كبيرا كان أو صغيرا ، وكل مكتشف قويا كان أو ضعيفا ، وكل مختلق عظيما كان أو حقيرا ، وكل محب للحياة المجردة إماما كان أو صعلوكا ، وكل من يقف متهيبا أمام الأيام والليالي فيلسوفا كان أو ناطورا للكروم ” . وفي مقابل ذلك فإن المقلد عنده هو: ” الذي لا يكتشف شيئا ولا يختلق أمرا، بل يستمد حياته النفسية من معاصريه ، ويصنع أثوابه المعنوية من رقع يجزها من أثواب من تقدًَمه “

ثم يضيف قائلا ” تكلمت عن المستنبط ونفعه والعقيم وضرره ولم اذكر أولئك الذين يصرفون حياتهم بوضع القواميس وتأليف المطولات وتشكيل المجامع اللغوية ، لم أقل كلمة عن هؤلاء لاعتقادي بانهم كالشاطيء بين مدِّ اللغة وجزرها وأن وظيفتهم لا تتعدّى حدًّ الغربلة. والغربلة وظيفة حسنة ولكن ما عسى يغربل المغربلون اذا كانت قوة الابتكار في اللغة لا تزرع غير الزوان ولا تحصد إلا الهشيم”
ورأيه هذا يحيلنا إلى التوقف مليا عند الخلاصات التي انتهى إليها المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية بمدينة جدة المنعقد في السادس من شهر نوفمبر لهذه السنة احتفاء بصدور معجم ( الغني الزاهر) للمعجمي المغربي الاستاذ عبد الغني أبو العزم ، والذي يقول : ” لقد كنت دوما أعتبر المعجم خزان للغة ، والاداة المتحكمة في تطويرها ، كما أنه ديوانها ، يُدَوِّن طبيعة الكلمات ويسجل حركاتها وأنواعها بكل انتماءاتها النحوية ، وما يتعلق بالمعلومات الخاصة بها ، على مستوى الدلالة والقيم التعبيرية ، وأنماط الاستعمال ، على مستوى الخط والصوت والانتساب الايتيمولوجي ، وعلى مستوى الدلالة والقيم التعبيرية وانماط الاستعمال ، وعلى مستوى التخصص العلمي بكل فروعه . بالإضافة إلى اللغة والادب وتكون بنية المعجم الثلاثية مكتملة عندما ينفتح على مادة العلوم بمختلف لغاتها ومصطلحاتها “
وهو بذلك يذهب إلى ما لم يذهب اليه خليل جبران ، عند حديثه عن المعاجم ، فيقف موقفا ايجابيا من أهمية المعاجم زاعما بأن المكتبة العربية في أمس الحاجة إليها لكي تسهم في تفسيرمايشمله الخطاب الأدبي من مفاهيم ومصطلحات ، فهي الأداة العلمية الكفيلة بتطوير اللغة ويمضي على هذا النحو قائلا بأننا وفي ظل كل المستجدات والمستحدثات نحتاج الى “معجم حديث ، بالمواصفات المعجمية التي يتطلبها كل خطاب معجماتي في ضوء الأسس الحدثية للمعجماتية ” ويضيف قائلا بضرورة إعطاء ” الخطاب المعجماتي وجاهته ، لغة وادبا ومعرفة ، ويفترض أن نحيط بأسرار اللغة العربية قديمها ومحدثها وكل بدعة في هذا الصدد ليست ضلالة ، ويمكن القول بأن غياب المعجم المبتكر وغير المستوعب لطبيعة اللغة المتجددة يجعل الخطاب المعجماتي فاقدا لكل دلالاته ومراميه “
وختاما لا يسعنا الا أن نقول بما جاء في رسالة ( العفيف الأخضر) بأن المعاجم الكاملة والدقيقة. “جعل لساننا تائها في برج بابل حقيقي. فالمصطلح الاوروبي يترجم بأربعة مصطلحات عربية او اكثر ، غالبا ما تكون تقريبية أو خاطئة ، و أن لذلك  أكثر من سبب ، يأتي في طليعتها تسليع الثقافة أي تفكيك المعرفة الى سلعة تحكمها قوانين السوق ، الربح اولا والربح أخيرا ، بدلا من قوانين الابداع الحقيقية قبل كل شيء ”  وعطفا على كل ما تقدم فانا نرى ضرورة الدعوة لتحرير وتحرر اللغة من قيود المجتمع والسلطة والاديولوجية ، وتشجيع البحث والابتكار في مختلف المجالات ، ولان تطويرها بما يضمن الحفاظ على هويتنا الثقافية هو الكفيل بضمان البقاء والازدهار في عالم سريع التحرك ودائم الغيير والتغير ، كما أنه الضامن لتجاوز معيقات الاقلاع من القدامة الى الحداثة وما بعدها ، على حد تعبير العفيف الأخضر . كل هذا في وقت حان فيه النظر للحاضر وادواته والعلوم واحقيتها والتفكير الخلاق الذي يحترم البشر وما يتشابهون فيه وما يختلفون ، على تنوع خلفياتهم واديولوجياتهم وحواراتهم للوصول إلى نتائج تجعل الحاضر يرتقي ويٌرْتَقى به وبنا 
                                                                                                                                                                                                    
:من المعتمدات المستند إليها نورد مايلي
 مستقبل اللغة العربية . لجبران خليل جبران –
* اللغة العربية في وعينا –
عاطف شاكر – وكالة عمون الاخبارية –
هل إصلاح العربية ضروري وممكن . العفيف الأخضر – أنفاس .نيت –
 رسالة من العفيف الأخضر لحسونة المصباحي – ايلاف –
 جريدة الاتحاد الاشتراكي ع : 13627 ليوم 20 ديسمبر 2023 –

 الورقة التي نشرتها مجلة الهلال المصرية في إطار حوار أجرته مع جبران خليل جبران منذ مائة سنة خلت *

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com