في القنطرة جلجلة
-6-في القنطرة جلجلة : الجزء السادس
شعر متروي بالخوف هذه المرة. ما معنى يجب التخلص منه؟ لم يقترف إثما أو جريمة. بالعكس، غادر تافراوت لتجنب وقوع جريمة. وما حكاية قارئة الفنجان؟ أخبر متروي رائد أن مصطفى وجه له نفس الإنذار ونصحه بتوخي الحذر. التحقيقات لم تتقدم كثيرا. الرفاق حائرون. لم يكتب لعبد الحليم أن يغنيها على المسرح. من تكون حبيبته؟ أه الحب؟ تكتشف حكايا رائعة وغريبة ومحزنة ومدهشة عندما يغادر أبطالها الدنيا. لم يخجل الناس من الحب؟ لم تملأ المساجد والمعابد والكنائس بناس أخذ الشيب منهم مأخذا، وهم يتورعون، ويتنكرون للحب الذي جمعهم بمن أحبوا إلى حد الجنون، وكأن ما عاشوه كان خطيئة وإثما جللا؟ ومن ستكون قارئة فنجانه هو، متروي؟
:أخرج المفكرة السوداء وكتب
“هل تكون هذه المفكرة السوداء طريقة عبوري إلى الضفة الأخرى، كما فعل نزار مع عبد الحليم؟ هل لأني تخلصت من المفكرة البنية، سأعلن انهزامي لأني جعلت كلتا المفكرتين يتيمتين، وسيتخفي المداد منهما بلونيه الأسود والأخضر؟ هل يعجل تواجدي بالقنطرة بطوفان كان يتهيأ في الباطن منذ عقود؟ وهذه الروائح المنبعثة من سوق الدجاج، ومن أنابيب الصرف الصحي التي تعج ببقايا أعضاء حيونات ذبحت في المجزرة البلدية ولم تنظف بالشكل الأمثل؟ هل سأموت غبيا، كما ولدت غبيا، وغريبا وإن لم أكن غريبا أصلا؟ آه الحب؟ لقد سئمت الانتظار يا انتظار! وقد أعبر قبل أن أعترف لك بأنني أخطأت التقدير في كل شيء. أنا الذي لبست خرقا كثيرة، ولم يكن تصوفي سوى تهيؤات، لأنني أرغمت على حفظ سلسلة روحية لم أكن أهلا لها ولا صرت مقياسا لها. أفهمك الآن يا جدي… أفهم كم هو قاس أن توضع في بوثقة لا ناقة ولا جمل لك فيها… أفهم أن الأعراف والتقاليد تكبل الحرية التي ينشدها كل شخص له عقل وضمير… أفهم أن كبريائي المفخخ أوقعني في مهزلة العصر…أفهم أن الأرض والتراب والأديم والغبار أجزاء من حياتنا البئيسة حتى ولم لمع بعض النورفيها وهي تنقل جراثيم تلوث الأكسجين الذي نتنفسه للاستمرار… في المعاناة. وماذا بعد؟ هل ستحقق نبوءة المتشرد وأنتهي في أعماق شبه قشدة؟”
بعد معاناة طويلة، حققت التحقيقات اختراقا نسبيا. وكانت الخلاصة، هي أن متروي متواجد في كل ركن من أركان القضية. قررالعميد مجدي أستدعاءه والتحقيق معه بصرامة هذه المرة. ولكن قبل ذلك، اقترحت المفتشة إلهام أن يتزامن استدعاؤه مع استدعاء كل المعنيين بقضية القتل والاختفاء والتستر والمشاركة في عمليات تمويه، وكذا، ولأول مرة، انتظار. وكما كان منتظرا، حضيت القضية باهتمام الرأي العام المحلي، ولم تشبها، لمدة قصيرة، سوى أحداث ملعب ‘رادس’ في تونس العاصمة، الذي شهد فضيحة من العيار الثقيل، حيث تم تعطيل تقنية الفيديو المساعد للحكم ‘الڤار’ عن قصد، فورتسجيل هدف التعادل من قبل الوداد، مما كان سيعقد أمور الفريق المستقبل. وقد عمدت يد مجهولة إلى ذلك، حسب بعض المعلقين الرياضيين، من أجل ترجيح كفة الترجي التونسي للفوز على حساب نادي الوداد المغربي في نهاية عصبة الأبطال للفرق البطلة لأسباب قيل إنها بعيدة عن الرياضة. كان بإمكان الفريق التونسي الفوز بطريقة نزيهة، لأنه كان الأفضل في الميدان، كما أن المقابلة لم تكن قد انتهت بعد. وجهة النظر هذه رفضها الجانب التونسي جملة وتفصيلا بعد أن أوقف الحكم المقابلة قبل وقتها النهائي
كما تقرر، استدعى العميد مجدي كل المعنيين بالقضية، الذين فضل بعضهم أن يرافقه محاميه. وظهر المحامون في مزاج مرح، لأن القضية أصبحت مادة دسمة للصحافة، وتفنن كل محام في تنميق الكلمات، وكأنه في حملة انتخابية. وكان من بين المحامين محام يتقمص أدوارا عديدة حسب الطلب، وعرف عنه لسانه الطويل في تفكيك حجج الخصوم. ورغم أن العميد مجدي أمر بإبعاد الصحافة عن مخفر الشرطة، إلا أن صحفيين، بنوع من الذكاء والحظ، تمكنوا من ملء جنبات البناية. كما كان هم العميد مجدي الأول، هو استجواب انتظار، التي أتت قبل الوقت بقليل، وأظهرت رباطة جأش فريدة، حيث اصطحبت معها رواية بالأمازيغية، وبدأت في قراءتها دون الانتباه إلى أحد
ـــ السيدة انتظار، صباح الخير، بادرها مجدي، الذي كان، كالعادة، بمعية إلهام ومترجي
ـــ صباح الخير، سيدي العميد
ـــ أنت تعلمين لماذا أنت هنا؟
…ـ إن لم أكن، فسوف
ـــ المهم هو أن شكوكا قوية تحوم حول حادثة السير التي توفي فيها المرحوم زوجك السابق، مضياف. والحمد لله أنك نجوت وكتب لك عمر جديد
ـــ وأنا أشاطرك نفس الشكوك
ـــ من تظنين يكون قد دبر الحادثة؟
ـــ السيد مفيد
ـــ وقد يكون شخص آخر؟
ـــ تقصد السيد مستتر؟ هذا شخص عبثي وساذج، ويمكن التلاعب به بسهولة
ـــ ربما، ولكن يمكن أن يكون أي شخص آخر، من أقارب زوجك الأول، محمد
!ـــ هذا أغبى استنتاج يمكن أن يصدرعن إنسان ذكي مثلك، سيدي العميد. ومعذرة على الوصف
ـــ لا يهم؛ ولكن ذلك وارد
ـــ لماذا؟
ـــ كنت حاملا، أليس كذلك؟ سمعة محمد، الذي أنكر أن يكون عاجزا عن الإنجاب… أنت تعلمين.. التقاليد.. النخو
ـــ كلام غير معقول
ـــ بالنسبة لنا كل شيء وارد. وحجتنا في ذلك، هو أنك كنت تعيشين مع أقارب له في المنطقة… كما أنك تجاوزته واشتغلت، ثم أنك تزوجت من مضياف، شاب ليس أحسن منه في شيء وسمعته ليست على النحو الذي يراه السكان
ـــ كما قلت لك، هذا استنتاج مبالغ فيه، وخاطئ من الأساس
ـــ وما حكاية الزواج العرفي أوما يرتبط به؟
ـــ أراد السيد مفيد أن “يفطر بِيَّا، تسَحِّرت به”، كما يقول المثل الشعبي
ـــ أنا أتكلم عن مستتر
ـــ أعرف. مستتر ليس سوى دمية. العقل المدبر لكل شيء هو مفيد
ـــ وما هو دافعه؟
ـــ الأرض. كان يريد أن يسترجع الأرض التي يدعي أن أباه فقدها بسبب تحايل عائلة زوجي مضياف
ـــ تحرياتنا تقول ذلك
ـــ تحرياتكم سوف تشعل النار في المنطقة كلها. أنا أعرف جيدا ما أعنيه. مشكل الأراضي السلالية لم يحل بعد رغم القانون الأخير، ورغم كونه قفزة كبرى من وجهة نظر البعض. ولا تحدثني عن مشكل الترامي على ملك الغير أو الملك العمومي
ـــ إذن، بالنسبة لك، كل شيء حلال ما دام أن هناك احتمال أن تنفجر الأوضاع إذا حاولت السلطات العمومية أو المشرع إصلاح الأمور وإنصاف الضحايا وأصحاب الحقوق. لعلمك يا سيدتي، نظرية التخويف تم تجاوزها
!ـــ أنا أتكلم عن واقع ليس إلا. وإذا كانت السلطات تتوفر على الإمكانيات والمشرع على الإرادة… مرحبا
ـــ لنعد إلى مستتر، ما هو تعليقك على قول العدل منتفع بوجود عقد ملحق لعقد الزواج العرفي يمكنك من بعض أملاك مستتر؟
ـــ منتفع، يتكلم كثيرا
ـــ وهل هذا صحيح؟
ـــ صحيح. وهل تظنني غبية؟ أعلم أنكم قمتم بالتحريات اللازمة
ـــ والآن؟
ـــ الآن، لا شيء. العقد قانوني
ـــ ألا تظنين أنك تحايلت عليه؟
ـــ نعم
ـــ وهل ستصححين الوضع؟
ـــ سوف أرى عندما يأخذ كل جزاءه
ـــ هل تعرفين شخصا إسمه متروي أو متردي؟
:وكأنها أصيبت بصاعقة، وقفت من مكانها، قبل أن تجلس، وهي تحاول استعادة السيطرة على الوضع. وبعد ثوان، أجابت
ـــ نعم، أعرف شخصا إسمه متردي. لماذا هذا السؤال؟
ـــ هذا الشخص مهم ويوجد من بين المعنيين بقضايا القنطرة
ـــ لا أظن أن متردي الذي أعرفه سيكون له أي دور في أي شيء على الإطلاق. إنه غارق في تصوفه وشطحاته الروحية بين الجبال
… ـــ متردي الذي أتحدث عنه من نفس منطقتك، نواحي تافراوت
ـــ لا يمكن
ـــ أنت ذكية جدا، يا سيدة انتظار. أنت تعرفين أنه موجود هنا. أنت متعلمة وتقرئين الجرائد وشغوفة بوسائط التواصل الاجتماعي، ولا أتصور أنك لم تسمعي عن رجل القنطرة الذي مثل في إنتاج سينمائي عالمي
ـــ شكرا على المديح، ولكني لا أظن أن متردي هو متردي
ـــ يعرف هنا باسم متروي، لمعلوماتك الخاصة. وهل تعرفين شخصا إسمه منتصر؟
ـــ منتصر، أخي الصغير
ـــ منذ متى وهل يعيش معك؟
ـــ إنه لا يعيش معي، هو مستقل بنفسه. لكنه يعيش في المنطقة منذ مدة طويلة، وينشط في مهرجان البولڤار بين الفينة والأخرى، ويعطي دروس في الإعلاميات، لأنه مهندس إعلاميات
ـــ نعم نعرف ذلك
ـــ وما علاقته بالقضية؟
ـــ إسألي مستتر. وهل تعرفين مناجي؟
ـــ نعم، إنه كان أستاذا في جامعة إبن زهر. وهو رجل متصوف أيضا
ـــ نعم متصوف جدا، لدرجة أنه كان مؤخرا من رواد المنطقة النشطين
ـــ لا أفهم
ـــ ستفهمين عندما تتم المواجهة. وقعي على المحضر
ـــ وسأبقى رهن إشارة الشرطة، أعرف الأسطوانة
ـــ لا تغادري المقر الآن، هذا ما أقصده، لأنني سأقوم بتنظيم مواجهة بين الجميع
ـــ على طريقة شارلوك هولمز
ـــ تماما
ضحكت انتظار، وخرجت لفناء المخفر، ثم فتحت الكتاب الذي كان معها وحاولت متابعة القراءة من الصفحة التي وقفت عندها. ولكنها لم تتمكن. لفها الشرود. هل كل ما قامت به، سيذهب أدراج الرياح؟
:وما أن خرجت، حتى بادر مجدي بسؤال مساعديه
ـــ ما رأيكما؟
ـــ ‘قرطاصة’، أجابت إلهام
ـــ ‘نفاثة’، أيدها مترجي
وانفجر الجميع بالضحك. انتظار كانت صاروخا بكل معنى الكلمة، وفهم الثلاثة الآن، لم يحاول الجميع إغراءها، رغم أنها تقترب من سن الأربعين. ليست الأرض أو حب التملك أو ما إلى ذلك… بل الظفر بها، لأنها كانت مثل القدر. كانت هي القدر. وقد ظل الثلاثة هائمين، وكأنهم نسوا أن بقية اشخاص القضية ينتظرون دورهم في الاستجواب في الخارج
(يتبع)