الشعر ليس بأحسن من النثر، والنثر لن يكون هو الشعر
رأي في حداثتنا الشعريّة
لم يبقَ ما هو حيّ اجتماعيّاً، من الحضارة الإسلاميّة ـ العربيّة التي اندثرت غير الدين والشعر. أمّا الدين، فقد جعله الأصوليّون السياسيّون مظهراً من مظاهر التخلّف والجمود تركيزاً على العاطفة لا العقل. وأمّا الشعر فما كان الحداثيّون الجدد ليجعلوه أحسن حالاً من المظهر الدينيّ. فلا اختلاف بين الفريقين المتشابهين بالفعل إلا في أنّ الأوّل يحاول أن يحاكي في عقيدته النصّ الدينيّ القديم والآخر يحاول أن يحاكي في قصيدته النصّ الغربيّ الجديد. فوجه الشبه واحد بينهما. هو محاكاة الأصوليِّ المثالَ الدينيّ السياسيّ، ومحاكاة الحداثيِّ المثالَ الشعريّ الغربي حيث يعتقد كلّ منهما أنّ مثاله هو الحقيقة المطلقة التي لا حقيقة بعدها ولا قبلها
وما من نقص في نصّ المعرفة الدينية ولا في نصّ المعرفة الغربيّة. إنّما النقص في انحراف الأصوليّ والحداثيّ عن فهم مايقرءان، وفي تقديس ما يفهمان. فهما سيّان في الرؤية لأن الحداثيّ الذي لا يرى من الشعر إلا الشكل النثريّ المقتبس من الثقافة الغربية، دون كلّ الأشكال الوزنيّة العربيّة الأخرى لهو لا يختلف مضمونيّاً عن الأصوليّ الذي لا يرى من الدين إلا المفهوم المقتبس من الشروح الأصوليّة السياسيّة دون كلّ المفاهيم الدينية الأخرى. إذنْ هما صنوان تديّناً ، وصنوان استبداداً أيضا إذ يلتقيان عند فكرة الإيمان بالمقدّس المطلق. وإِذ يُجمعان، كذلك، على إلغاء الآخر المختلف ــ سواء أكان نصّاً شعريّاً أم عقلاً بشريّاً ــ مؤكدينِ تبعيتينِ: تبعية الحداثيّ لثقافة خارجية علمانية غربيّة، وتبعية الأصوليّ لثقافة داخليّة دينيّة سياسية. وبين كلتا التبعيّتين نكص شعرنا المعاصر. وممّا زاد في نكوصه انكفاء أغلب النقد العربيّ إلى الصمت تهيبا، والمهادنة تكيّفاً
ولئن ظنّ ذوو الحداثة العربيّة ابتعادَهم عن تراثهم الشعريّ القديم يُقرّبهم من ذوي الحداثة الغربيّة، فانّهم واهمون كلّ الوهم لأن الشاعر الغربيّ لا يقيم شعره الجديد على نفي الشعر القديم والانقطاع عنه، وإنّما على إثباته والاتصال به؛ لإستكناه معطياته وقيمه، والانطلاق منهما لتجاوزهما وعياً وخَلقاً ونقدا حيث لاشعرحداثيّ في منظوره إلا ما تولّد من رحم الشعر القديم جديداً مختلفاً. ولعلّ تعمّق المفكّر العربيّ أدونيس في الثقافة الفرنسيّة هو ما جعله يتراجع عن موقفه الحماسيّ بإزاء “قصيدة النثر “العربيّة معلناً التباين الشاسع بين حقيقة الحداثة الغربيّة وزيف الحداثة العربيّة
ولئن ظنّوا، كذلك أنهم يوافقون الحداثة الغربيّة في تحرّرهم من الشكل الوزنيّ، وإجماعهم على الشكل النثري فانهم يضادّونها جوهريا، لأنها مبنيّة أساساً على مضمون الحريّة المطلقة التي لا تحدها إلا حريّة الآخرين، وعلى مضمون التحديث والتجاوز الفعليّين؛ لأعلى شكل الحريّة النسبيّة المحدودة بتقاليد الجماعة أي الحريّة العربيّة، ولأعلى شكل الكتابة الشعريّة المريحة بالنثر. فلاحداثة من غير حريّة فنيّة حقيقيّة، ولاحداثة من غير إضافة شعريّة فعليّة تتغيّر بها المفاهيم والمواقف تغيّراً نوعيّاً. وكيف يوافقونها وهم لمّا يتّفقوا بعد على فكّ اللبس بين مفهومي الشعر والنثر، وعلى تحديد مفهوم المصطلح الشعريّ الحديث؟ ولعمري لقد تلبّستْ عليهم وعلى نقّادهم الحداثيّين أيّ تلبس لأنهم لم يعرفوا حقيقتها أو لم يتكلّفوا معرفة حقيقتها. ولا أكاد أستثني ممن أعني من الشعراء والنقّاد إلا نزراً لم يبنِ رؤيته الحداثيّة على هذه المعايير الظنية السطحيّة الساذجة
وكلّما رأيت شاعراً حداثيّاً من قومي يحكم على شعرنا العربيّ الموزون بالفشل، وهو يجهل أوزانه تماماً، أو يدعو إلى حريّة الكتابة الشعريّة بالنثر، وهو يرسف ذليلاً في قيود العبوديّة السياسيّة والاجتماعية؛ عرفت أنه قد استورد “قصيدة النثر” مترجمةً من فرنسا لكنه لم يستورد معها عبقريّة الشاعر “بودلير”، ولا موهبة الناقدة “سوزان بيرنار”, ولا خاصيّة اللغة الفرنسيّة. نعم. عرفت أنّه قد استوردها ،كما يستورد “الآي فون”من الغرب وقد طفق يردّد صداها ظانّاً أنّه قد صار شاعراً حداثيّاً مهمّاً ، وهو لا يدري أنّه قد صار ضحيّة استهلاكيّة من ضحايا وهم الحداثة لأنه لم يفهم قصيدة النثر وأسباب ظهورها في المجتمع الفرنسيّ, ولا حتّى الاختلاف الطبعيّ والذوقيّ والمزاجيّ بيننا وبين الفرنسيّين.إنّما فهمها فهم الزيّ الغربيّ العصريّ المعروض في السوق العربية. ولو قصرَ وهمَه على عقله وحده، لهان الرزء لكنه نقله إلى عقول الناشئة فشوه ما شوه من جمال الحداثة ومعناها عندهم. ولوعلم كنوز تراثه الشعريّ القديم حقّ العلم، لما أبغضه وانصرف عنه إلى غيره. كأنّه عدوّه اللدود. لكنّه لا يعلمه. وأَنَّى له أن يعلمه، وهو لم يقرأه ولم يُعنَ به، كما قرأ الشاعر الأوربيّ ــ الأمريكي آداب القدماء وعنى بها؟
إنّني لا أدعو الشعراء الحداثيّين إلى قراءة تراثنا الشعريّ القديم والتعرّف إليه لأنني أُحبّه، وأخالُه تحفة نفيسة، بل أدعوهم إليه، لأنّ فيه أساساً لثقافتنا الذاتيّة، واستقلالا لشخصيّتنا وهويّتنا، وصوناً لنا من الفناء في حضارة الغير التي لم نكد نجلب منها غير القشر الاستهلاكي الخارجيّ الذي زادنا تخلّفاً على تخلّف. كما انّني لا أدعوهم إلى أن يعطّلوا مواهبهم وأذواقهم، فيتّبعوا نموذجاً مكرّراً من نماذج الشعر العربي؛ بل أدعوهم إلى أن يكفّوا عن الرطانة الحداثيّة تحرّراً من أغلال العبوديّة الإراديّةّ؛ ويكونوا شعراء شعراء. يعكسون تجاربهم صادقين، ثمّ يتجاوزونها اختلافاً لا اتباعا لأن في الإتّباع عجزاً وموتا وفي الاختلاف صراعاً يتحرّك به التاريخ
ومن المؤسف حقّاً أن يصل أكثر شعرنا المسمّى بـ”شعر الحداثة”ــ إذا لم أقل كلّه ــ إلى ما وصل إليه اليوم من خواء وضياع. يقرأه مريدو الشعر، فلا يظفرون فيه بلذّة عاطفية ولا بغذاء عقلي فيعيبوه معرضين. وقد يُجشّم بعضُهم نفسه عناء قراءته فيأبى الذوق الشعريّ أن يسيغه ويسترسل فيه. يكاد اللسان ينكره حين ينطق به وتكاد الأذن تنفر منه حين تسمع إليه. اهو بشعر. وما هو بسِيٍّ له؛ لأنّ للشعر العربيّ أصولاً جماليّة. ولا أدري لماذا يُصرّ من لايرضاها أو لا يعرفها على أن يكون شاعراً لا ناثراً، فيضيّع وقته ووقت القارئ أيضاً؟ لا أدري. وكلّ ما أدريه هو أنّ الشعر ليس بأحسن من النثر، وأنّ النثر لن يكون هو الشعر. وهيهات أن يَكُوْنَه. ولاأدري كذلك لماذا يقبل أن يكتب الشعر بالفصحى، ويرفض أن يكتبه بالوزن وهو الشاعر؟.فإذا كانت غايته الحريّة المطلقة لتحقيق الحداثة الشعريّة؛ فانّ الفصحى مقيّدة بعلوم النحو والصرف والبلاغة وفقه اللغة أكثر من تقييد الوزن بعلم العروض. فما باله يقبل جميع قيود الفصحى متنحياً عن غايته، ولايرفض إلا قيد الوزن؟ وختاماّ أقول: من حقّ الحداثيين الشعريّين أن يحيدوا عن جادّة الشعر، و يُغربوا إغراباً؛ ولكن من الحقّ عليهم أن ينصتوا لرأي القرّاء وينظروا فيه؛ وأن يسألوا أنفسهم هذا السؤال: لماذا يلتمس الجمهور الشعريّ مثله الأعلى عند الشعراء القدماء،ولايلتمسه عند الشعراء الحداثيين وقد مضى على الشعر الحداثيّ العربيّ أزيد من نصف قرن؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ