في القنطرة جلجلة
في القنطرة جلجلة: الجزء الخامس (6)
علم متروي بتفاصيل الاجتماعين عن طريق رائد، بناء على أمر من مصطفى. كم ضحك متروي حينها! ولكن الذي أضحكه أكثر، هو فكرة التخلص منه. ودار بينهما الحديث التالي
ـــ هل سمعت عن حكاية جحا وقرده؟ سأل متروي
ـــ لا، أجاب رائد، وهو يطارد ذبابة تحوم حول أنفه
ـــ رجع جحا من سفر طويل، ولم يجد أحدا في انتظاره. كانت خيبته كبيرة، لأنه لم يأت لوحده، بل جلب معه قردا صغيرا في غاية الجمال والحيوية. كان القرد لذيذ الصحبة كلما كانت الكآبة تستحوذ على مشاعره، وكان يساعده على قنص الطرائد التي كان يجدها في طريقه. وكان القرد يقلده في كل حركة يقوم بها. كان جحا سعيدا به. وكانت أكبر أمنية عنده، هي أن يقدمه لأهله كهدية ويزم بذلك شفاه منتقديه
ـــ الأدبيات حول جحا لا تقدمه بهذا الشكل
ـــ انتظر حتى أنتهي من السرد
ـــ معذرة
ـــ وعندما قدم جحا القرد لأهله، لم يكترث أحد به، لأن الجميع كان معتادا على مقالبه وحيله
ـــ خاب ظنه إذن
ـــ ولكنه لم يفقد الأمل. كان يخرج إلى القنص بين الفينة والأخرى، ويعود بطريدة ويذهب إلى شجرة تطل على القرية ويطبخ ويأكل لوحده ما تأتى له منها، لأن زوجته وأبناءه قرروا التضامن مع الآخرين. كان القرد الصغير هو أنيسه الوحيد، حتى وهو متواجد بين أهله.
ـــ كان في وضع لا يحسد عليه
ـــ وذات يوم، أفاق على صياح وبكاء وفوضى عارمة، خرج إلى ساحة القرية، فوجد الأهالي يطاردون القرد الصغير. استشاط غيضا واستفسرهم عن السبب، فعلم أن القرد قام بذبح دجاجتين وخروفين صغيرين ووضع الكل بجانب الشجرة التي اعتاد أن يتسلقها عندما كان جحا يجلس تحتها وهو حزين أو متذمر أو يطبخ. ـــ ما الذي حدث بعد ذلك؟
ـــ نجا القرد بنفسه، وهرب من غير رجعة. سخر الناس من جحا وطلبوا منه أن يعوض الضحايا عن خسائرهم، ولم يكن معه ما يدفع. كان القرد هو معيله، والآن، أصبح أضحوكة الجميع. انتفض أحد الحاضرين وسخر من جحا قائلا
انكشفتَ وقد كنتَ مَرجِعا بعدَ اليومِ عيناكَ لن تلمَعا
أجابه جحا، والحرف يكاد يخونه
من علَّمَ القردَ كيف يُحرِّكَ أُصبعَهْ ضاعت جحافِلُهُ في أوَّلِ موقِعَهْ
ـــ وماذا حدث بعد ذلك؟
ـــ غادر جحا القرية مهموما، منكسرا، لا يعرف إلى أين يقصد. لم يحقد على أحد؛ لم يعتذر؛ لم يودع أهله. كان كل تركيزه على الطريقة التي يمكن له بها أن يستعيد القرد الصغير وقد هرب. لم تنفعه حيلة وظل تائها في الصحاري
ـــ لم أسمع قط بهذه الحكاية. هل وجد جحا القرد؟
ـــ ما رأيك؟
ـــ هل اخترعت هذه القصة؟
ـــ ما رأيك؟
ـــ أنت غريب الأطوار، يا عمي
لم تنتظر جماعة ‘دار بوعزة’ طويلا لتبدأ في مضايقة متروي. بدأت العمليات بمحاولة مستعد استرجاع مبلغ النقود الذي تبرع بها أحد الخليجيين إليه. سخر مصطفي لإيصال رسالة واضحة، مفادها أن الرياح تسير ضد متروي، وأنه كان مغفلا عندما لم ينتهز الفرصة ويقدم ما كان منتظرا منه. لم يكن يعلم أن متروي سلم المبلغ لرائد. نصح مصطفي متروي بالامتناع عن المجيء للحمام لمدة إلى أن تهدأ العاصفة. ولكن العاصفة ازدادت قوة، حيث تم استدعاء متروي من قبل الشرطة نتيجة شكاية مستعد وتحامل ميمون. وعلى عكس المرة السالفة، تم استنطاقه من قبل عميد الشرطة، مجدي. أدلى متروي بروايته، وادعى أنه صرف المبلغ، الذي كان هدية ليس إلا. ولكن العميد لم يكترث لأجوبته، وكأنه قد كون فكرة مسبقة حول ما يجب القيام به. سأله عن علاقته بشركة ‘ݣلوبال شيرن وان’، ولماذا تغيب عن الاجتماعات الأخيرة للمجلس البلدي وعن اجتماعات أخرى. أكد متروي أنه لم يتوصل بأي إشارة تدله على أنه مرحب به في أي اجتماع من بين الذي ذكر العميد. كما أن علاقته ب ـــ’ ݣلوبال شيرن وان’، متقطعة، إن لم تكن منعدمة منذ مدة، وأن ما يتلقاه من معلومات يمر عبر معروف، مبرزا، أيضا، أنه يعرف جيدا أن التوكيل مجرد مزحة ولا قيمة له. استمع العميد إليه باهتمام كبير، وعلق على إفادته بالقول إن المشكل ليس في التوكيل أو في أحقية الشركة بالاستفادة من القنطرة بشكل أو بآخر، بل في متروي نفسه. وبالعودة إلى موضوع المبلغ المالي، نصحه بعدم الكذب، من أجل التستر، لأن رائد تقدم إلى الشرطة بمحض إرادته وأخبرها بأن المبلغ في حوزته حسب الاتفاق الذي أبرمه مع متروي. وختم العميد اللقاء بأن نصحه، مثلما نصح رائد، بعدم الحديث مطلقا عن موضوع المبلغ، وذلك لتمكين الشرطة من تعميق البحث في أمور متشابكة متعلقة بالقنطرة وبالجوار
وبعد أيام، وعلى بعد ثلاث أسابيع من بداية شهر رمضان، بدأ تنفيذ خطة استعمال المسجد ورقة ضغط للتخلص من الكنيس والكنيسة، بذريعة أن المسجد الكبير في الجوار لم يعد يتسع لعدد المصلين، الذين تكاثروا مؤخرا. وقد صادف هذا التحرك، ازدياد شعبية دروس تهذيبية تذاع على الهواء وأقرصة مدمجة تباع بأثمنة زهيدة في الأسواق الشعبية، أدخلت الناس في شبه هيستريا لإظهار التشبث بالدين والدفاع عنه بكل الوسائل. وأصبح مألوفا أن تنطلق مسيرات عشوائية بعد صلاة الجمعة تختلط فيها المطالب بين الاجتماعي والسياسي والديني، وتنتهي بالدعوة إلى الوقوف صفا واحدا ضد من يطعنون في الدين ويشيدون أماكن عبادة كرتونية لا تتوفر فيها أدنى شروط احترام المقدس. وكانت الوقفات الاحتجاجية لا ترضي الجميع، حيث كان رائد والمجموعة الغنائية الشبابية ينظمون حلقات تحسيسية حول المواطنة الحقة بعيدا عن التسييس المجاني لمطالب اجتماعية
وأثناء إحدى التجمعات، اقترح أحد المشاركين فكرة أثارت سخرية الآخرين للحظة، قبل أن يتم تبنيها بالأجماع؛ وتتلخص في الشعار التالي: “يالله نِتْرمْضْنُوا وُنِقِّييوْ مْدِينْتْنَا من الزْبِلْ”؛ وهو جواب على ما يقوم به كثير من الصائمين خلال شهر رمضان من أعمال شغب وشجار وعنف، تتطور، أحيانا، إلى حوادث شنيعة، بدعوى أنهم لا يستطيعون السيطرة على أنفسهم لأنهم صائمون. لم تعجب الفكرة تيارات أخرى، فردت بالشعار التالي: “نِتْرَمْنْضْنُو كِيمَا بْغَيْنَا وُمِلْقَانَا في الكُوزِينَةْ”. لم تتدخل السلطات، لأن الظرفية لم تكن لتسمح بمزيد من الاحتقان، ولا سيما أن الأوضاع في المحيط العربي كانت متأزمة، وتساهم في تشنجات عقائدية وأيديولوجية أصبح من الصعب السيطرة عليها بفعل كثرة المتدخلين والمنتفعين والانتهازيين
لسوء حظ متروي، أبلغه معروف أن ‘ݣلوبال شيرن وان’ قد غيرت رأيها وأنها ستحاول بيع الديكور والمعدات التي تركتها إلى أحد المستثمرين؛ وبالتالي، فإنها تعتبر أن التوكيل الذي أعطته له لم يعد صالحا ــ بل لم يكن صالحا من الأساس، كان مجرد مناورة. كما علم أن المستثمر المجهول لم يكن سوى سامي. ولم تنته المفاجأة عند هذا الحد، بل علم، أيضا، أن حطاب دخل في مفاوضات مع مستعد لكي يقنع أصهاره بالدخول في الصفقة الكبيرة التي ستمكن من ربط القنطرة ومحيطها بالمشروع السكني الكبير الذي يدخل ضمن مشروع التهيئة الواعد الذي تبتنه السلطات المحلية في إطار جعل الدار البيضاء حاضرة من المستوى العالمي. ماذا عن النزاع حول الملكية؟ لا بأس، فقد ارتأت إدارة السكك الحديدية وإدارة البحرية تأجيل البث في الموضوع، لأن عرض النزاع على المحكمة، سيعطل جميع المشاريع الأخرى. وماذا عن الأطراف الأخرى؟ الموضوع أكثر تعقيدا، ومن المحبذ جدا، معالجته بطرق حبية. وماذا عن وضعية متروي داخل محيط القنطرة؟ الوضع مستقر، ولن يخرج خالي الوفاض من العمليات الجارية. يبدو أن فاعلين جدد يستعجلون من يهمهم الأمر لإيجاد حلول للمشاكل العالقة
كتب متروي في مفكرته البنية
“من يملك الحقيقة في مستنقع، لا يملك شيئا، بما في ذلك، فرصة النجاة بجلده والظفر ولو بحقه الضئيل في الباطل. وها أنذا أعود من جديد وأدون أفكارا لن يقرأها أحد. هل من حقي أن أعتبر ما أكتبه وصية؟ وما قيمة الوصية في عالمي الملطخ بدماء من عبروا هذه القنطرة ولم ينتبهوا إلى الحفر التي ابتلعت كثيرين ممن سبقوهم، وهم ينشدون البحر رحلة خلاص؟ لم تركت الأهم في تافراوت، وسقطت في الفخ الذي ظننت أنني نصبته للآخرين؟ حري بي أن أدفن نفسي حيا. لم لا؟ وهل من يهرب من حياته يستحق أن يسجل نفسه في خانة الأحياء؟ وهذه القنطرة، ما خطبها؟ يا لجبنها! لم لا تنطق وهي الحبلى بالأسرار التي تهد الجبال وتجفف المحيطات؟ أين أنت، يا جنيفر من قرار الشركة؟ وهل أنت على علم بما يحاك ضد القنطرة؟ ضدي؟ أنا الذي ركبت البحر مجازا كي أستقر في جزر الفراغ، لعلني أملأ حياة أرضها، مثل سمائها، تتنفس بالضباب؟ كم أكره أن أقر بأنني اشتريت السمك في البحر كما يقول المثل!”
أحس بأن يده ترتعش، ولم يدر إلا وهو يدور في جنبات القنطرة، وكأنه يبحث عن شيء ما. استمر في الدوران، ثم عاد إلى العربة ومن تحتها أخرج ما كان يبحث عنه: الفأس. توجه إلى أحد أركان القنطرة، وبدأ في الحفر، مثلما كان يفعل في الماضي. واستمر في الحفر دون أن ينتبه إلى أن الناس أخذوا يتجمهرون حوله. وظل يُعمل الفأس في الأرض؛ أحس بالدم يغلي في كل جسمه، ثم سمع ما يشبه أصواتا ترتفع وتقترب منه. أغمي عليه
فتح عينيه بصعوبة، كان رأسه يؤلمه. وجد نفسه ملقى بجانب العربة. حاول الوقوف، ولكنه لم يستطع. ولم يكد يسترجع وعيه، حتى بادره صوت مألوف
ـــ ما الذي دهاك أيها المعتوه؟
كان صوت مصطفى، الذي بدا خشنا بعض الشيء، ويعبر عن فزع شديد
حملق متروي في عين مخاطبه وتساءل بدوره
ـــ ما الذي حدث؟
ـــ كنت على وشك إشعال فتنة كبرى؟
ـــ أية فتنة؟
ـــ ها أنت تتذاكى؟
ـــ أقسم بالله أني لا أعرف عم تتكلم
ـــ كيف لا تعرف، وأنت الذي أخذت الفأس وبدأت في الحفر في جنبات القنطرة؟
ـــ لا بد أن تصدقني، أنا لا أتذكر جيدا. كنت أدون شيئا ما في مفكرتي
ـــ أنت تسخر مني
ـــ ما الذي حدث بالضبط؟
ـــ لقد تسببت في فوضى لم تكن في الحسبان
ـــ لا أذكر شيئا
أخبره مصطفى بما حصل فعلا. انتبه بعض المارة إلى متروي وهو يحاول هدم أحد أعمدة القنطرة. وتجمهر بعض الناس حول المكان، دون أن يحاول أحد التدخل لمنعه. ثم بعد دقائق، انضم إليه فضوليون، وبدؤوا يقتلعون شجيرات ويحاولون هدم المرحاض. لحظات بعدها، صاح أحدهم: “هيا تعالوا لنحطم الكنيسة والكنيس!” تبعه زمرة من الهائجين. ولكن لحسن الحظ، أن مجموعة من الشباب تدخلت لتمنعهم. لم يصدق متروي أذنيه. هل فعلا قام بكل هذه الأفعال؟ وبينما هو يحاول السيطرة على مشاعره، وصلت دورية للشرطة وأخذته إلى المخفر، في حين أسرع مصطفى الخطى مبتعدا حتى لا يتم حشره في أي مشكل
(يتبع)