في القنطرة جلجلة
في القنطرة جلجلة: تتمة الجزء الرابع
لم تتكلم البنت الثالثة. تابعت الحوار باهتمام كبير، وهي تبتسم بين الفينة والأخرى وتتبادل النظرات مع أحد الضيوف؛ زوجها ربما؟ هل تكون هي البنت المهلوسة؟ وهل يكون هو الولد؟ مستحيل. لا يبدو أنه أوروبي؟ من منهن إذن؟ ومن هو من بين الرجال الحاضرين؟ جميع الحاضرين طبيعيين. كان مستعد يتفحصه وابتسامة غامضة مرسومة على شفتيه. هل يكون قد سخر منه بتأليف حكاية لا أساس من الصحة؟
ـــ ما هو قرارك؟ أعاده سؤال أحدهم إلى الواقع
ـــ قراري مرتبط بقيمة ورقة قيل لي إنها ذات حجية وتنفذ إلى أعماق كل عمق لم يسبق لأي ورقة أن وصلتها
ـــ لا تسخر منا يا رجل
ضحك ملء أسنانه، وكأنه يسمع مصطفى يردد نفس الكلمة. توقف بعد ذلك واعتذر
ـــ أنا لا أسخر من أحد. أنني فقط أتأمل ما آلت إليه وضعيتي، أنا الذي كنت أبحث عن مغارة ألجأ إليها حتى تهدأ الأمور. لكن، لا بأس. سأحاول أن أساير الرياح حتى ولو لم تكن أشرعتي من نفس قيمة المركب الذي أجبرت على ركوبه
ـــ حاول، يا عمي! استعطفته إحدى البنات
ـــ وهذه موزونة، قدمها مستعد
طلبت من أبيها الهدوء بحركة بهلوانية
لا بد أن تكون هي المشوشة، ردد متروي في قرارة نفسه
انتهى العشاء. وقبل أن يغادر، سلم له أحد المدعوين ظرفا
ـــ ما هذا؟
ـــ مبلغ بسيط، للمساعدة على المصاريف
ـــ لا، شكرا. أنا عندي ما فيه الكفاية، وأتوفر على حساب بنكي. كما أنني حصلت على مكافأة جيدة مقابل مشاركتي في الفيلم. أنا لا أقبل هدايا مهما كان مصدرها. كما أدرك أن من حقهم البحث عن وسيلة ما للاستثمار هنا. دعائي لهم بالتوفيق، لكن أخذ رأي أصحاب الرأي هو الأساس
ـــ رجاء، لا تفسد علينا هذه الجلسة الرائعة
تردد متروي قليلا. ولكن تحت إلحاح زعيمة، وضعه في جيبه، ثم ودع الجميع وخرج، وقد قررأن يتبرع بالمبلغ على أول من سيصادفه
التقى متروي برائد وأخبره بتفاصيل اللقاءات الأخيرة مع ناس أصبحوا أكثر إزعاجا له من ذي قبل. وبعد حوار طويل، استنفذت فيه كل المواضيع، ناوله الظرف الذي توصل به من أحد ضيوف مستعد، وطلب منه فتحه. وهو ما فعله رائد. كان الظرف يحتوي على أوراق مالية من العملة الصعبة. طلب منه أن يعدها. كانت في حدود ألفي يورو. لم يتمالك متروي نفسه وأخذ يقهقه مثل شخص فقد رشده. تساءل رائد عن مصدر المال، فأخبره. تجهم وجهه وشاطر متروي الرأي بأن الجميع يريد شراءه بأي ثمن، رغم أنهم يعلمون أن هامش المناورة لديه محدود بل منعدم. طلب منه الاحتفاظ بالمبلغ وصرفه في أشياء تهم الشباب. وكان جواب رائد أن الأمور تعقدت مع كثرة المتدخلين والنفعيين والفضوليين. ابتسم متروي وقال
ـــ لا تصرف المبلغ كله، احتفظ بما يمكن أن تشتري لي به كفنا
ـــ ما لنا ولهذا التطير يا عمي؟
ـــ عندي شعور عميق أنني لن أغادر هذا المكان حيا
ـــ لا تتطير يا عمي! القنطرة مقبلة على عهد جديد. وكل الذي حدث ــ بصالحه وبطالحه ــ لك يد فيه، ولكن الغلبة للصالح. أنت كنت ــ وما تزال ــ فأل خير علينا. سأحتفظ بالمبلغ كله. ربما سيفكر المحسن المشكوك في نيته في استرجاعه عندما ستتشابك الأحداث وتخرج الأغلبية خالية الوفاض
ـــ كيف حال مصطفى؟
ـــ نفس المنطق، نفس النسق
ـــ لم أذهب إلى الحمام منذ مدة
ـــ لماذا؟
ـــ أخاف أن ألقى حتفي وأنا أنزلق من وقع قطعة صابون تائهة بين مسالك الواد الحار
ـــ لا تخف، يا عمي، عيون كثيرة تحرص على أن تبقى حيا
ـــ وأنت؟ كيف حالك؟
ـــ أقوم بأشياء. أكتب سيناريو لمسرحية جديدة. لقد تعلمت كثيرا من خلال احتكاكي بسيناريست الفيلم
ـــ كانت تجربة جيدة للجميع
ـــ وهي مستمرة. نسيت أن أسألك، يا عمي، بصفتك محافظ المكان الأمين، هل يمكن أن نعود لنتدرب في القنطرة؟
ـــ طبعا، وابتداء من الغد
ـــ شكرا، ولكنني متردد قليلا
ـــ لماذا؟
ـــ سمعت أن بعض الناس ــ من فصيلة المتشددين ــ يفكرون في الاستفادة من المسجد خلال رمضان المقبل
ـــ هذا جنون. كيف يفكرون في الصلاة في ديكور مسجد؟
ـــ كما أنهم يفكرون في استغلال المساحة بين الكنيس والكنيسة
ـــ سأمنعهم
ـــ لن تستطيع يا عمي! المزاج العام مكهرب
ـــ سأمنعهم ــ أو على الأقل ــ سأخطر السلطات
ـــ كيف يا عمي؟ أتظن أن التوكيل الذي أسند إليك له من الحجية القانونية ما يعطيك حق التصرف في هذا الباب؟ التوكيل لا قيمة له
ـــ أعلم، رائد يا بني؛ ولكنني سأحاول أن أتذاكى هذه المرة مع سبق الترصد والإصرار.ـــ لا أنصحك بأن تدخل دوامة الأخذ والرد معهم أو مع غيرهم. صدام الشرق وصراع المذاهب يطرق أبوابنا، ونحن في غنى عنه
ـــ أعرف. هذا كان نتيجة طبيعية لنظام التعليم منذ ما ينيف عن أربعين سنة. لم ننتبه حينها أننا كنا مهددين في هويتنا، لعن الله السياسة. ولكننا سنعود كما كنا دائما أقوياء، بقليل من النقد الذاتي وكثير من العقل والتعقل. من يسعى إلى جعلنا مطية، سيفشل مثلما فشل غيره من قبل وهو يبالغ في تبني مرجعيات تغمس في نفس الوثوقية
ـــ أتمنى ذلك يا عمي
ـــ إلى اللقاء يا بني. ولا تنس أن تختار لي كفنا يليق بمقامي
ابتسم متروي وهو يتذكر مشهدا طريفا قبل أشهر خلت. كان الوقت صباحا، وكان يسير في المحج الذي يمر غير بعيد عن مسجد الحسن الثاني يوم عيد الفطر، حين رأى أفواجا من المصلين، رجالا ونساء وأطفالا، تغادر المسجد وتسير في اتجاهه. في تلك اللحظة، كان هو الوحيد الذي يسير في الاتجاه المعاكس. كما لاحظ أن جملة من المصلين يأخذون صورا لبعضهم البعض، وآخرين يتفننون في أخذ سيلفيهات، وأفراد لا يتوانون عن تأمل نساء يمرن بجانبهم بفضول كبير، بينما كانوا ينتظرون زوجاتهم أو أقاربهم. وفجأة، وقفت حافلات أنيقة وتدفق خارجها عشرات السياح الصنيين الذين أطلقوا العنان لآلات التصوير، وكأنهم اكتشفوا كنزا ثمينا. اختلطت الصفوف، وتسابق بعض المصليين، رجالا ونساء، وهم في حلل من ألوان مختلفة وبراقة، للاندماج في المشهد وأخذ صور مع السياح. وقف متروي مدهوشا. ولم يتحرك إلا حين انتبه إلى أن موجة من المصلين ستصطدم به، فهرع إلى جانب الطريق، حيث لمست يده ثدي سائحة صينية كادت أن تلمس الأرض من فرط مبالغتها في الاعتذار
شاع خبر أن السلطات قررت هدم سوق الدجاج وجانب من المجزرة العمومية في إطار مشروع توسيع شبكة الترامواي بإنشاء خط ثالث. تأكد الخبر من أكثر من مصدر. تنفس السكان الصعداء لأن الروائح الكريهة التي تصدر عن سوق الدجاج أزكمت الأنوف، كما أن قلة النظافة تسببت في أمراض متعددة كان من أول ضحاياها الأطفال. وراج خبر آخر يقول إن الأرض التي كانت شركة الإسمنت الضخمة قائمة عليها خصصت لبناء فيلات وعمارات من ثلاث إلى ست طوابق تم اقتناؤها دفعة واحدة من قبل شركة أجنبية يوجد مقرها الاجتماعي في إحدى جزرالملاذات الضريبية. بين عشية وضحاها، أصبحت القنطرة مطوقة، وبدأت التكهنات تتوالى وتتنوع بين الإثارة والسخافة وفقدان المنطق. ومن بين كل التكهنات، كانت تلك التي تدعي أن العملية كلها مناورة من العيار الثقيل، وأن الاستحواذ على القنطرة، حتى ولم يحل مشكل الملكية، أصبح مسألة وقت
استنفرت المعطيات الجديدة كل المتنافسين المحليين، مما دفع أحدهم إلى اقتراح عقد اجتماع غير رسمي لتدارس الوضع والاتفاق على خطة موحدة تمكن كل واحد من الظفر بجزء من الصفقة. وبعد مناقشات كادت أن تعصف بالفكرة كلهاأ تم الاتفاق أن يكون الاجتماع في أحد منازل مفيد الذي يوجد في دار بوعزة، مع التزام الجميع بالحفاظ على سريته، وذلك بتجنب الظهور في الأماكن التي اعتاد أن يرتادها كل واحد منهم
(يتبع)