في القنطرة جلجلة

في القنطرة جلجلة
صورة الغلاف للتشكيلية الازربيدجانية جميلة هاشموفا

 (في القنطرة جلجلة : الجزء الثالث (7

بعد توقف اضطراري لتواجدي خارج البلد، لم تنشر الحلقات الروائية في وقتها، نعود لمواصلة النشر مع كل التقدير للكاتب ولقراء ألوان

أياما بعد الاجتماع، توصل بدعوة من مستعد لحضور حفل عشاء على شرف الضيوف المهمين الذين تحدث عنهم في لقائه سابقا. رباه، حكاية المشورة من جديد! أوفي القنطرة جلجلة لم يدرك مستعد أن
حسن حامي
الظروف تغيرت، وأنه لم يعد آمر نفسه؟ لم يجتهد الآخرون في تدمير حياته، وهو الذي فقد قدرته على المناورة، كما كان في الماضي القريب؟ أخذ الترتيبات اللازمة ليكون في مستوى الحدث، وذلك بالتزام الصمت كيفما تطورت الأمور
وصل إلى منزل مستعد بعد أن عرج على محل بيع زهور واقتنى إكليلا من الورد. وبهذا التصرف، دشن سلسلة المفاجآت التي أعدها كوسيلة للسيطرة على الوضع. وجد أن الضيوف قد وصلوا قبله وأنهم، كما وصفهم مستعد، من علية القوم. تفاجأ حين لاحظ أن بعضهم كان من الخليج وآخرون من أصول أخرى. ولم يستغرق وقتا طويلا ليندمج في جو بدا شبه عائلي. لم لا وأن من بين الحضور، كان يوجد أصهار مستعد؟ كانت سحنة الاحترام بادية عليهم. دار الحديث حول مواضيع مختلفة، ولم تكن السياسة من بينها. حرص الجميع على انتقاء الكلمات بعناية فائقة. ولم تظهر خلافات بسيطة إلا عندما تطرق أحد الحاضرين إلى الكلام عن الدين والدنيا والفلسفة. كان يتكلم بثقة فائقة تنم عن وثوقية كبرى لم يستسغها متروي. ولكنه كثم لسانه
 استرسل مستعد في الموضوع، وهو يركب على موجة المجاملة. لم يكن مقتنعا بما يقول، ولكنه أطنب في تفسير الواضح. كان لهذا الحوار الملغم وقع سيئ على متروي. التفت أحد الضيوف إلى متروي ليسأله عن رأيه في الموضوع. سؤال أحس هذا الأخير وكأنه استفزاز، مما دفعه إلى نقض الوعد الذي قطعه على نفسه بالتزام الصمت. بدأ تدخله بتمتمة لم تكن معهودة لديه، وقال

ـــ لا أتفق مع الرأي الذي يقول إن مظاهر التدين دليل على التدين الصحيح أو أن الاختلاف حول تفسير بعض أمور الدين من حسنات الدين. ولا أحد يمكنه أن يحول تفسيره للدين إلى سند تجاري، مهما بلغت ذروة التقوى عنده
:عقد الجميع حاجبهم، ولكنه استرسل
ـــ الاجتهاد يقوي العقيدة
،ظل الآخرون مشدودين إليه، وكأن الدهشة أخرست ألسنتهم. لم يكترث وتابع
ـــ لنأخذ التصوف مثلا، هل هو مصدر قوة أم مبعث ضعف لديننا الحنيف؟ هل هو تطرف أم هو كابح ضد هيمنة تفسير واحد ومطلق للدين؟
ـــ شكرا على مداخلتك! تدخل مستعد
ـــ دعه يتكلم، أجاب ضيف آخر تكلم لأول مرة. لا بد أنه متأثر بهذه الزمرة من العلمانيين. وسوف أدحض ما قاله عندما ينهي كلامه
ـــ أنا لست علمانيا. ويبدو أنك، ياسيدي، تخلط بين العلمانية والإلحاد. العلمانية تنادي بفصل الدين عن الدولة، وتترك حرية التدين لمن يشاء. وأكثر العلمانيين من أكبر المتدينين، ولكنهم لا يتبجحون، لأن الدين شأن خاص
ـــ لا أصدق ما أسمع! صرخ المتدخل
ـــ لم الصراخ يا سيدي؟ العلمانية واللادينية والإلحاد أشياء مختلفة. ولكن الناس تخلط الأمور لغاية في نفس يعقوب
ـــ العبرة في الإيمان، وفي إسعاد الآخرين كلما أمكن
ـــ أشاطركم الرأي. هل سمعتم بما قالته سياسية ألمانية حول مداخيل الحج مثلا؟
ـــ لا، لم نسمع
ـــ قالت إن مكة قبلة المسلمين جميعا وإن الناس الذين يحجون أو يؤدون العمرة ينفقون مالا كثيرا. وقد يكون من المفيد أن توزع السلطات بعضا من المداخيل على شعوب بعض الدول الضعيفة المسلمة كجزء من الزكاة وما إلى ذلك
ـــ هذا رأي مردود عليه ولا يستقيم، لأن السلطات في تلك البلاد تجهز مرافق وبنية تحتية حتى يتمكن ضيوف الرحمان من أداء مناسكهم في أحسن الظروف. المصاريف كثيرة جدا والمداخيل التي تتحدث عنها لا تسمن ولا تغني من جوع. السياسية التي تكلمت، أخطـأت ــ وربما كفرت ــ ولا يهمنا أمرها؛ أما وأن تردد كلامها وكـأنه عين الحقيقة، هذا كفر كبير وعدم عرفان تجاه البد، الذي يعتبر، بحق، حصنا منيعا ضد دعاة التفرقة بين المسلمين
:ابتسم متروي، وأجاب
ـــ الجواب الانفعالي، أيضا، لا يسمن ولايغني من جوع. كما أنني أعرف ديني جيدا، وأعرف كيف أدافع عنه عندما أرى الصواب فيه، وأسائله حين يتسرب الشك إلى يقيني. العبرة في الاجتهاد أيضا
ـــ سؤال آخر، لو تفضلت أيها العلماني المتنكر في بسمة التسامح المصطنع: هل يقتسم الفاتيكان أو الكاثوليك أو البروتستانت أو الأرثوذكس أو غيرهم من معتنقي الديانات والمرجعيات الفلسفية الكونية الأخرى المداخيل التي يحصلونها أو يتوصلون بها على الشعوب المعوزة التي تدين بدينهم وبفلسفتهم؟ وهل يوزع الملحدون واللائكيون والعلمانيون ما يستخلصوه من الربا على الفقراء والمعوزين من بني جلدتهم؟
:تدخل مستعد من جديد
ـــ لنغير الموضوع. أشكركم جميعا على قبول دعوتي للعشاء، الذي هو نعمة من نعم الخالق الباري، نحمده ونشكره في الليل وفي النهار، ولن تستطيع شطحات من لا يقين له أن تمس إيماننا القوي بصحة ديننا وفضله على الخليقة كلها شاء من شاء وأبى من أبى
:أخذ نفسا ليستقرئ وقع ما قال على الحضور، وأضاف
ـــ أعلم أن لكم اهتماما بفتح مشاريع، ولا يمكنني إلا أن أشجعكم وأن أتضرع إلى الله جل جلاله أن يسدد خطاكم. أعلم، أيضا، أنكم سمعتم عن القنطرة ومحيط القنطرة. بحمد الله، تجددت وتطورت، بفضل الله وبفضل هذا العبد الضعيف الذي أمامكم. وهي الآن، بحمد الله، من الأماكن التي تستقطب الأنظار
:توقف قليلا، عندما ردد الحضور بصوت واحد تقريبا وهم يحملقون في متروي، وكأنهم ينظرون إلى شخص خارق
ـــ أحسنت! أحسنت! أحسنت
:تابع مستعد
ـــ السيد متروي يتقمص دور شخص عادي جدا، ولكنه من خيرة القوم، ولا أدل على ذلك أن أحد أكبر شركات الانتاج السينمائية العالمية ارتأت أن تصور مشاهد فيلم كبير في القنطرة، وأن تسند له دورا فيه
ـــ ما شاء الله! ردد الحضور من جديد
:تردد مستعد بعض الشيء، وأضاف
ـــ وبفضل ما يتمتع به من أخلاق ومصداقية، فإن الشركة وكلته للمحافظة على ما تركته من ديكور ومعدات خاصة بالفيلم. كما أن السلطات، حمدا لله، تشاطر الجميع نفس الشعور وتشرك السيد متروي في الاستشارة حول ما يمكن القيام به لتطوير القنطرة ومحيطها. مشاريع مهمة في طور التصور
:ـــ ونِعم! ونِعم! ونِعم! ردد الجميع، وعلامات الإعجاب بادية عليهم، ساهمت في دفع أحدهم إلى القول
ـــ نحن مهتمين بالاستثمار
ـــ ونعول على ناس مثل السيد مستعد ليدلنا على من يمكن أن يمد لنا يد المساعدة، أضاف آخر
:وتدخل ثالث، ليؤكد
ـــ ويبدو من خلال ما سمعناه من السيد مستعد أنك، أيها الأخ الكريم، من الأبواب التي يستحسن طرقها والعقل الذي يتدبر الأمور الخافية على سائر القوم
تفحص متروي وجوه الجميع في حركة سريعة وقال مع نفسه: “لا بد أن في الأكل شيء ما أفقد هؤلاء الناس عقلهم
:استطرد مستعد متوجها إلى متروي
ـــ علمت أن باستطاعتك أن تتوسط لدى الشركة لتسهيل الأمور
:لم يتمالك متروي نفسه، فأجاب بصوت مرتفع
ـــ أنا لا أفهم قصدكم. أنا أتوفر على توكيل للحفاظ على الديكور وما يتصل به. ولكن لا قوة قانونية له ولا يسري على ملكية الأرض التي يتصارع كثيرون عليها. ويمكن للسلطات ألا تعترف بقانونية التوكيل في أية لحظة نظرا لعيب واضح في الشكل
:بين الفينة والأخرى، سوى زفرات تائهة تمعن في الدوران، وكأنها تحمل معها كل اللعنات. وقطع مستعد الصمت وهمس في أذن متروي
ـــ أرجوك أن تفهمني يا متروي، من بين هؤلاء الناس، يوجد أصهاري. وإذا كان لا بد من فعل شيء لإرضائهم، رجاء قم به. حاول، على الأقل، أن تتظاهر بأنك تفهم الموضوع
ـــ أنا أفهم؛ أنت وهم لا تفهمون. وعلى أية حال، سوف أتظاهر بأنني سأساعد
عاد الصمت من جديد، ثم تحول الحديث إلى تبادل أراء حول اختلاف الطقس بين الخليج والمحيط خلال هذه الفترة من السنة. ثم بعد ذلك، وبدون مقدمة، التحقت بنات مستعد بالحضور. كانت المفاجأة كبيرة بالنسبة لمتروي. الله، كم كن جميلات! كن يرتدين قفاطين مغربية رائعة، ويغطين رأسهن بفولارات عصرية. سلمن على متروي بإيماءة من رأسهن، وجلسن بجنب بعضهن البعض. وتتابعت الأسئلة في رأس متروي:”من هي كبراهن؟ من هو زوج من؟ من هي المصابة بانفصام الشخصية؟ من هو زوجها التوحدي سابقا؟ وماهو السر وراء اهتمام الجميع به؟ وهل حان الوقت للاستئذان منهم للرحيل؟”. لم يكد ينتهي من أسئلته، حتى توجهت إليه إحدى البنات بسؤال
ـــ سمعت أشياء كثيرة عنك يا عمي
ـــ خير إن شاء الله، يا ابنتي
:تدخل مستعد ليقدمها
ـــ هذه زينب، الزعيمة
: ابتسمت وواصلت
ـــ يبدو أنك تحب القراءة كثيرا؟
ـــ نعم
ـــ من أين جمعت كل الكتب الموجودة في العربة؟
ـــ كانت هدية
ـــ رائع! لا بد أن من أهداك الكتب شخص متميز ويقدرك
ـــ نعم. كانت هدية وجدتها على قارعة الطريق. وهي في الطريق إلى تغيير حياتي
ـــ كيف؟
ـــ لن تغيرها كلها، ولكنها ستاهم في تثمين أشياء كنت أومن بها، وفي تبخيس أخرى كنت لا أستطيع أن أستغني عنها
:تدخلت أختها الأخرى بدورها
ـــ وما قصة الممثلة جينفر؟ هل صحيح ما سمعناه؟
:تورد وجه متروي، وكأنه يحاول التخلص من شحوب سحنته، وأجاب
ـــ الناس تبحث عن الإثارة يا ابنتي. لم يحدث شيء. كانت تريد أن تتسلى على طريقتها؛ ونجحت حين أدركت أنها فشلت
ـــ كيف؟
ـــ أدركت أن لعبتها لم تكتمل، وكان فشلها سبب نجاحها عندما كان عليها التعقل والتركيز على الفيلم الذي كانت تصوره بمعية الآخرين
ـــ كيف كان شعورك وأنت تجلس مع ممثلين مشهورين؟
ـــ كان شعوري هو أن هؤلاء الناس يشتغلون كمحترفين ويتصرفون بطريقة عادية
ـــ هل ما زلت على اتصال بجينفر؟
ـــ لا. ولكن تصلنا أخبار متفرقة عنها. كما يحدث أحيانا أن أغازل الحقيبة
ـــ أية حقيبة؟
ـــ لا يهم
ـــ هل صحيح أنها إبنة مالك الشركة؟
ـــ أبوها منتج كبير، ولكنها تعتمد على نفسها كممثلة. هذا على الأقل ما سمعته
ـــ كم أنت محظوظ ياعمي
ـــ لست أدري
(يتبع)                                                                                                                                                                                                    

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com