في القنطرة جلجلة الجزء الثالث (2)
في القنطرة جلجلة
“غادر أزمور والخيبة تلبسه والتردد يعصره. كان يمني النفس أن يترك آخر جزء من محتويات الكيس عند أستاذه. والآن، عليه أن يختار مكانا آخر. الدار البيضاء؟ لم لا؟ المدينة يعرفها جيدا. ويعرف أنها تعيش فترة من الحركة والنشاط؛ ويمكن له أن ينساب مع التيار دون أن يثير الانتباه. وبينما كان يسير في طريق مهجورلا يعرف إلى أين يقصد، وجد كتبا ملقاة فوق عربة مهترئة بجانب حاوية مهملة. لم يتمالك نفسه وأخذ يتفحص محتوياتها : كتب متنوعة وبلغات مختلفة رغم أنها قليلة. بعض الكتب كانت في حالة جيدة؛ بينما كانت أخرى غير مكتملة وتتضمن صفحات ممزقة. من تخلص من هذه الكتب وبهذه الطريقة في طريق مهجور، ومن عربة لا تستوي؟ وكأنه يسمع صوتا يهتف في أذنيه : ‘العربة سلاحك المثالي لتنصهر في النسيان إلى حين. أجزم وتوكل…’؛ تملكه التردد لثوان
” ثم لاحظ أن شخصا يراقبه، وبينما حاول إسراع الخطى مبتعدا، خاطبه
ـــ لا تستعجل! خذ وقتك الكافي، هذه الكتب، على قلتها وصغر حجمها، مرمية هنا منذ أسبوع، ويمر الناس بجانبها ولا يتوقفون. وسوف تتخلص منها أو أنها ستتخلص منك في أجل قريب
العربة؟ الخرقة؟ ورد جديد في انتظار الجديد. وهذا الشخص الغريب… أسرع الخطى قاصدا مدينة الدار البيضاء. الدار البيضاء، حيث يتجول جزء منه في أزقتها. كم يكرهها وكم يحبها في نفس الوقت
مرت أسابيع ، ووصل تصوير الفيلم إلى آخر مراحله، بعد أن حضر الممثل الرئيسي. وأصاب حضوره الساكنة بهستيريا غير متوقعة في بادئ الأمر، ثم هدأ الوضع عندما أبدى الممثل تواضعا لا مثيل له، وتناول الشاي بالنعناع مع الناس في ‘المنتزه’، وردد كلمات نمطية بالدارجة المغربية. كما أنه تحدث إلى متروي بضعة دقائق قبل تصوير مشهد يظهر فيه متروي يحمل مجلدا ويقرأ بصوت عال: “العادة تقتل الإبداع ولكنها تلعب دورالمسكِّن الذي يكبح جماح المغامرة.” كان عليه أن ينطقها بدون لكنة بلغتين مختلفتين لإضفاء نوع من التشويق. وقد نطق متروي الجملة بإثقان كبير. لم يطلب أحد منه أن يغير ملابسه، التي كانت نظيفة، كالعادة، ووضع قليل من الماكياج على وجهه. وأثناء العملية، داعبته إحدى الممثلات
ـــ هل تعلم أن لديك عينان قاتلتان؟
: ابتسم وأجاب
ـــ أعلم، ولكنهما تنطقان بالجريمة
: استفزته من جديد وسألت
ـــ هل تتزوجني؟
:فأجاب
ـــ لا أحب السفر
:سألته
ـــ وماعلاقة طلبي بالسفر؟
: أجاب
ـــ عندما يسافر الناس خارج أوطانهم يعطلون مكابح الحياء ويعلنون الحرب على الأخلاق، وكأنهم يتحررون من استلاب وقمع عشعش فيهم طول حياتهم . يتحول الخجل إلى وقاحة في النظر والكلام والأكل واللباس. لكن الندم يأتي في آخر المطاف ليعيد الأمور إلى نصابها ــ أو هكذا يظنون، بعد فوات الأوان
: لم تستسلم ولاحظت
ـــ لا أظن أني أفهم ما تقصده. هل تقصد أن الزواج مثل السفر؟ أظن أنها فكرة تتطلب نقاشا مطولا
:ابتسم وأجاب
ـــ الحياة لها ما لها وعليها ما عليها. الارتباط بالآخر رحلة، مهما طالت، تظل قصيرة. وكل ارتباط يعتبر نزوة؛ عين ترى وأعضاء أخرى في الجسم تتحرك من فرط الإعجاب أو من فرط التذمر؛ البعض يسميها حبا والبعض يسميها ميولا، ليس إلا، وصنف آخر يعتبرها لحظة فراغ، كما هوالحال بالنسبة إليك ياآنستي
:عقدت حاجبيها وقالت
ـــ اتظن أنني غير جميلة وأنني ــ مجازاــ لا أستحقك؟
ـــ أبدا، يا آنستي، أنت جميلة، وأنت تسخرين مني.أنا في سن أبيك أو أكثر. شيخ لا أملك سوى لسان تتقاذفه الكلمات. وحتى لو صدقت أنك لا تمزحين، وحاولت أن أتغير، ستظل بركة الماء هنا سمائي وستظل سمائي وحل
:تراجعت إلى الوراء وأمعنت النظر فيه طويلا، قبل أن تسر إلى ممثلة أخرى
ـــ هذا الشخص مميز جدا وقد أقع في حبه فعلا من غير أن أشعر. صدقيني
ـــ قلت لك، لا تعبثي معه، أجابت الأخرى. أتظنين أن المخرج اختاره عشوائيا؟ ولكن أتفق معك، عيناه قاتلتين
أدارت الممثلة الفاتنة وجهها وانصرفت بعيدا عن مكان تصوير المشهد. لاحظ متروي أن نقاشا احتدم بين المخرج والممثل الرئيسي وأفراد من طاقم التصوير، تبين أنهم كتاب السيناريو، إضافة إلى معروف، السنيمائي المغربي، بصفته ثاني مخرج مساعد. كانوا يتحدثون وينظرون إليه بين الفينة والأخرى. لم يكترث كثيرا، سيقوم بما سيطلبونه منه، وسينتهي كل شيء. ابتسم وقال في قرارة نفسه: ‘لو تحقق هذا… أن يقترن بهذه الممثلة… في عالم آخر، ربما! ولكن، لو تحقق هذا؟ لن يعترض أحد هنا، وسيتحول إلى شخصية مهمة. ولن يطلب أحد شهادة العذرية من الممثلة. سيفتي من له حجة الإفتاء بأن هذه الخطوة فتح جديد في صراع الحضارات، وأن الفتح يصنف في خانة الجهاد الأكبر. سيعلن أعيان القبيلة تراجعهم عن طلب رأسه وسيقترحون، بكل يقين، إبرام صلح حديبية معطر بأجمل النقوش ــ حتى ولو لم يضعوا أيديهم على الوثائق الثمينة. هذه الوثائق الثمينة لو علموا أصلا ما تتضمنه من … آه لو يتمكن من اختزال أفكاره
لم يستمر في تيهه، اقترب منه معروف، وهو يحمل وجها تغلفه جدية كبيرة. تبعه المخرج وأحد كتاب السيناريو. شعر متروي بنوع من الرهبة. هل تجاوز حدود اللباقة، عندما تحدث مع الممثلة بتلك الجرأة؟ ما كان عليها أن تتهكم عليه بتلك الطريقة
:بادره معروف
ـــ أنت غريب الأطوار، وتنضح بالمفاجآت
ـــ لا أدري. هل قمت بفعل لا يرضي؟
ـــ أبدا. المخرج أعجب بطريقة تعاملك مع جينفر
!ـــ إسم الممثلة جينفر؟ لم أكن أعلم
ـــ نعم، إنها ممثلة ناشئة وجيدة
ـــ وجريئة
ـــ نطقك باللغة الانجليزية سليم
ـــ أعرف ذلك، ولست الوحيد في هذه الربوع
ـــ هل يمكنك أن تتذكر بعضا من الحوار الذي تبادلته مع جينفر؟
ـــ لا أفهم
ـــ كان ردك يحمل كثيرا من الذكاء. و يرى المخرج أن إعادة صياغته بطريقة أخرى، ربما تفيد السيناريو
ـــ هذا شيء يشرفني ويفزعني في نفس الوقت
ـــ حاول! إن فعلت، ستصبح مشهورا، وربما غنيا أيضا
ـــ أنا لا أريد أن أكون مشهورا، ولكنني سأحاول أن أتذكر. لوسمحتم، سأدون ما استطعت إليه سبيلا باللغة العربية وأعطيك إياه، بعد حين. ولك أن تترجمها على هواك
ـــ هل يمكن لك قراءة ذلك بعد الترجمة؟
ـــ أخشى أن أرتبك، فلغتي الانجليزية ليست جيدة عندما ينصت إلي ناس من أهلها
ـــ لا عليك، تقنيا، يمكن السيطرة على الوضع. تعامل مع الوضع كما تشاء. سنقوم بالترجمة فورا. وإذا لم نتوفق الآن، سيصلح الأمر لحظة التوضيب النهائي
ـــ هذا، إن لم يحذف المشهد أصلا
ـــ لا عليك. المخرج يفكر في أن تظهر في مشهدين على الأقل
ـــ سأنسحب للقيام بالمتعين. وأتمنى أن أتذكر
ـــ لا يهم. إذا لم تستطع، دوّن أفكارا من نفس الفصيلة. واستعد للتصوير في أية لحظة
ـــ أنا لا أقدم الوجبات السريعة، سيدي معروف
ـــ حاول! إن لم يكن اليوم، فغدا
اعتكف متروي في العربة، لم يتمكن من تركيب المشهد في ذهنه. كما أن جينفر ذكرته بالشابة التي توقفت عن المجيء. نفس الجرأة، ونفس الغنج والدلال. وكأن نسمة لعوبا تفيقه من غفوته، ولم يدر إلا ويده تخطف القلم الأخضر. فتح المفكرة البنية، وكتب
” الناس يموتون رغبة في إيجاد مكان يتكلم الجميع فيه لغة واحدة وأن يعم الصمت طول الوقت، ولكن المكان الوحيد الذي يمكن أن يحصل فيه هذا الأمر هو المقبرة، حيث الصمت واللغة الواحدة تتصدران المشهد