في القنطرة جلجلة: الجزء الثالث (1)
في القنطرة جلجلة
يفسر المتخصصون في تفسير الأحلام سرقة الجواهر في المنام بأن شيئا نفيسا سيفتقد. ولكنهم لا يجدون تفسيرا مقنعا لحلم البكاء على قارعة الطريق، سوى أن السكن مفقود. كما يفسرون فقدان السيطرة على مقود السيارة أو الدراجة أو لجام الفرس برغبة دفينة في التخلص من المسؤولية. وهذا الحلم شبيه بما يراه متروي في أحلام اليقظة. والحقيقة، هي أنه أصبح يفكر جديا في الهرب من جديد، كما فعل حين غادر تافراوت في جنح الليل. الحوار الذي أجراه مع مستعد أفرغ ما في نفسه من هوس، وجعله يشعر وكأنه تحرر من عبء ثقيل. ولكنه لا يصدق ذلك في واقع الأمر. كلمة المشورة التي كررها مستعد عدة مرات، قولا وإشارة، أصبحت كابوسا بالنسبة إليه. فهل يهرب مرة أخرى؟ وتذكر كل شيء وهو منكمش في عربته، وسط ديكور محبط رغم ضخامته. لم ينته التصوير بعد، لأن أحد الممثلين الكبار لم يأت بسبب حدث طارئ. العربة، ملاذه المثالي، كما كان الأمر في زمن ليس بالبعيد
“سكون الليل…كان يمسك الظلام بعينيه. الرمال…كان يجادل فحيح الأفاعي. الترقب…كان يرتجف من هسهسته… صحيح أنه أمن الأهم، وهو حفظ المخطوطات والوثائق المهمة، ولكن المتربصين به لم يفقدوا الأمل في إرغامه على الكشف عن مكانها. كان لا بد أن يكذب على أمه وأخته وزوجته مليحة. “أنا ذاهب في رحلة قصيرة لأمر جلل، وسوف أعود سريعا، قال لهن”. لم يصدقنه، ولكنهن لم يمنعنه من السفر، لأنهن يعرفن أنه لم يجد لسعيه خيارا آخر. قال للعدل إنه يعتمد على فصاحته كي يكبح فضول الجميع حتى عودته، لم يصدقه، ولكن رأى أن من واجبه التستر عليه هذه المرة. سكون الليل… قطع الطريق الطويل مرورا بشعاب صعبة وكل همه أن ينجح التمويه الذي خطط له بمعية صهره، راجح، الذي أظهر حنكة وشجاعة لا تضاهيهما سوى المخاطرة بسمعته وسط الأعيان. لكن راجح يعلم أيضا أن بقاءه هناك يشكل خطرا على الجميع. عندما یملك أحد المال والجاه والسلطة، فهو مرجعية. وعندما یفقد أحدها أو جميعها، فهو قطرة ماء في حنفية تتآكل بالصدأ وتتسيد فيها الصراصير
“وکان ذاك حظهما: راجح خسر، لأنه زوج ابنته الوحيدة إلى رجل يتموقع بين الدين والدنيا ويتصوف على هواه، ولم ينعم بحب حفيد يرفع رأسه بين الأعيان. ومتروي خسر، لأنه لم يخلف، بل اجتهد، رغم أنه أرغم على ذلك، في خلق كوارث كادت أن تعصف بالجميع. التضحية؟ ما معنى التضحية؟ وما وازعها؟ وما مداها؟ هل تكون التضحية آخر مسمار في نعش حياة لم تستقم يوما؟ هل تكون التضحية هربا من محنة لم تعد تحتمل؟ هل التضحية، فعلا، نكران ذات وقفزة في المجهول لإنقاذ الآخرين؟ مهما يكن، كان متروي يشق الطريق الوعرة لا يحمل سوى كيس متوسط الحجم يتضمن أغلى شيء بالنسبة إليه: مخطوطات ووثائق ثمينة
“الإيمان… هل الإيمان صك غفران في كل الأحوال، مهما اختلفت المعتقدات؟ الناس يغيرون معتقداتهم حسب تطور تطلعاتهم الدنيوية. وعندما يلتقي الدين بالرغبات المادية الملحة، تنتهي العلاقة بين الإنسانية من أجل الإنسانية والدين من أجل الدين؛ وفي الحالتين، يغيب الإيمان المتعارف علیه ويصبح الحديث عن الإنسان بدعة. کما یصبح الحدیث عن التضحية عبث. كشفت المخطوطات حقائق… كشفت الأوراد تصدعات… كشفت السلاسل الروحية نواقص يمكن تصنيفها في خانة الشغف بالانتماء الروحي، ليس إلا… قيل له: لا تتسرع! قد تندم! لا تنزع الخرقة عمن لبسوها في الماضي، لأن الماضي لا يستنسخ. من يبحث عن الحقيقة، لا ينحرها في وسط الطريق بدعوى ضرورة نحر قربان لاستمالة الأقدار. هل يكون هو نفسه القربان الذي يبحث عنه؟ كل مشروع جديد، یحتاج إلى دم جديد! لكن دمه ليس مقدسا، لا وليس إكسيرا يشفي غليل من يبحث عن ماء زلال كيفما نزل. الناس تسبح في الكذب وتلبس ثياب الصدق للتبرج. لكنه لا يكذب ولا يجنح إلى التبرج. لم التبرج إذا كانت الألوان لا تعني في معجم العمى أي جمال إلا جمال الروح حين تستفيق من سباتها؟ وهو استفاق الآن. استفاق ليهرب. هارب من جحيم الحقيقة التي أحرقت جزءا مهما من الذاكرة الجماعية لأهله وعشيرته. وقدره، الذي غدا يكرهه، يرفض أن يجعل منه ضحية، أو قربانا، أو سلسلة، أو خرقة. لكنه سيواجهه كي يقهره
“كانت المحطة الأولى عمادة جامعة ابن زهر، حيث سأل عن أحد أساتذته القدامى، مناجي، الذي يدين له كثيرا بما تعلمه من الفصل بين شؤون العقل وشؤون القلب، فعلم أنه انقطع عن التدريس لفترة طويلة، وأنه فضل أن يختلي بنفسه في جهة دكالة، بين أزمور والجديدة والبئر الجديد. حاول الحصول على معلومات إضافية؛ دون جدوى. وكانت المحطة الثانية، إيموزار إد أوتنان. سبق له أن زارها، أول مرة، في إطار تجربة فريدة عندما كان طالبا في جامعة ابن زهر. ثم زارها، بعد ذلك في إطار ندوات كان ينظمها أحد أصدقائه، معتصم، بعد تخرجهما. كان معتصم رجلا عارفا وأهل ثقة، جمع بين دراسة علم الفلك وعلوم الأرض وكذلك الفقه كهواية. لعبت إيموزار إد أوتنان دورا هاما في تكوين متروي الفكري، وكانت له مبارزات كثيرة مع بعض علماء الفقه والشريعة، تطورت أحيانا إلى سجالات لا تنتهي. كان يبدو لبعضهم أن إيمانه ليس قويا وأن درايته الواسعة بأصول الدين ليست سوى مطية، وأن ميولاته تسير في اتجاه العلمانية ــ بل الإلحاد، بسبب تكوينه في العلوم التجريبية. لم يكن يكترث لادعائهم. وتمكن في أكثر من مرة من أن يخرج منتصرا. ليس لأن باعه كان طويلا، ولكن لأنه كان صبورا في تحمل الانتقاد وملحاحا في تقصي الحقيقة. لم يكن غريبا إذن أن يستقبله الأهالي بترحاب كبير، وبكرم عهده فيهم في السراء والضراء. لم يكونوا يعلمون بما جرى، وهو ما أثلج صدره. لم يمض عندهم سوى أيام قليلة، وغادر بعد أن ائتمن معتصم على ظرف كبير مشمع من مقتنيات الكيس، على أن يسلمه إلى أخته لاحقا، إذا لم يتمكن من العودة في الآجال. ثم توجه بعد ذلك، إلى مولاي إبراهيم، نواحي مدينة مراكش، کمحطة ثالثة، واستقر عند أحد معارفه، مبارز، صديق الدراسة أيضا، من سكان المنطقة، يدير تعاونية نسائية تتخصص في صناعة الزرابي التقليدية. وانتهز الفرصة لیئتمنه على جزء آخر من محتويات الكيس، ظرف مشمع أيضا متوسط الحجم. كما أوحى إليه بتسليمه إلى راجح، إذا دعت الضرورة إلى ذلك. غادر بعد ذلك إلى أزمور، نشدانا للقاء أستاذه، مناجي، الذي ترك التدريس وتفرغ للتصوف بعيدا عن أماكن العبادة التقليدية، كما أخبر به في أكادير. کان قد نسي أن مناجی ینحدر من اشتوكة آيت باها، حيث تعیش أسرته التي كانت تنعم برغد العيش من خلال زراعة عشرات الهكتارات. ولكنه اختار حياة الزهد، وابتعد عن أسرته، تقول الشائعات، نظرا لأنه لم يكن راضيا على الطريقة التي اقتنت بها بعض الأراضي التي ترجع ملكيتها لرجل أصيب بالجنون وهو في ريعان شبابه، زوجوه إحدى بنات عامل فلاحي يشتغل في الحقول. كانت الزوجة بكماء وصماء، أنجب منها ولدا واحتفظ به مثل الرهينة إلى أن مات قبل إتمام مساطير انتقال الملكية، رغم تواطئ عدلين لم يكونا أقل خبثا وجشعا من العائلة
“لم يكن سهلا الوصول إلى إقامة مناجي، التي كانت على بعد عشرين كيلومترا، تقريبا من أزمور فی مکان يسمى ‘عش اللقلاق’، وهو إسم غريب، لأن المكان لا يحمل أي أثر لوجود هذا النوع من الطيور
ـــ ما الذي يقلقك؟ سأله أستاذه
ـــ أنا هارب من نفسي
ـــ وهل الهرب من النفس حل من أمرها؟
ـــ لا أعرف غير الهرب سبيلا، إن أنا ضعت لوحدي، سلمت أقوام؛ وهذا يكفيني ويغمرني بالسعادة
ـــ كلامك لا يستقيم. أنت هارب لأنك غير مستعد لكسر الحلة
ـــ أنا أحاول أن أحافظ على السر كي لا تتكسر الحلة
ـــ ومن أدراك أن الحفاظ على السر فيه خلاص للآخرين، وفيه قوة عزيمة من قبلك؟
ـــ أخشى أنني قصدت المكان الخطأ
ـــ أبدا، ولكنك غير مستعد
ـــ ربما
ـــ واصل رحلتك… ولا تعد إلى هنا أبدا. أنا تركت الدنيا لكم… والدنيا رائعة لمن يعيها. والدنيا مخيفة لمن يرقد على الجانب الخطأ
ـــ كنت أتمنى أن ائتمنك على شيء
ـــ لا أحبذ ذلك. كل ما يصدر عنكم ينتهي بما لا تحمد عقباه
ـــ إن الموضوع قصة حياة أو موت
ـــ لا أظن أنني أستطيع مساعدتك. ما الذي يدفعك إلى أن تثق في آخرين، وأنت لا تثق في نفسك؟ ألم يحدثك أحد من قبل عن حكاية الجمرة؟
ـــ لا، ما حكايتها؟
ـــ عندما يكون عندك سر ما ولا تستطيع الاحتفاظ به لنفسك، لسبب ما، فلأنه مثل الجمرة يحرقك وتريد أن تتخلص منه، لأنك لا تقوى على تحمل الحريق؛ ثم تنتظر من المتلقي أن يحترق مكانك… غير معقول
ـــ أنت أستاذي
ـــ ماذا تعرف عني؟ لا شيء. ربما أنني تغيرت؟ ثم لم لا تسأل نفسك لم أنا تركت كل شيء وانعزلت في هذا المكان؟ ربما أكون هاربا لغاية لا يعرفها سواي
ـــ أنا مشتت بين حقائق ولا أعرف كيف أجزم؟
ـــ للحقيقة رائحة واحدة، ولكن الناس يلبسونها عطورا مختلفة، رغم أنف حاسة الشم
ـــ علمتنا أن نثق بأهل العلم، وأنت منهم
ـــ ليس من يلبس خرقة، يتنفس بالتصوف. وأنت نفسك من أهل العلم
ـــ أخشى أن تكون ما زلت مصرا على موقفك منا
ـــ أنا لم أغير موقفي حول تفسير التصوف الذي كان يروج له جدك
ـــ ألم تقل لنا دائما إن المهم هو الاجتهاد؟
ـــ الاجتهاد في الطريق الصحيح
ـــ وما هو الطريق الصحيح؟
ـــ أنت تتهكم على الآن… الصحيح ما تؤمن به ولو كنت على خطأ، ولا تحمل البخاري ومسلم وغيرهما ما لا طاقة لهم به
ـــ أبدا
ـــ جدك، كان على علم بأشياء كثيرة وظل لسانه أخرسا، ولم يكن لسانه سليطا إلا لتبخيس من يلبس خرقة غير خرقة فصيلته
ـــ أحترم رأيك. كل ما أتمناه، ألا تنقلب الأمور رأسا على عقب
ـــ بادر أولا وغير من طريقة بحثك عن الحقيقة التي أنت هارب منها. أول خطوة يجب أن تقوم بها، هي أن تتنكر
ـــ كيف؟
ـــ ارتجل. لا تختفي في أماكن يمكن لمن يتعقبوك ــ إذا كان زعمك صحيحا ــ أن يجدونك فيها بسهولة
ـــ لا أستطيع أن أختفي على هواي
ـــ إذا كان ما بحوزتك شيء مهم، تصرف وتخلص منه. وإن لم تستطع، إبلعه
ـــ لا أستطيع
ـــ لك واسع النظر