الدكتور رشيد بنحدّو : النقد العربيّ في ورطة

الدكتور رشيد بنحدّو : النقد العربيّ في ورطة
الدكتور رشيد بنحدو

ألف خلطة وخلطة

والنقد العربيّ في ورطة

الدكتور رشيد بنحدو

(الحلقة الأولى)

ليس إطلاقاً نوعاً مِن نكء جراح قديمة أن أعود في 2023 إلى ترداد مقولة “الأزمة” في معرض قيامي برصد جديد (1) للوضعية الراهنة للنقد المغربي والعربي عامة. فلئن كانت هذه المقولة، في سبعينات القرن الماضي وثمانياته، لازمة كل خطاب يروم توصيف كيفية تعاطي بعض الكتاب لهذا النشاط الأدبي وتقييمَ حصيلته حينذاك، فإن غاية ما أسعى إليه الآن في هذا الرصد هي التنبيه إلى بعض الانزلاقات و الانحرافات المشينة المحسوبة زوراً على النقد الأدبي و التي أقل ما يمكن لي أن أقول عنها هو أنها مفارقات، بل و مغالطات حقيقية
يتعلق الأمر خاصة بعدم إدراك ذلك التعارض الجوهري، الذي تم الحسم فيه نهائيّاً من زمن بعيد، بين محافل مجاوزة للنص إذ تحيل مباشرة على الواقع الموضوعي، ومحافل محايثة لهذا النص إذ ترتهن تكوينيّاً به. فكم ناقدٍ عندنا لا يفرق مثلاً
بين الكاتب (كائناً حقيقيّاً يوجد خارج النص ويمهره باسمه الشخصي) والسارد (كائناً غير حقيقي يوجد داخل النص ويتكلم من خلال الكتابة)
بين إيديولوجية المؤلف (نسقاً خارجيّاً من التمثلات الاستهواءات والمواقف الذاتية و الطبقية الخ.) وإيديولوجية النص (نسقاً مضمراً ومستكفياً بذاته قوامه اللامقول واللامفكر فيه إلخ)
بين الشخصية الروائية (كائناً من ورق وكلمات) والشخص الإنساني (كائناً من لحم ودم)
بين لاشعور الكاتب (شبكة من الأحلام والاستيهامات والمستحوِذات والهلسنات الخ.) ولاشعور المكتوب (شفرة معقدة من الألغاز والانتحاءات والنماذج المثالية الخارجة عن إرادة المؤلف الخ.)
بين الواقع في الواقع (مرجعاً خارجيّاً محسوساً تساهم في تشكيله عوامل مادية موضوعية الخ.) والواقع في النص (مرجعاً جوّانيّاً تجريديّاً تساهم في صياغته تقنيات الكتابة الأدبية، تخييلاً وأسلبة وتسامياً الخ.)
بين معنى الكاتب (ذاك الذي يعتقد ببلاهة استيداعه في النص واضحاً وجاهزاً و نهائيّاً) و معنى القارئ (ذاك الذي يجهز به النصَّ وفق ذائقته الفنية و تمرّسه الجمالي و لعبه التأويلي)
بين تاريخ الأدب (عِلماً يهتم بدراسة السِّمات العامة، الثابتة أو بطيئة التطور، التي تكيّف، عبر الأزمنة و الأمكنة و الثقافات و اللغات، إنتاجَ الأدب، أجناساً و أساليب و أشكالاً و موضوعات الخ.) و النقد الأدبي (ممارسة علمية – فنية تهتم بدراسة منتجات الأدب من حيث الوسائط الجمالية التي تكيف أشكالها و الخلفيات الإيديولوجية التي تشرط مضامينها الخ.)
بين « l’Histoire »، أي مجموع الأحداث التي تقع في النص الروائي و التي يصطلح عليها ب “القصة”، و « l’Histoire »، أي معرفة و تدوين الأحداث التي وقعت في الماضي و التي تتصل بتطور الأمم، و من ثم تستحق أن يتم تخليدها في الذاكرة الجماعية، و التي يصطلح عليها ب “التاريخ”
بين الإنتاج (أي تصوّرُ الأدب من حيث هو إفراز حتميّ لشروط مادية موضوعية، و يكون الحاصل هو “العمل الأدبي”)، و الإبداع (أي اعتبار الأدب نشاطاً خارقاً من وحي شياطين و رَبّاتٍ، يختص به ملهَمون، و يكون الحاصل هو “الأثر الأدبي”)، و الكتابة (أي مصارعة اللغة و التصرف في تراكيبها و اللعب بألفاظها و التقلب في مسكوكاتها، و يكون الحاصل هو “النص الأدبي”)
لن أحاول استيفاء كافة مظاهر هذه الفوضى و هذا التسيب العارمين في مزاولة النقد، لأنها كثيرة. حسبي إذن أن أتفرغ فيما سيأتي لافتحاص نوعين خاصين من الالتباك والتشوش أرى أنّ من واجبي أن أتصدّى لهما من غير هوادة، لكنْ بكل موضوعية وسلامة طوية، لاسيما أنهما يفاقمان أزمة النقد عندنا. يتعلق الأمر بإيجاد علاقةِ تطابقٍ وتوافقٍ متعسفة بين إجراءات نقدية جدّ متباينة من ناحية، ثم بتلفيقِ تكاملٍ بين مناهج نقدية جدّ متمايزة من ناحية أخرى
آفة الْمَلغَمَةِ المنهجية
بحكم مواكبتي المنتظمة للحركة النقدية، المغربية والمشرقية، وبمناسبة إشرافي على بعض الأطاريح الجامعية لنيل الدكتوراه ومشاركتي في مناقشة بعضها الآخر كذلك، أمكن لي بالفعل أن أضبط عدداً من النقاد والباحثين متلبّسين بجناية الخلط الفادح بين “جمالية التلقي” و “نقد النقد”. والحال أن بينهما فرقاً جوهريّاً دقيقاً لا ينكره سوى ذوي الحسور في البصر
لعل أول ما ينبغي التنويه به – توضيحاً لهذا الفرق – هو أن جمالية التلقي (وليس نظرية جمالية التلقي أو جماليات التلقي كما يقول البعض خطأً!) تتمتع منذ نهاية ستينات القرن الفارط بحق الوجود الفعلي والمتميز ضمن منظومة المشاريع المعاصرة لنظريات الأدب، وتتبوّأ عن جدارة منزلة مرموقة ضمن أنساق التحليل    ومناهج التأويل المتداولة اليوم في أوربا وسواها. وما أهّلها لذلك هو في نظري ثلاثة عوامل على الأقل هي ارتباطها الوثيق بجينيالوجيا فكرية محددة، ألا و هي التقليد الهيرمينوطيقي الألماني،
تمثيلها لنوع من الإبدال ()الخَلاصيّ في سياق المآزق و الأزمات التي آلت إليها كل من الإيديولوجية الماركسية و الإيديولوجية البنيوية،
قدرتها على استثمار مكاسب الفلسفة الفينومينولوجية و الشكلانية الروسية و اللسانية السوسورية ونظرية التواصل ومدرستيْ براغ و فرنكفورت و البلاغة الجديدة
أما نقد النقد, فلا  يحظى، على رغم قدمه، بأية مكانة مضبوطة وثابتة ضمن هذه التشكيلة وتلك المنظومة. أو لنقلْ، تخفيفاً للحكم، إنه يحتل تلك الأحياز التي تركتها شاغرة نظرياتُ الأدب ومناهجُ دراسته. فهو إذن، وعلى رغم أهميته البالغة، يعيش في هوامش هذه النظريات والمناهج. ولعل هذا ما يفسر غياب أية دراسة نسقية، ممنهجة ومعقلنة، تتكفل بتعريف هذا الذي يُدعى “نقد النقد” وبتوضيح صيغة اشتغاله، وبتحديد اشتراطات تطبيقيه، وبجرد مكوّنات جهازه المفهومي، وبتعيين مقاصده. فكأنّ نقد النقد ممارسة بدهية ومسلّم بها، ولذلك فهي تستغني عن التعريف! أو كأنه نشاط حرّ تتضافر، من أجل تنفيذه، مهارات فطرية وكفاءات تلقائية تستعصي على التحديد الموضوعي والعقلاني
لن أمضي بعيداً في تخمين بواعث هذا الغياب المجحف. فلا شك عندي في أنّ نقد النقد إجراء علميّ ذو أهمية بالغة كما أسلفت. ولأنّ أحداً، فيما أحسب، لم يسبق له أن انبرى لتحديد ماهيته وحصر رهاناته، ولأنه يبدو بمظهرِ ممارسةٍ متحللة من أية ضوابط ثابتة أو وصفات جاهزة، فسأغامر بعرض بعض الأفكار العامة التي قد تصلح لتأليف مبادئ أولية لهذا النشاط، وذلك من أجل مقارنته مع جمالية التلقي
إن نقد النقد هو خطاب على خطاب، أي، وكما تدل تسميته على ذلك، إجراء واصف لاحق يتمرس أولا -بإجراءٍ واصفٍ سابقٍ. وبنفس التحديد السطحيّ، فإنّ جمالية التلقي خطاب على خطاب كذلك، باعتبار اختصاصها بالتلقيات النقدية للأدب. فكل منهما يتخذ الخطاب النقدي إذن موضوعاً للتأمل والتحليل. هنا تنتهي في تقديري علاقة التشابه بينهما
ثانيا إن نقد النقد يستمدّ علة وجوده مِن كونه بالأساس نشاطاً نقديّاً، أي ينتمي إلى حقل معرفيّ
– مخصوص هو النقد الأدبي. في حين أن جمالية التلقي، كما تصوّرها وحددها رائدها الألمانيّ /Hans Robert Jauss/ (هانس روبيرت ياوس) تجهر بعقيدتها التأريخية. فهي، على رغم مظهرها النقدي الذي تبدو به أو توحي به، أقرب إلى تاريخ الأدب منها إلى النقد الأدبي. ألم يراهن مشروعُ /ياوس/ على تطوير منهجية تاريخ الأدب التقليدي ليكون تحدياًً لنظرية الأدب؟ (2) فلئن كان نقد النقد يهدف إلى فحص خطاب نقديّ ما بغاية محددة هي تقدير قيمته المنهجية والمعرفية – كما سأوضح ذلك بعد حين – فإنّ جمالية التلقي تهتم بفحص تلقيّات القرّاء والنقاد، المتعاقبة تاريخيّاً، لنص ما بغاية تحديد طبيعة استجابتهم لهذا النص وانفعالهم به
ثالثا وارتباطاً بهذه النقطة، فإذا كان نقد النقد يَنظر إلى الخطاب النقدي بكيفية محايثة صرفة
– (immanence)أي كما هو في ذاته ولذاته و دون مجاوزته إلى ما هو سواه، فإن جمالية التلقي تستند كذلك إلى الخطابات النقدية المتواترة في التاريخ، لكنْ مع هذا الفارق الأساس، وهو أنها لا تتقيد بهذه الخطابات في حدود منطوقها، بل تتعداّها إلى موضوع هذه الخطابات، أي النص الأدبي مِن حيث هو حصريّاً موضوع التجربة الجمالية للقرّاء و النقاد
رابعا ولقد أومأت قبل حين، و على نحو غير مباشر، إلى افتقار نقد النقد إلى خطوات منهجية محددة
– تسعف مُمَارِسيه على حُسن تدبيره، بل و إلى مدوّنة مصطلحية منسجمة تنتظم ضمنها هذه الخطوات المنهجية. وأمام هذا النقص، أجدني مضطرّاً إلى تصورِ منهجيةٍ أوليةٍ تؤطر مزاولة نقد النقد وتقيّدها حتى لا تبقى موحية بالبداهة وبالجريان على العواهن كما يقال، منهجيةٍ أستطيع حصرها في ما سيأتي
(أ) يبدو لي أن أول ما ينبغي لناقد النقد أن يهتم به هو بالبداهة تجميع الدراسات النقدية التي ستؤلف المتن التطبيقي
(ب) بعد هذا، سيقوم بتنميط دقيق وصارم لهذه الدراسات بحسب خلفياتها النظرية وأسسها المنهجية. ولا شك لديّ في أن لهذه العملية أهمية متعددة الأبعاد. فهي من جهة أولى كفيلة بانتخال المتن مِمَّا لا يعدو كونه مثلاً مقالات صحفية إخبارية تعرّف بنص أدبيّ ما تعريفاً سطحيّاً. ثم هي من جهة ثانية تتمخض عن إقصاء الدراسات التي تشترك في توظيفها لنفس المنهج. وهي من جهة أخيرة تسعف ناقد النقد على تحديد واضح للأوجه أو المستويات التي سيتولاها لاحقاً بالتأمل و التحليل
(ج) وعلى أثر هذا الإجراء التنميطي (الذي قد يفضي مثلاً إلى تصنيف المتن إلى دراسات اجتماعية وأخرى نفسية وأخرى سيميائية…)، سيعمد إلى وصف الدراسات المختارة، لا بعرضها أو تلخيصها، بل باستجلاء أطروحاتها المركزية التي سيقوم بمناقشتها لاحقاً
(د) بعد ذلك، سينتقل ناقد النقد إلى ربط هذه الدراسات بأطرها الابستمولوجية (أي والحالة هذه بالتحليل السوسيولوجي أو السيكولوجي أو السيميولوجي… للنص الأدبي). ويكتسي هذه الإجراء الرابع أهمية بالغة كذلك، لأنه سيساعد الناقد على تقدير مدى وفاء النقاد أصحاب تلك الدراسات بهذه الأطر الابستمولوجية. ومن أجل هذا، يمكن له أن يتوسل على سبيل المثال بهذه الأسئلة: إلى أي حدّ استوعب هؤلاء النقاد المناهج السوسيولوجي أو السيكولوجي أو السيميولوجي؟ هل تصرفوا، عوض ذلك، فيها بغاية التوفيق بينها؟ ما مدى توافق الاطروحات المركزية لتلك الدراسات مع هذه المناهج؟ الخ
(ه) ويُعتبر تحليل الإستراتيجيات المتحكمة في تلك الدراسات عملية لا تخلو أيضاً من الملاءمة المنهجية: فهل هي مثلاً استراتيجية تعميمية تتعاطى النص الأدبي من حيث هو موضوع كلّيّ ناجز، أم هي استراتيجية تخصيصية يتجزأ النص بمقتضاها إلى وحدات أو عناصر؟ هل هي استراتيجية استقرائية أم استنباطية؟ تقريرية أم تدليلية؟ إطلاقية أم تنسيبية؟ الخ
هذا عن علاقة المتن النقدي المعتمد، في مرحلة أولى، بالمناهج النقدية في حد ذاتها. أما عن علاقته، في مرحلة ثانية، بالنص المنقود، فيمكن لناقد النقد أن يفحصها تبعاً لخطوات أوجزها كما يلي
تحديد نسبة ارتباط الخطاب النقدي بموضوعه، بمعنى هل النص المدروس هو منطلق الخطاب وغايته، أم هو ذريعة لإنتاج معرفة مجردة مزهوّة بذاتها ومرصودة لذاتها؟
التساؤل عن مدى إذعان هذا النص لتلك المناهج وارتضائه لها أو امتناعه عليها ومقاومته لها
التساؤل عن مدى اغتناء النص بتلك المناهج من حيث قدرتها على تعداد مواطن الجمال فيه وتفجير كمونه الدلالي، أو بدل ذلك افتقارِه بها من حيث اقتصارها على تكريسه كما هو شكليّاً وخِطابيّاً وعلى استنساخ معناه السطحي والمباشر
وبطبيعة الحال، فإنّ هذه الأفكار العامة، التي دوّنتها بسرعة حول طبيعة نقد النقد ورهاناته، لا يسعها أن تدّعىَ لنفسها لا الشمولية ولا كونها برنامجاً محكماً. يكفيها أنها مجرد مشروع أوّليّ لخطةِ عملٍ قابلة للتدقيق والتمحيص، بل ومقتضية لمجهود مَفْهَمِيٍّ خاص ((conceptualisation يتكفل بتصوّر المصطلحات الملائمة للدلالة عليها (أي خطة العمل) وعلى مراحل تنفيذها
ولقد اقترحتُ هذه الأفكار العامة لتكون بمثابة تمهيد لعقد مقايسة مفهومية دقيقة بين نقد النقد وجمالية التلقي. فإذا كان نقد النقد ممارسة مازالت تفتقر، كما أسلفتُ القول، إلى جهاز مصطلحي يضبطه ويوجّهه، فإن جمالية التلقي تنبني، خلافاً لذلك، على ترسانة منسجمة من المفاهيم والمصطلحات تحدد برنامجها النظري وخطواتها الأدائية، ليس أقلها “أفق التوقع” و “التمرس الجمالي” و “منطق السؤال والجواب” وسوى ذلك مما سأتعرض له بعد حين. (3)
(يتبع في حلقات)

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com