الإنسان ليس وحده سيد الطبيعة

الإنسان ليس وحده سيد الطبيعة

رواية يلزمها الكثير من التمحيص وتعميق الحفر نقديا…

في رواية خط الزناتي لشعيب حليفي

                           عبد الواحد كفيح

تقديم لابد منه:

بروايته الأخيرة “خط الزناتي” يكون شعيب حليفي “قد ضرب لبيض ف لكحل”، وانتهى من حيث بدأ، وقد أماط الستار عن مشروعه الكبير الذي وضع حجر أسسه منذ زمن الشاوية، حيث الاحتفاء بالفضاءات الرحبة، هناك في البادية وعوالم الطبيعة البكر، والاحتفاء بأهل البادية ورائحة التراب وكل الكائنات الحية التي يقتسم معها الإنسان القروي حياته ومعيشه اليوميين. وحيث الانتصار للثقافة الشعبية ولكل ما هو هامشي. ومازال حليفي ماض في مشروعه الثقافي التنويري مؤسسا لفعل ثقافي تشاركي نادر غير مسبوق، حيث يدق أوتاد خيمته في تربة المغرب العميق، خارج أسوار المؤسسات الرسمية حاملا لواء “ترييف” العمل الثقافي الوازن الجاد وإيصاله لقاعدة واسعة من القراءة والمهتمين والعاملين بالمجال الثقافي، سالكا في ذلك طرقا غير معبدة، وغير مألوفة، وواضعا الأصبع وبقوة على مكمن الخلل في العمل الثقافي والأنشطة الثقافية، أي ألا تبقى حكرا على فئة معينة من المحظوظين في المدن والحواضر حيث الكليات والمعاهد والجامعات وطلاب المدارس العليا. لقد اختار هذا الكاتب والمثقف السير في الطرقات غير المعبدة التي لم يسلكها أو بالأحرى لم يرها ولم ينتبه إليها الآخرون، مؤمنا وموقنا يقين المتصوف أن السير في الطرقات العادية والمعبدة والمألوفة لن توصل في نهاية المطاف إلا إلى محطات عادية ومألوفة ومكرورة، وهو ينشد المحطات العذراء المدهشة غير المعروفة. وهناك في مداشر وقرى نائية ينزل بكل عدته الثقافية وعتاده المعرفي المتمثل في لفيف هائل من الشباب الباحثين، أولئك الذين لديهم قدرة هائلة على التواصل الإيجابي. يحطون الرحال حيث رائحة الطين، وحيث الإنسان المغربي القروي الضاربة جذوره في عوالم السرود العظمى وعالم الحكايا والأساطير والأحجيات الكبرى، والملاحم القصصية الشفوية المدهشة التي تناقلتها ألسنة الرواة والحكواتيين والرعاة، وجرت على ألسنة السابلة والتروبادور الجوالين التائهين في أرض الله الواسعة وعابري السبيل. تُضرَب الخيام في احتفالية مبهرة في مرابع أقصى البوادي المغربية، فيهب إليها الحجيج من مختلف الأجناس والأعمار، قادمين بحماس عتيد من كل فج عميق، كلهم دهشة وفضول، ضاربين موعدا استثنائيا مع قافلة المثقفين الذين خلعوا عنهم رداء الأكاديميين المعتكفين في المختبرات الباردة، القابعين في الأبراج الشاهقة، ليعتمروا جبّة الناس العاديين، ويصطفوا إلى جانب الهامش من أجل اللقاءات الدافئة والتفاعل مع المهتمين بالشأن الثقافي، والذين نظرا لإكراهات وظروف وجدوا أنفسهم بعيدين عن مراكز المدنية.

خط زناتي”: الإنسان ليس وحده سيد الطبيعة ومالكها  وبعيدا عن أي مقاربة ممنهجة قد تبعد النص عن مغزاه وتحمله ما لا يحتمل، فقد حرصت، في هذه الورقة، على الاعتماد على الذات المنصتة لنبض النص، العاشقة لكل عمل جديد للروائي شعيب حليفي. وفي قراءة تأويلية لعتبة المتن الروائي نلفي هذا الزعم واضحا في خط الزناتي: الأبيض المرسوم في الأسود، لبيض ف لكحل. وفي هذا التجانس الثنائي والتقابل الضدي رسالة مفادها أن الحياة برمتها لا تستقيم إلا بزواج الأضداد، وإلا فستكون مملة بلا طعم ولا ذوق ولا متعة ولا دهشة، ولا توازن.

في غرة الرواية دس لنا الكاتب عنوة لغما  غير بريء كأن يعلن أن أحداث الرواية حقائق وقعت بالفعل، وهنا وجب استحضار مقولة ثق في القصة ولا تثق في القاص، حيث عمد لإيهام القارئ بواقعية الأحداث  ليخلق لديه الدهشة والإمتاع ثم توريطه في التماهي مع عالم الرواية للوقوف على التنويعات  الواردة في أحداثها  من واقعي وغريب ومتخيل وحقيقي، والإقبال على القراءة حتى متم الرواية في اجتهاد مضن لتفكيك المعاني والدلالات بدءا من مخلوقات حيوانية قيل إنها في البدء كانت آدمية فتحيونت ومسخت على شاكلة كلبة وقنفذ وقنفذة وحمار وهدهد وغيرها من الطيور والحشرات لكنها تتمتع بما يمتع به الإنسان من قوى الإدراك الحسي والمعنوي، ويتشابه سلوكها إلى حد بعيد مع سلوك الإنسان ومنها وفاء الكلب مثلا، الذي يتفوق فيه على الإنسان بكثير، وكأن الراوي  بهذا يقول لنا: إن الإنسان ليس وحده سيد الطبيعة ومالكها كما أنه ليس بالضرورة متفوقا على الحيوان، لتطلع لنا في خضم هذا الزخم من التأمل، ومن  حيث لا ندري الآية الكريمة: (( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ.((

وتتعدد الأسماء والألقاب للشخص الواحد، وتلبس الأسماء عنوة لشخصيات أريد لها ان تتعدد فيها الوجوه والأنوات بتعدد الأقنعة، فشخصية الراعي الحيمر مثلا كان مجحوما من الكلاب المحلية الشاردة مسخ على هيئة إنسان حسب ماورد على لسان “الكلبة سوسو” و (تأنسن). والكلبة التي قدمها الراوي للقارئ بخطاب سردي يبرز جوانب إنسانية متعددة تظهر جلية في سلوكها، بل في كثير من المواضع صور أحاسيسها ومشاعرها المختلفة حسب الحال والمآل..  أما الشيخ، المقدم، البرغوث، البشير، بيشا، قونفو، فقد تعددت أسماؤه البشرية وألقابه، والوجه واحد، كما أننا في تمفصلات أحداث الرواية نجده يحلم بأن “يتحيْون” أو ” يتحيْشر” ويُمسخ على شاكلة برغوث يدخل الجنة من باب الالتصاق بشعر زيرا، بل نجد أن أنثى القنفذ بعد تساؤل حارق عمن يكون؟ ردت عليه (أنت القنفذ يا برغوث) ص 162.هذا علاوة على اسم دويدو النمس الذي يحيل كذلك على الدود والحيوان.

كل هذا يدفع به الراوي موسى الزناتي المتحكم في صيرورة السرد في خطاب روائي مدهش، عارضا على القارئ-كلما أتيحت له فرصة أخذ نفس -أن يعرف بتاريخ كل شخصية على حده، كاشفا عن أسرارها الغريبة والعجيبة، مفككا شفراتها الغائبة والمغيبة، من واقع وخيال ومسخ وعوالم حيوانات وطيور وحشرات. إن حشرة الخرتوت أو الخنفساء قد تحيل على المسخ والتحول عند كافكا، كما قد تحيل أيضا على العذاب الأزلي للإنسان مع أسطورة صخرة سيزيف، فمنذ الأزل والخرتوت في عذابه اليومي مع تكوير الروث. كما يتبدى المسخ في الفراشة التي تحيل بدورها على التحول والميتامورفوز، لأن الفراشة منذ الخلق الأول نشأت في الشرنقة لتتحول إلى دودة، ثم تمسخ الدودة فراشة، فتلك حياة الإنسان المنذورة للتحول والتشكل والتغير، وهذا ما نلفيه في الرواية حيوانا، أو طيرا، أو حشرة.

لقد وظف الكاتب في كل هذا خيالا جامحا غير مروض يدفع به إلى أقصى الحدود الممكنة والمستحيلة، فنجد الواقعي والافتراضي والمتخيل والحقيقي والغريب المدهش والعجيب في سمفونية طبيعية متناغمة تتحرك ضمنها الأشياء والأشخاص، وتصدح بأوركسترا حوار الأصوات الضاااااجة ليلا ونهارا في فضاء رحب في زمن مطلق تتجاور فيه كل الكائنات الحية وغير الحية جنبا إلى جنب، حتى أضحى الإنسان جزءا من الأرض وأضحى الحيوان جزءا من الإنسان، وكذا الأشياء، حيث تأنسنت حبيبات التراب والغبار وصارت لها خصيصة الضحك ص 119 والانتماء للإنسان ( وبات الغبار جزءا مني) ص 71، ليتبدى للمتلقي إنما اتخذ الراوي روح كل كائن (وعاء يأخذ، في كل مرة ، الروح التي أريد أن توافق مزاجي) ص 185

يناور الراوي في سرديته من الداخل والخارج، تارة تلفيه جزءا من الحدث، وتارة يختفي خلف كل الشخصيات الفاعلة في النص. ويسمح كل هذا بتعدد الخطابات..وبين هذه المناورة وتلك يتخذ السرد توازنا ملحوظا في مجمل وقائع الرواية مشكلا عوالم داخل حيز زمني ومكاني ضيق، لكن السرد يتمدد ويتقلص حسب كل نقطة تبئير في الرواية رغم ما يتبدى للمتلقي بأن الزمن الفيزيقي في الرواية ينقسم طيلة يوم واحد منذ الصباح الباكر إلى الظهيرة إلى وقت العصر حيث تختلط الأوقات (ساعة العصر..تختلط الأزمنة كلها) ص 49  في آخر يوم في موسم الحصاد إلى جزيئات وجزئيات:  صباح، ظهيرة، ومساء، فهو يتوازى ويتعامد ويلتقي في سردية لا إحداثيات فيها تحدها، سواء من حيث التاريخ (زمن لا محدود) خاصة في حالة العودة بين الفينة والأخرى الى الماضي ( ماضي الشخصيات) ومن خلال زمن أكبر وأوسع وهو زمن  موسم الحصاد حيث يلبس الزمن الزمن ليتلبسهم زمن أوسع وأشمل وأكبر وأكثر تمددا، وهو زمن العودة إلى ماض موغل في القدم، فيما لا تتوقف مكينة الزمن الكبرى – التي جاءت على  شاكلة جوندير – تطحن الساعات والأيام طحنا

 وبما أن الرواية في تعريفها العادي والمكرور هي مرْكبٌ للخيال تتصارع فيه الشخصيات بقيادة سارد أحول لا ينظر الى الأشياء كما هي، بل بعين مخاتلة، يجدر بالقارئ إخضاعها لأقنوم الاختبار في مختبرات التمحيص والتأويل وإعادة التأويل والهدم والبناء والتشييد ( ينتظر إشارة من الغيب….يؤمن أن حياته لا تفسر إلا بالعلامات) ص61 ولأنه حقا فإن  كل العلامات والرموز الموجودة بين السماء والأرض فيها سر، وكل سر فيه ما لا يعد ولا يحصى من الأسرار، في متوالية بل صيرورة لا متناهية من الأسرار، اختار لها الكاتب فضاء القرية كما هو ديدنه في مجموعة من أعماله حيث عالم الحكايا الشعبية وأساطير الغرباء الجوالين التائهين التروبادور الضارببن في أرض الله الواسعة. اختار الفضاء المفتوح اللامحدود، الفضاء المتحرر، فضاء الهواء الطلق ليعجن الواقعي بالعجيب والغريب والمدهش وعلاقة ذلك بالحقيقة، وحجتنا في ذلك هو مناورة إشراك الحيوان والإنسان بالأفعال الإنسانية والسلوكيات الحيوانية.

وإذا كان جوهر الخط الزناتي هو (النقطة) للتنبؤ والحدس والاستشراف فالكاتب يدفع (بالحرف) ليكون مركز الزمن الحاضر والماضي والمستقبل، أي الحرف بكامل حمولته الدلالية إبداعيا ورمزيا، كما يتبدى في العتبة الأولى من غلاف الرواية الذي ضرب فيه الأبيض في الأكحل مومئا غير مصرح بموروثات متعلقة بحياة الناس ومعيشهم وسلوكهم اليومي في عوالم البدو المنذورة للصفاء والبراءة ونقاء السريرة. كل ذلك يدفع للتأويل والتأويل المفرط لاستجلاء المعاني الثاوية في كل عبارة وكل تعبير.

خط الزناتي“رواية ذات شخصيات قليلة تنبض حركية ودينامية في حيز مكاني واحد، في زمن قصير، لكن أحداثها وبناءها الفني تجعل الزمن يتمدد ويتقلص حسب اللحظة السردية، كأن يتوغل عميقا في زمن غابر حيث السيبة ولا سلطة ولا قانون (قتل عاشور) ويستعمل الكاتب في هذه الالتفاتات إلى الماضي البعيد تقنية الخط المضغوط الواضح المتميز. حكايات لا يمكن أن تفهم جيدا خفاياها إلا في سياق معين وتتمكن من فك شيفرة كل لقب واسم ومكان وموضع لقاء ولقيا حيث الطبيعة البكر وحيث صراع الانسان الأبدي مع هذه الطبيعة بعوالمها المكتظة بالمتناقضات مما يعطي للحياة تميزها ودهشتها البكر، وحيث يصير الإنسان جزءا لا يتجزأ من مكوناتها، إذ كيف يستقيم له العيش إن لم يتعايش ويقتسم العيش مع الحيوانات والطيور والنباتات وغرائب المخلوقات التي يحتك بها ويحاكيها ومنها يتعلم (العوم والانصات والحب والشراسة ص 61) حتى إنه من كويرات روثها ” البريو” يلهو ويتسلى. وفي تصوير بديع للكلبة سوسو حينما يؤنسنها ويجعلها كما لو أنها خلق آدمي حقيقي وهي تراقب وتختلس النظر، وتتأمل بل تضحك، ولنا في تعدد أنواع الطيور الجميلة آية (كرزيط .بوصرندل.الحسون..بوعميرة…الكروان الصحراوي….الحمام..الهدهد…الطاووس…البوم… قطا الكدري..

خط الزناتي” رواية يلزمها الكثير من التمحيص وتعميق الحفر نقديا للوصول إلى رؤاها العميقة وطابعها الإبداعي المتفرد، حيث تتقاطع فيها، كما أسلفنا، عجائب وغرائب الحيونة والأنسنة مع كل ما يحيل عليه الخط الزناتي في اعتقاد عامة الناس من امتلاك الحدس والتنبؤ وقراءة الطالع والرمل وتصورات غيبية.

للمراسلة
labonarratologie@gmail.com
مختبر السرديات – الدار البيضاء  المغرب
Laboratoire de Narratologie
Faculté des Lettres et des sciences humaines
Ben M’sik Casablanca – Maroc

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية مديرة وإعلامية موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بمغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل و المراسلات:jaridatealwane@alwanne.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *