في القنطرة جلجلة( الجزء الثاني 2)

في القنطرة جلجلة( الجزء الثاني 2)
صورة الغلاف للتشكيلية الازربيدجانية جميلة هاشموفا
الكاتب:حسن حامي

في القنطرة جلجلة

ـــ هل يمكن أن نجالسك بعض الوقت؟ بادرت السيدة بالسؤال، بينما اکتفى رفيقها بالابتسام
ـــ بكل فرح. تفضلا
ـــ سنوفر عليك وعلينا بعض الوقت؛ أنا إلهام وزميلي هو مترجي. نحن مفتشان، أعني ننتمي إلى أسلاك الشرطة
ـــ شرف أن أتعرف عليكما. لم أتعبتما نفسيكما؟ كان يمكن استدعائي إلى المخفر
ـــ لا عليك! الغاية من زيارتنا تتلخص في سؤال واحد: هل تعرف الشخص الذي أتى لزيارتك مؤخرا؟ سألت إلهام
ـــ لا أتذكر، ناس كثيرون يمرون من هنا
ـــ نحن على يقين أنك تتذكر، دخل مترجي على الخط
ـــ آه! تذكرت الآن؛ أنتما تعنيان ذلك الفضولي الذي سألني كيف أتعايش مع الكلاب والقطط والجرذان؟ لا أعرفه شخصيا، ولكنه كان وقحا إلى حد الغثيان
ـــ هل سبق لك أن رأيته من قبل؟ سألت إلهام
ـــ أبدا! أو على الأقل منذ أن استوطنت القنطرة.  معذرة، لأن الذاكرة أصبحت تخونني، ولهذا السبب، أحاول تدوين كل شيء حتى لا أنسى. أرى مثلا أن حكاية القلم والمداد الأخضر لغز كبير بالنسبة لي
ـــ لا تهمنا الأقلام الآن! من فضلك، جاوبنا على سؤالنا بوضوح وسوف نتركك في حال سبيلك، تدخل مترجي من جديد
ـــ أنتما مخطئان على طول الخط… الأقلام، مهما اختلفت ألوانها، مهمة لأنها تنطق. ولكن هذا موضوع لا يهمكما، وأنا أتفهم الأمر؛ ولكن ما لا أتفهمه هو أن تحاولا إرغامي على الإقرار بأني أعرف شخصا لا أعرفه. صحيح أني أتذكر بعض الشيء
ـــ ما هو؟
ـــ كان وسيما جدا
ـــ وكانت عيناه تنضحان بالخبث
ـــ كيف ذلك؟ سألت إلهام
ـــ كان يحاول، مثلما تفعلان الآن، أن يستدرجني لأقول شيئا كان ينتظر على أحر من الجمر أن يسمعه مني. هذا لا يعني، ما عاذ الله، أنني أدعي أنكما خبيثين مثله. لكنه لم يستطع، ولم ينتظر. طرحت عليه بعض الأسئلة، بدوري، ولكنه غادر قبل أن أنتهي من أجوبتي
ـــ لا عليك. فقط لمعلوماتك، الشخص الذي زارك خطير جدا. وسامته تخفي شخصا لا يتردد في القيام بأي شيء من أجل تحقيق مآربه. وعلى ما يبدو، فإن القنطرة والجوار يثيران شهيته لغرض في نفس يعقوب
حاول متروي أن يلطف الجو، فقال
ـــ ما له وما ليعقوب لا يهمني في الوقت الحاضر. كل الذي يهمني، هو تنظيف أصبعي وإيجاد جواب لمعضلة اللون الأخضر
ـــ حاول أن تكون أكثر تركيزا معنا؛ سوف يعود هذا الشخص لزيارتك. وربما سيعرض عليك شيئا. إذا فعل، إستمع إليه، وحاول أن تتصل بنا
ـــ لا شأن لي به ولا بكم ولا بهذه القنطرة! فربما قد حان الوقت بالنسبة لي لأغير المكان
ـــ لا تتذاكى معنا أكثر من اللازم! نحن نعرف عنك أشياء كثيرة
ـــ لم يكن قصدي أبدا أن أتذاكى. لو تعلمان مدى الاحترام الذي أكنه للشرطة
ـــ الشرطة تقوم بواجبها، رغم كثرة الشائعات التي يروجها الناس. ولكن يبدو أنك لا تحترمها بالقدر الذي تظهره نحوك أنت بالذات
ـــ آسف جدا على سوء الفهم
ـــ لا تأسف كثيرا الآن! القادم سيكون سببا لأسف أكبر. هل تعلم لماذا؟ لأنك تستمر في التذاكي
ـــ أبدا
ـــ هل متروي إسمك الحقيقي؟ فاجأته إلهام
لم يكن ينتظر هذا السؤال. بدأ في التخبط. أحس وكأن سبابة يده اليسرى تقفز من مكانها. لم يدر كيف يجيب
ـــ لا تظن أننا نائمون. ننصحك بالتروي يا متروي أو يا من تكون غير الذي تدعي أنك هو
ـــ الناس يلقبونني بهذا الإسم
ـــ سوف نرى
ـــ الناس يعرفونني بهذا الإسم؛ وهذا هو المهم
ـــ وهل تظن أنك تستحوذ على هذه القنطرة بلا رقيب ولا حسيب؟ سخر منه مترجي. وتابعت إلهام
ـــ وهل تظن أيضا أن المتشردين وأصحاب السوابق تركوك في حالك، لأنك خدعتهم ببعض الكتب القديمة، وأثاث لا يصلح لشيء ودروس تعطى لجرذان وكلاب وقطط؟ هذه الحيوانات تأتي لتستمع إليك، لأنك تطعمها في وقت معين. مهما يكن، حاول أن تتعاون معنا، وستكون الأمور على أحسن مايرام
غادر المفتشان. صحيح أنه يطعم الجرذان والقطط والكلاب، ولكن الجماعة التي تعودت على حضور دروسه الصباحية محسوبة ولا تتغيب أبدا، بينما الحيوانات الأخرى تأكل وتذهب إلى حال سبيلها. المفتشان مخطئان تماما. ولكن سؤالهما حول إسمه الحقيقي يعد مبعثا حقيقيا للقلق
حمل متروي فأسه من جديد وتجاوز المنطقة التي اعتاد أن يحفر فيها. دفن صندوق الأظافر. تناهى إلى سمعه ما يشبه الأنين. نظر حوله، لم ير أحدا. عاد أدراجه بسرعة إلى العربة. ما الذي يريده الناس منه؟ ألم يترك لهم المكان؟ بعد برهة، سمع نفس الأنين. تأكد هذه المرة أنه يهذي. قرر أن يغير الجو. جمع بعض ملابسه وتوجه إلى الحمام الشعبي. وفور وصوله، بادره ‘الكسال’ مصطفى:”أين غبت يارجل؟” لم يفهم السؤال؛ هو لم يغب أبدا. آخر مرة أتى فيها إلى الحمام، كانت الاسبوع الماضي. لم يسعفه الكسال وأضاف: “لقد قلقنا عليك يا رجل”. لم يجبه. لم يحتمل أن يردد الكسال كلمة “يا رجل”، لأنها أصبحت متداولة مؤخرا من فرط سيطرة تيارات دخيلة تتقمص أدوارا ليست أدوارها وتتكلم لغة ليست لغتها
خلع متروي ملابسه وانطلق ليغطس رأسه في سطل كبير من الماء الدافئ. كم كان الشعور رائعا! استلقى على ظهره وأخذ ينظر إلى السقف، حيث كان البخار يتشابك قبل أن يسقط تباعا على الأرض على شكل قطرات، وكأنها تقرع أجراسا خرافية. استوى ليشاهد مستحمين آخرين يغتسلون، كل حسب وتيرته. حز في نفسه أن بعضهم لا يحترم شروط النظافة، ولا يتردد في حلق شعر لحيته أو عانته، بدون حرج؛ بينما كان البعض الآخر يتسابق حول الصنابير ليملأ دلوا تلو الآخر، وكأن الماء سينفذ بعد حين. أثار انتباهه رجل يغسل جسد طفلة لا تتجاوز الرابعة من عمرها. كانت تحدق في المستحمين برهبة وخوف، وبين الفينة والأخرى، كانت تخفض نظرها. كانت تقاوم الرجل، كلما حاول أن يمرر كيس النظافة على ظهرها. وتبين لمتروي أن السبب يعود إلى وجود وشم بين الكتفين يزينهما. كان الوشم يمثل برتقالة تتوسطها صورة رضيع. خمن متروي أن تكون صورة الرضيع هي صورة الطفلة في أشهرها الأولى
 لم تكن الطفلة سعيدة إطلاقا بحركات الرجل، الذي لم يعرها أي اهتمام. وتبين، فيما بعد، أنه أبوها. كان، بدوره، غارقا في التفكير ـــ دلت على ذلك حركاته النمطية التي لم تسعفه لكي يرى أن يديه تلمسان، بلا مبالاة، كل أعضاء جسم ابنته. لم يتمالك متروي نفسه، فنهره. استفاق الرجل من تيهه واعتذر. وفسر تصرفه العشوائي بكونه يرافق طفلته إلى حمام الرجال مرغما، لأنه أرمل ولم تتطوع أية واحدة من نساء الأهل أوالجيران لمرافقتها إلى حمام النساء. نزلت دمعة سريعة من عيني الطفلة، ونظرت إلى متروي، وكأنها تطلب منه أن يسامح أباها. احتضنها أبوها بدوره وهو يقاوم الرغبة في البكاء
حاول متروي أن يلطف الجو، فبادر الطفلة بنبرة حنونة
ـــ الوشم في ظهرك جميل جدا
ابتسم أبوها وشرح
ـــ إنه يجسد آخر صورة رأتها أمها قبل أن تسلم الروح
سكت قليلا، ثم أضاف
ـــ توفيت بعد صراع طويل مع المرض
تمهل من جديد، وبينما كانت ابنته تنظر إليه، استرسل
ـــ الصورة تمثل “إرشاد” ــ هذا هو إسم هذه الأميرة ــ وهي لم تتجاوز السنتين
ـــ من أنجز الوشم؟ لا بد أن ذلك كان مؤلما بالنسبة لطفلة في سنها
ـــ كانت تلك رغبة أمها. ثم لا تنس أن الوشم عادة عندنا في الجنوب. نعم، إنها عادة في طريق الانقراض، لا أحد ينكر لك. المهم هو أنني وباقي أفراد العائلة لبينا رغبة المرحومة
ـــ على كل حال، الوشم رائع
 أكد الرجل بإيماءة من رأسه، وهو يحاول أن يضفي على المشهد مسحة من المرح
ـــ شكرا جزيلا يا عمي
همست الطفلة، وهي تعود من بعيد. في تلك اللحظة، تمنى متروي أن يقفز من مكانه وأن يحضنها. هذه البراءة! هذه العفوية! هذا الغنج! هذا السحر
الوشم الجميل يذكره بأمه. كانت تعتبر الوشم شيئا مقدسا. وكم كان صعبا إقناعها بعدم إخضاع ابنتها الوحيدة لطقوس الوشم. قاطعت جميع أفراد العائلة لأشهر كتعبير عن غضبها الشديد
ـــ هل أنت مستعد، يا رجل؟ خاطب مصطفى متروي
ـــ أنا غير مستعد، ولا تخاطبني “يا رجل، يا رجل!”، فأنت تذكرني بزمن كان كلما كثر فيه التلفظ بكلام العفة والصلاح، فسدت الأخلاق
ـــ هل أنت مستعد أم لا؟ لا تنس أنني الوحيد الذي أقبل أن أنظفك
ـــ مستعد. تفضل. معذرة
نعم، ضاق متروي ذرعا بجمل أصبحت القوت اليومي لتجار الفضيلة، تبلغ مداها عشية كل جمعة أو مناسبة دينية. كانت قناعته الأولى والأخيرة أن الأخلاق، كما كان يراها وهو في ريعان شبابه، قد ضاعت في أروقة التقوى المستعارة، ولم يعد الاعتداد بها إلا للتمويه أو للتعالي أو لتقليد الآخرين
ـــ كم أنت محظوظ! لاحظ مصطفى
لم يجبه، كعادته، عندما يكون متضايقا
استرسل مصطفى
ـــ نعم أنت محظوظ؛ لا أولاد، لا زوجة، ولا هم يحزنون
نفس التعبير النمطي
ـــ أما أنا، فأعيش ظروفا لا أحسد عليها، تابع مصطفى. متزوج وعندي ستة أولاد. أستأجر غرفة ونصف مع الجيران، وصاحب البيت لا يقدر الظروف ويريد الحصول على سومة الكراء في وقتها. وأنت تعلم، كم أصبحت كلفة الحياة لاتحتمل بالنسبة للضعفاء مثلي. ثلاث من بين أبنائي حاصلين على شهادات عليا ولم يجدوا عملا مع الحكومة. ولكن البكر من بينهم يستنفذ صبري الذي كاد أن ينفذ أكثر من مرة. أكره أن أراه يتجول مع زمرة من أقرانه، علمت أن لهم توجهات لا تبشر بخير
من الذي أجبره على الزواج وإنجاب نصف دزينة من الأولاد؟ تساءل متروي في قرارة نفسه. التذرع بالظروف، لا يكفر عن زلة الاختيار الأول
ـــ زوجتي تعاني من مرض مزمن، تابع مصطفى
كل الناس يعانون من مرض ما. مالفائدة من التذكير بذلك في كل لحظة؟
ـــ طلبت من رئيس الدائرة أن يساعدني. لم يستجب. أنا أعرفه جيدا. كان أبوه من بين زبائني. لا تغرنك المظاهر! فأبوه كان بائعا متجولا، وكم من مرة استلف مني بعض الدراهم. ولكنه كان يعيدها بعد أن تتيسر الأمور. كان رجلا فاضلا. وقد علمت أنه ليس على علاقة جيدة بابنه. يبدو أن ابنه يسعى إلى نسيان الجزء المؤلم من حياة أسرته
النميمة! الحسد والغيرة! قلة الحيلة مع تعاقب الضربات! هكذا هي حياة من يتسبب في مشاكل لنفسه، ويريد من الآخرين حلها مكانه
..ـــ الناس لا يؤتمنون
كيف أن الناس لا يؤتمنون؟ غريبة هي الأسئلة التي يرددونها على مدار الساعة؛ ورغم توفرالأجوبة، لا يأبهون، وكأن همهم الأول والأخير هو التباكي
ـــ الله وحده يعلم كم أحبك في الله. هل تعرف لماذا؟ لأنك تستمع إلي دائما ولا تقاطعني. أنا متأكد من أنك تفهم كل شيء… فلا تغب هذه المرة، يا رجل
انتفض متروي، وكأنه أصيب بمس من الجنون، وقال
“ـــ أرجوك، إعفني من هذه الكلمة! “يا رجل، يا رجل، يا رجل
!ـــ معذرة
ـــ لا بأس، بدوري أحب أن أسألك، لم لا يشتغل أحد أبنائك بائعا متجولا؟
:نظر مصطفى في وجهه والغضب يتطاير من وجهه، وأجاب
!ـــ لا يمكن
ـــ كيف لا يمكن؟
.ـــ لا يمكن، والسلام
(يتبع)

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com