أقصوصة : عين الشمس

أقصوصة : عين الشمس
لوحة للتشكيلي السعودي الراحل عبد الحليم رضوي

عين الشمس       

للكاتب السعيد الحمولي
ها أنذا أغادر بوابة المطار أجر حقيبة سوداء، الشمس كالعادة في كبد السماء تنظر بعين الرضا كما بعين االسخط. صف من المنتظرين على اليمين وصف آخر على الشمال، لغط وضجيج، عيون تنتظر وتتشوق الأحباب، وأخرى تترقب رؤية الأصحاب والأغراب. مررت أمام هؤلاء كما يمر الزمن في لحظة سهو، مجرد رجل كهل يضع قبعة داكنة على رأسه الأشيب ونظارة سميكة بيضاء، جاء من مكان ما على مثن طائرة ما، لأمر ما
هذا الرجل الذي غادر المطار، هو “أنا” إسمي محمود ذهبت الى كندا قبل تلاثين سنة خلت، وتركت أمي وأبي وأختي المريضة ينتظرون الذي يأتي ولا يأتي، غادرت لأحقق حلمي وأحقق حلمهم كما كانوا يعتقدون
.في الغربة تتعدد الأحلام وتختلط بالأوهام، فبقيت أحلم وأتوهم الى أن تحقق وهمي قبل أن يتحقق حلم العودة، عدت الآن وأنا أعرف أن لا أحد ينتظر قدومي، لا أحد على الإطلاق
في الخارج نظرت الى عين الشمس والى رسائل الدفء التي لا تفتأ ترسلها بسخاء دون قيد أو شرط، شعرت بدفئها وأنا أخطو نحو المجهول، وشعرت بنفس الدفء وأنا أعود إلى المجهول ولكنني لم أشعر يوما بأنني تمثلتها ولو في لحظة شوق لأرسل بعضا من دفئي لهما ولو كتذكار
.عدت إلى بلدي بجوازين، جواز أخضر انتهت صلاحيته، وجواز أزرق بدأت صلاحيته قبل يومين، أجر ورائي الحقيبة والخيبة، كما جررت التي ضمت حاجياتي قبل تلاثين سنة مضت بأمل وبلا خيبة
،سيارات الأجرة تصطف، تتوقف، تتزاحم، تنتظر، وعيون السائقين تبحلق في كل الإتجاهات، تبحث عن زبائن، أو عن زبون مثلي جاء يحمل فوق غربته غربة أخرى وفوق غربته الأخرى غربة أقسى
،تقدم نحوي وناولته الحقيبة، سألني عن الوجهة قلت له مقبرة الرحمة
:فقال لي
تقصد سيدي، قرب مقبرة الرحمة؟
:قلت له
.بل أقصد مقبرة الرحمة
:وضع الحقيبة في الخلف وفتح باب السيارة وطلب مني الصعود بعد أن حدد ثمن الرحلة كما أراد، وعندما استويت في مكاني في المقعد الخلفي، إنتهى الى سمعي صوت فايزة أحمد وهي تردد
زمان سهرتي وتعبتي وشلتي”
 من عمري ليالي
 انام وتسهري
 وتباتي تفكري
وتصحي من الاذان
” وتيجي تشقري
فسرحت مع اللحن والكلمات الى أن رأيتني بين يديها وأنا غر صغير
خفض السائق صوت المذياع وشغل محرك السيارة وأنطلق يشق الطريق الفاصل ما بين المطار والمقبرة، سألني أسئلة تافهة تتعلق بالرحلة وتعب السفر والأولاد والزوجة والدولة التي جئت منها، وكنت أجيبه أجوبة تافهة، متدمرة، يائسة لاتغني ولاتشبع من جوع، تم سألني عن الوالدة فلم أجبه جمد اللسان ولزمت الصمت حتى ظننت أن الصمت سيفضحني
أخبرني وهو يتنهد بأن ابنه بكندا، وأنه لا يسأل ولايجيب وأنه لايعرف لماذا
لماذا سقطت من عينيه دمعتان؟
هل لأن ابنه هناك؟ 
هناك الغربة والنسيان، الثلوج والصمت، الجهد والتعب، ومرور السنوات كالريح
خلت أنني حققت كل ما أريد، المال وزوجة كندية ونصف دزينة من أولادها وأولادي ولكنني لم أحقق أي شيء، تركوني جميعا، وحيدا، يمرالزمن في غربتي بطيئا، حتى بدا لي كأنه توقف أو كاد. وعندما توقفت سيارة الأجرة أوكادت وسط فسحة كبيرة من الضجيج، ناولته ورقة خمسون دولار أخد يتصفح فيها مليا كما لو أنه يرى فيها وجه ابنه، شكرني ومضى
كانت الشمس الحارة لاتزال في كبد السماء، ترمقني وأنا أتقدم نحو بوابة مقبرة الرحمة، عن يميني صف من المتسولين البسطاء، وفي اليسار صف آخر من المعاقين والمهمشين يلوحون بأياديهم ويتلاغطون، وأمام باب المقبرة التفو حولي وحاصروني من كل الجهاة، فانبعثت من ثنايا أسمالهم روائح  مختلطة لا تطاق، ومن عمق أفواههم خليط أدعية تتوالى، تتساقط كقطرات المطر فوق قبريهما. أغرقوني بالرحمة والمغفرة لي ولوالدي، أي كرم هذا الذي يوزعه هؤلاء الأشقياء مجانا؟ وهل استحق فعلا دعوات الرحمة هاته؟
.وانا لا أساوي حتى هذه الرزمة التافهة من الدولار الكندي التي  تصدقت بها. تقدمت إلى داخل المقبرة أجر وراء ظهري سنوات من الشقاء وفي حقيبتي أكياس من الندم و ليس في عيني دموع

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com