من الداخل.. كلام آخر

من الداخل.. كلام آخر
لحسن أحمامة

من الداخل.. كلام آخر

السفر في أعماق الذات

                                                                    نادرا ما تطل علينا أسماء جديدة في حقل الإبداع الروائي أو الشعري بعد أن تكون قد اختمرت تجربتها وظلت تشتغل في صمت، إن لم نقل في الخفاء، إلى أن يستوي عودها، ويحين قطاف ثمارها. قد يكون سبب ذلك، و هذا في تقديري الشخصي، هو التروي المتعمد باعتباره ديدنها، و الإنصات العميق لمن سبقوها و التفاعل معهم سواء بالمحاكاة أم بالمعارضة؛ ذلك أن الكتابة الإبداعية في نظرها ليست إتقانا للغة بما هي وسيلة للتعبير، أو نظاما إشاريا بتعبير السيميولوجيين و حسب، و إنما هي أيضا ملكة تصقل من خلال الوقوف عند تجارب السابقين، و ذلك بامتلاك وعي نظري بالكتابة الإبداعية من خلال القراءة المتواصلة و التمعن فيها، و ليس اللهاث الذي يدفع العديد دفعا إلى نشر نصوص سويت على عجل، علما بأنها قد تنقلب عليهم في النهاية، و ذلك هو سوء المنقلب، و يكون مآل هذه النصوص نهبا للغياب، كأنما العبرة عندهم بالكم لا بالكيف. وإذا كان الجاحظ قد قال إن الألفاظ مطروحة في الطريق، فإنما عنى بذلك أن   اللغة ليست السبيل الوحيد للإبداع، وإنما هي أحد عناصره فحسب. إن الإبداع الحقيقي هو إضافة جديد لما سبق وكان  ضمن هذه الأسماء الجديدة في حقل الرواية يطالعنا هذا العام اسم عبد العالي أناني من خلال روايته الأولى من الداخل.. كلام آخر. رغم أننا ألفناه من خلال قراءاته ومتابعاته النقدية المتميزة في الرواية والشعر والقصة القصيرة التي نشرها في عدة جرائد وطنية، مع العلم بأنه آثر الصمت لسنوات. وإذا كان لهذه القراءات التي قدمها لنا المبدع من ميزة، فإنها قد مكنته من مراكمة تجربة قرائية فاحصة لنصوص إبداعية كثيرة عربية وعالمية كان لها بالغ الأثر في مساره الإبداعي. من ثمة لم تتأسس تجربته الإبداعية من فراغ، من حيث أن الفراغ لا يولد إلا الفراغ، وإنما نهضت من هذا الاحتكاك و التفاعل مع مقروئه الذي شكل مرجعيتها
        تحكي رواية من الداخل. كلام آخر قصة شاب عاطل، سعيد الورداني، يبحث عن عمل بعد طرده من شركة لصنع الأدوية، بسبب دفاعه عن المستخدمين. يصبح نهبا للعطالة، يلتقي بشخص آخر سيزج به في تنظيم إرهابي. غير أنه لا يلبث أن يفر من هذا التنظيم بفضل ذكائه وحنكته ومساعدة أفراد آخرين. تلك هي الحكاية المصفاة من هذا الخطاب السردي
        تأتي الرواية في شكل تصاعدي يبدأ من البحث عن عمل ويصل ذروته في حدث الهرب، من حيث هو حدث يشكل أس هذا المتخيل الروائي، وينتهي بالتبليغ عن التنظيم الإرهابي. بين هذين الحدثين يتمدد السرد وفق تقنية التشويق.  ذلك أن الراوي يتحول من زمن الحكاية التي كان فيها شخصية مركزية إلى راو في زمن الحكي، حيث وجهة نظره خارجية، باعتباره لا ينفذ إلى أعماق الشخصيات الأخرى. إنه بهذا يروي حكايته التي تتقاطع مع حكايات الآخرين، خصوصا حكاية عمر الذي يشكل نموذج الشخصية المتناقضة في سلوكها؛ يغير اسمه- عمر/ حمزة، مثلما يغير مواقفه بحسب الظروف: “… وكما تلاحظ لا تعرف اسمي، فأنا لا أقول اسمي الحقيقي لمن لا أعرفه، خاصة للنساء.”(ص. 29). هذا التناقض في شخصية عمر يتأكد من خلال ما يقوله الراوي عنه: “يبدو لي غريبا في تصرفاته، متناقضا مع نفسه. شخصية تحتمل عدة تفسيرات، يحلم بثورة على الأخلاق ويتمتع بإغواء العاهرات وكلامهن.”(ص. 33). هذه الشخصية يحكمها منطق مزدوج بعكس الراوي الذي يطرد من عمله بسبب مواقفه الثابتة: “أنا إنسان عملي، حين أشتغل، أشتغل بضمير العامل الذي يعرف ما له وما عليه…” (ص. 36). ويقول عنه أحد معاوني الأمير: ” إنه من عيار خاص مثقف وصاحب مبدأ معتاد على حياة هادئة” (ص. 49)
       هكذا يبدو عمر أحد تجليات أمير التنظيم الإرهابي الذي يُزج فيه سعيد الورداني. ذلك أن المنطق الذي يحكم سلوك هذه الجماعة لا يتمثل في محاولة تحقيق ” ثورة تعيدنا لأصولنا الدينية تلغي من الوجود مثل هذه المناظر…” – بحسب ما يصرح به عمر- بقدر ما يسعى إلى ترسيخ أصولية تجهز على   القيم الأخلاقية التي يدعو إليها المجتمع المدني. ذلك أن فضاء التنظيم الإرهابي إنما يعكس التوجه الحقيقي لأيديولوجيا تستعبد الفرد وتمتهن كرامته: ” أخذت أجول بنظري في ذلك المكان الموحش البعيد، الذي يشبه معسكرا به مرتزقة يختفون وسط الجبال، أثارت انتباهي جماعة من الشباب قادمون نحونا يتجولون بحرية وفوضى، كان لباسهم يشبه الأفغانيين الفقراء في شكله، يرتدون أحذية رياضية متسخة…” (ص. 42). ونقرأ في مكان آخر: “الخيمة… مفروشة بحصائر بلاستيكية وزرابي متسخة مهترئة. أفرشة قديمة ألوانها باهتة وأغطية بائسة…نساء تختف أعمارهن وأشكالهن، منظرهن للوهلة الأولى يوحي بسبايا الحروب الجاهلية. “(ص. 49). من هنا يبدو سعيد زاوية نظر من خلالها نرى إلى واقع إرهابي يدعي عكس ما يمارسه
        إن الحكي هنا ليس الكشف عن واقع التنظيم بقدر ما هو تقابل بين مواقف الراوي، وهيثم والفتاة، ضحية العشق الزائف وبين “الأمير” الممثل الحقيقي للانتهازية والوصولية، وتغيير المواقف بحسب المصلحة الفردية: “صاحب الصوت الذي أعرفه انتهازي وصولي. كان دائما سباقا لركوب الموجة التي تهب بتغيير جديد بالساحة السياسية، والتي يرى فيها مصلحته الصرفة خاصة المادية. طاف في مختلف التيارات بحمولاتها المختلفة. انضم لمختلف الأحزاب، كان اشتراكيا ليبراليا ديمقراطيا علمانيا…عرف بسرعة تغيير المعطف. “(ص. 47). هذا التوصيف للأمير ونزعته التدميرية للكرامة الإنسانية تلخصها سعاد عندما تقول: “لأستعيد إنسانيتي”. ذلك أنه عندما تسود المصلحة الفردية تنتفي المصلحة العامة. إن استعادة الإنسانية تعني أن هناك حضور لاستعبادها  
        وإذا كان فعل الهروب يتم بطريقة هوليودية تحفه المخاطر والمجازفات، خصوصا النزول من المرتفع الشاهق، فإن ذلك لا يعدو كونه بعدا رمزيا لما تختبره الذات في انتقالها من الوهم إلى العقل، هذا الذي يجسده أيضا هيثم: “هيثم ذلك الطفل المدلل كيف وصل إلى هذا الحد من النضج بهذا الشكل؟” (ص. 59). بذلك فالهرب ليس هو التخلص من مأزق تورط فيه الراوي والآخرين، ضحايا الوهم، وإنما هو انتقال من البراءة إلى التجربة. أي الوقوف عند حقيقة الذات البشرية في نوازعها التدميرية. وهي تجربة يرسمها الراوي في مسار اكتشافه لعوالم الذات. هذا الانتقال الذي يكشف عن رغبات تحول الإنسان إلى كائن عدواني تتغلب فيه غريزة الموت على غريزة الحياة من خلال شحنه بأيديولوجية غيبية إرهابية: “كل هذا يغذي عقولهم بأفكار شاذة أو متطرفة، تغرس بدواخلهم الشعور بالعداء نحو مجتمعاتهم، فيصبحون لقمة سائغة، أو ثمارا ناضجة يسهل قطافها…” (ص. 68). يتوقف التفكير العقلاني أمام رجحان كفة التفكير الاعتقادي، بحيث تصبح الذات أداة قاتلة لحظة إيمانها المطلق بحياة أخروية. هكذا يتحدد الأمير كمساعد على زرع مثل هذا الوهم وكمعيق أمام التفكير العقلاني
          يتحدد فضاء التنظيم في جغرافيته، “مكان شبيه بفسحة بين جبلين” وفي حراسته المشددة من كل الجهات وفي نمط العيش فيه كتجلي للإذلال الإنساني: “المكان يشبه مخيما للاجئين. منازل عبارة عن خيام مغلفة بالأكياس البلاستيكية تشبه الخيام الحربية، بعضها مبني بالتبن والطين والحجارة ودعائم من فروع الأشجار. البؤس يخيم على المكان والكآبة تؤثث الجدران المتداعية.” (ص. 41). ومن جهة أخرى، في بعده الرمزي كسجن للعقل، وكفضاء لحقيقة وعي زائف تغلفه “حرية” إشباع الرغبات الجنسية، أو انتهاك الذات ضدا على رغباتها في غياب أي تحديد للوازع الأخلاقي مصدره العقل. تقول العجوز لمن معها: “- لندعهما يتعرفان على بعضهما، لغة الأجساد تقرب المسافات وتزيل الخلافات.” (ص. 50) في التراث العالمي، العجوز تجسيد للشر ومصدر للغواية، وآلية لدعم سلطة التنظيم، من حيث كونها عالمة بخبايا الذات البشرية وبأهوائها؛ إنها تعرف أن محو الخلافات لا يتم إلا بتحرير الطاقة الجنسية.  على العكس من ذلك، يقول سعيد في نفسه: “وُهبنا عقولنا لنفكر بطرق مختلفة للوصول للحقيقة، لكن حين نحصر تفكيرنا في حيز ضيق يختنق العقل، فيصبح العنف حلا شرعيا، ولا يتم التفكير إلا في العنف المضاد. ” (ص. 69). وهكذا إذا كان سعيد يمثل العقل، فإن العجوز تمثل رغبات الجسد، ذلك أن الأخلاق لا تتوقف إلا أمام الغرائز
          كأحد أنواع جنس الرواية، يبدو النص رواية مغامرة، علما بأن المغامرة، وفق جون إيف تادييه، هي جوهر التخييل. إنها نص مغامرة من خلال التقنيات التي يتشكل منها مثل طغيان الصدفة، والتشويق، وتسلسل الأحداث المفضية إل العقدة والحل المتمثل في الانتصار على احتمالية الموت، ثم النهاية السعيدة. ورغم أن الراوي ليس هو من يقوم بالمغامرة بمحض إرادته في سبيل المعرفة، وإنما يتم استدراجه، فإنه يظل ضحية خدعة شيء ما. يقول: “استدرجت بالخداع وبالمكر، بهما ستكون النجاة وعليهما يجب الاعتماد” (ص. 54). تلك هي الإستراتيجية التي ينتهجها سعيد من أجل الخلاص. تقول له العجوز: ” شيء ما بداخلي يدعوني للقلق. ربما طيبوبتك الزائدة التي تخفي بلاوي قاتلة. لا يهم؛ الزمن معي وهو كفيل بكشف نواياك.” (ص. 73) على أن هذا المكر، من جانب الراوي، ليس ذا طبيعة سلبية بقدر ما هو مراوغة العوائق التي قد تحيل المغامرة إلى تراجيديا. من ثمة يبدو الراوي شخصية فاعلة من خلال مشاركته في فعل الخلاص، ومن جهة أخرى يروي حكايته من خارج التجربة. من ثمة، لا يتضمن النص مغامرات فقط، ولكن الهدف الأول من المحكي هو سرد مغامرات
        إنها مغامرات تطغى عليها الصدفة التي تدعو إلى القلق والارتياب ومن خلالها يجد القارئ نفسه في تعاطف ليس مع الفارين من جحيم التنظيم وحسب، وإنما أيضا مع المحتجزين داخله قسرا، والذين تم التغرير بهم وغسل أدمغتهم. تصبح ضحيةُ هذا التنظيم مستعدة للموت في سبيل أيديولوجيا تحول الذات إلى ذات تابعة أو خاضعة: “حارس صنديد لا يقبل المستحيل، مستعد للموت من أجل ما يؤمن به، أو من أجل ما شُحن به.”(ص.110). في مقابل ذلك يكشف النص عن ذلك الحس الإنساني الذي يجد أولا تعبيره في كلام سعاد: “لو سألتني من قبل في المخيم، لاخترت قتله بدون تردد، نكاية به وبأمثاله، لمجرد الانتقام لنفسي… لكن اليوم بعدما عرفت سعيد ونبل أخلاقه، ورأيت دموع ليث خوفا على حياة صديقه العدو، تغيرت أفكاري واحترت في الاختيار، أشعر كعدوى أصابتني.” (ص. 111-12)، وثانيا في عدم قتل الحارس الصنديد، بل تكبيله والتبليغ عنه. من ثمة يستضرم النص التأكيد على الإنساني كواجب أخلاقي وعلى الحق في الحياة بمعزل عن كل أيديولوجيا، رغم أن الإنسان، بحسب تعبير ألتوسير، كائن أيديولوجي. ولعل هذا ما يصر عليه سعيد عندما يقول لسعاد: “هذه ليست تضحية، بل واجب، ولعل هذا هو السبب في استقطابي إلى هنا يظنون أنني سأنضم إليهم سأضحي من أجلهم، لأن أخلاقي ترغمني على الدفاع عن المستضعفين والذين لا يستطيعون ذلك. لا يعلمون أن هذه مجرد شهامة ونبل أخلاق تولد مع المرء، وليست إيديولوجية مفبركة تلقن للعموم.” (ص. 61)
        إذا كان العنوان أحد مناصات النص أو نصا موازيا له (paratexte)، فثمة في هذه الرواية علاقة قوية بين ما تستضمره الرواية وبين ما يجلوه العنوان، بوصفه عتبة ومفتاحا يضيء بعض جوانب النص الروائي أو جانبا هاما فيها. قد يبدو ظاهريا أن هذا المحكي المتخيل يروي حكاية شخصية مثقفة تسقط في شراك تنظيم أصولي، ومن خلالها نكتشف واقع هذا التنظيم واستشرافه لتأسيس مجتمع طوباوي مبني على تصور عقائدي متعصب يستبيح كل حق إنساني. من هنا تجلو الرواية ذاتها أنها رواية عن معنى الحياة في ظل بروز تنظيمات مؤسسة على أيديولوجيات دينية تدعي انشغالها بضمان سعادة الفرد ليس في الواقع وإنما في عوالم أخرى.   لكنها قد يبدو في العمق، من جهة أخرى، أنها تجل لصراع بين الوهم والواقع؛ الوهم كما تختبره الذات في سيرورتها بمعزل عن واقعها. ومن هنا لا تكون الأحداث المروية سوى تعلة للغوص في أعماق الذات للنظر إلى صراعها بين الخير والشر. وقد نجازف بالقول إنها سفر في أعماق الذات وصراع الغرائز. ولعل العنوان، في هذا السياق، ممثل لذلك، ذلك أن للداخل كلام آخر لا تستكنهه الذات إلا بركوب هذه المغامرة. بحيث يمثل الراوي العقل، وأمير التنظيم الوهم، والعجوز الغريزة الجنسية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المرجع: اناني عبد العالي، من الداخل …كلام اخر، مطبعة
PUBLI ROC ، الدار البيضاء، 2021
 

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com