أصدقاء المغرب

حياة في خدمة الدارجة المغربية
بقلم: أحمد قابيل
Georges S.Colin جورج كولان : 1977-1893
“الشيخ كولان” كما كان يسميه أصدقاؤه ومعارفه، عالم فرنسي جليل، كرس حياته كلها لخدمة اللغة العربية واللهجة المغربية الدارجة بصفة خاصة. حبه للدراسات اللغوية بدأ يظهر عنده منذ دراسته الثانوية في مدينة تور Tours، فأبدى رغبته في الذهاب إلى الشرق الأقصى لدراسة اللغات هناك وخاصة اللغة الصينية، ولكن انزعاج العائلة وبكاء الأم التي سترى ابنها يغترب عنها في بلاد بعيدة، جعله يحول تجاهه نحو لغات شمال إفريقيا حيث يحضر الوجود الفرنسي، فيسجل نفسه في مدرسة اللغات الشرقية الحية ما بين سنتي 1911 و 1914 وهناك يحصد العديد من الشهادات في اللغات الآتية :
العربية الفصحى، اللهجة العربية المشرقية، التركية، الفارسية، الأثيوبية، الماليزية. شارك في الحرب العالمية الأولى وأظهر شجاعة واستبسالا استحق عليهما عدة أوسمة حربية، ثم أرسل إلى المغرب سنة 1918 ليعمل ترجمانا في منطقة تازة، برغبة من ليوطي الذي كان يبعث في طلب شباب مستعربين لمباشرة سياسته في المغرب، فالقيادة تقتضي الاقتراب من المرؤوسين، وبالتالي لابد من فهم لغتهم، وهناك يعمد كولان إلى دراسة لهجة المنطقة وثقافتها. بعد انقضاء خدمته العسكرية سنة 1919 يلتحق بالمعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة حيث سيقضي عامين لزيادة تعمقه في اللهجة العامية المشرقية وممارستها والتحدث بها في عين المكان، ثم يعود بعد حصوله على الشهادات المطلوبة ليعمل في وزارة الخارجية، ويتم تعيينه في المغرب ضمن إطار التراجمة المدنيين هذه المرة في كل من طنجة وتطوان وسلا.
عشق جورج كولان العمل في هذا المغرب الذي حافظ على هويته رغم أنه يوجد قرب أبواب أوربا الغربية، لكنه لم يحتمل العمل الدبلوماسي الإداري، فقرر التفرغ للبحث العلمي والتدريس، رغم أنه لم يغادر أسلاك وزارة الخارجية التي تنقل في مختلف درجاتها : قنصلا ثم مستشارا ثم قنصلا عاما. وهكذا تكلف بإعطاء دروس في اللغة العربية الحديثة وأصبح مدير أبحاث في معهد الدراسات العليا المغربية بالرباط من سنة 1926 حتى سنة 1958، كما أصبح يدرس اللغة العربية المغاربية في معهد اللغات الشرقية منذ سنة 1927، وبذلك كان ينتقل بين باريس والرباط، وهو نظام كان يسمح فيه للأستاذ بقضاء عدة أشهر في البلد الذي يتحدث فيه باللغة التي يدرسها، حتى يصبح متمكنا من هذه اللغة، كما درس كولان أيضا في كوليج دوفرانس أيضا حتى سنة 1963. خلال هذه المدة كان جورج كولان يحرر العديد من المقالات التي نشر أغلبها في مجلة هيسبيرس Hespéris التي يصدرها المعهد، والمتعلقة باللهجة المغربية والثقافة المغربية بصفة عامة، كما كان يشتغل في معجم لغوي خاص باللهجة العامية المغربية.
بعد حصول المغرب على استقلاله سنة 1956 استقر جورج كولان في باريس، ولكنه ظل على اتصال بالأوساط العلمية في المغرب، فقد شارك في المؤتمر الأول للتعريب سنة 1961 بالمغرب، واقترح عليه المرحوم محمد الفاسي رئيس الجامعة المغربية إذاك، أن يعود إلى المغرب لمواصلة أبحاثه عن اللهجة المغربية الدارجة ويكمل معجمه اللغوي الذي كان يشتغل فيه أثناء عمله بمعهد الدراسات العليا المغربية بالرباط، وبقيت مخطوطاته في أرشيف المعهد الذي أصبح هو كلية الآداب بالرباط. قبل جورج كولان هذا الاقتراح وطلب أن يساهم في أي عمل يدخل ضمن اختصاصه:
البحث في اللهجة المغربية، جمع الفولكور، بل قال إنه يمكن أن يساهم في الحملة التي كان يقوم بها معهد التعريب إذاك لتنقية اللهجة وتقريبها من اللغة الفصيحة، وكانت تسمى بحملة “قل¬ ولا تقل” لكن العراقيل الإدارية ،تجاوزه السن القانوني، حالت دون عودته واشتغاله بالمغرب. وكان لابد من الانتظار حتى سنة 1970 ليتم حل هذا الإشكال ويبدأ عمله ضمن مكتب التعريب أيام الأستاذ أحمد الأخضرغزال الذي تكفل باستعادة وثائق كولان من الأرشيف الموجود بكلية الآداب ليعاود الاشتغال عليها، خاصة في المعجم اللغوي، ويساهم في الأبحاث اللغوية التي كانت تتم بمعهد التعريب، لكن ظروفه الصحية جعلته يعود مرة أخرى إلى فرنسا سنة 1976، وهناك سيتوفى في العام الموالي.
كانت حياة جورج كولان تتميز بالبساطة والتفاني في العمل وسعيه إلى المعرفة والتدقيق جعله يقبل الاشتراك مع العديد مع زملائه الباحثين في العديد من المؤلفات، فقد اشتغل مع ليفي ¬ بروفنسال، ومع إيميل لاوست ومع طيراس الخ… واهتمامه باللغة جعله يطلع على مجالات إنسانية أخرى كالتاريخ والاثنوغرافيا، والقانون، والآثار، الشعر، الطب إلخ… بدأت أبحاثه في الصدور منذ 1920 حين كتب بحثه عن اللهجة العربية في منطقة تازة، وتوالت هذه الأبحاث لأكثر من 50 سنة في مجالات لغوية وثقافية متعددة تخص المجتمع المغربي، فإضافة إلى أبحاثه لهجات المناطق المغربية والتنقيب عن جذورها وأصولها ، واهتم بكافة أشكال الفولكلور المغربي، وله دراسات في الأدب الأندلسي ولغته، وكتب عدة درسات عن اللهجات الأمازيغية وعن الزخرفة في المساجد المغربية. كما عهد إليه محرور دائرة المعارف الإسلامية بكتابة عدة مواد متعلقة بالمغرب، إضافة إلى تحقيق عدة مخطوطات ونشرها. غير أن أهم عمل مات ولم يستكمله هو معجمه اللغوي الخاص بالدارجة المغربية والذي شرع فيه منذ 1925، وحرر منه العشرات الآلاف من الجذاذات والكراسات، فقد كان يرى أن الوجود الفرنسي بالمغرب والتحولات التي صاحبته، ستؤدي إلى اندثار كثير من المعالم الحضارية والثقافية واللغوية المغربية، فأخذ يسجل ألفاظ الدارجة المغربية من كافة المناطق بالمغرب قبل أن يصيبها الإهمال والزوال مع التحولات الحاصلة في المجتمع المغربي، وبعد وفاته تكفل مجموعة من الباحثين المغاربة والفرنسيين بإعداد هذا المعجم وإظهاره إلى حيز الوجود، حيث صدر في ثمانية أجزاء تحت إشراف السيدة زكية العراقي سنة 1993 بعنوان “قاموس كولان للعربية الدارجة المغربية” Dictionnaire Colin d’ Arabe Dialectal Marocain” .
كان جورج كولان يتفانى في عمله ويعطي بسخاء، وحتى بعد وفاته ظل كذلك، فقد أوصى بأن يوهب جثمانه لكلية الطب ليكون رهن إشارة الباحثين والطلبة.