قراءة في كتاب “على عتبة المغرب الحديث” 2/1

الممارسة الكتابية عن المغرب بين التخصص المعرفي والتقارير السياسية
“للطبيب الفرنسي (فريديريك وايس غربر) ”
بقلم: ذ. علال بنور
عرف مغرب القرن التاسع عشر كتابات أجنبية، توزعت بين التاريخية والجغرافية والسوسيولوجيا، والأنثروبولوجيا ورحلات وصفية، وتقارير سياسية، وعسكرية، وصحفية. وفي هذا الصدد قسم الفقيد الأستاذ ” إبراهيم بوطالب ” التأليف التاريخي الاستعماري إلى ثلاث مراحل وهي:
- المرحلة الأولى ما بين 1830- 1880، اتسمت باستكشاف النظم الاجتماعية والسياسية، هيمنت فيها كتابات ضباط الاستخبارات.
- المرحلة الثانية ما بين 1880- 1912، تميزت الكتابات في أغلبها بالطابع الاستخباراتي، وضعت لها أهداف تخص دراسة مسحية لكل جغرافية المغرب بشكل دقيق.
- المرحلة الثالثة ما بين 1912- 1955، وفيها اتجه البحث نحو قطاع وظيفي، منظم مؤسساتيا لتبرير مشروعية الاستعمار، بمعنى ربط السلطة بالمعرفة.
في ظل هذا التقسيم، اختلفت الممارسة الكتابية حول المغرب بين التخصص بدافع معرفي وتقارير بدوافع سياسية محضة، كتبوا عن تاريخ المغرب ليبينوا للرأي العام الدولي والفرنسي خاصة، أن المغرب بلد متخلف يحتاج لإصلاح وضعه الداخلي. فزعموا أنه غارق في الفوضى والتمردات أفقيا وعموديا ضد السلطة المركزية، ومن أجل الكشف عن مواطن الضعف التي تمهد الطريق للاستيلاء عليه أو لتبرير احتلاله. لذلك يندرج كتاب ” على عتبة المغرب الحديث” لمؤلفه الطبيب الفرنسي Frederic Weis Gerber، والصادر سنة 1947 في طبعته الأولى بالرباط، ضمن هذا التصور، الذي يدخل في إطار نوع الكتابات التقريرية التي تناولت وضعية المغرب أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين (1895 / 1912 م ).
تقديم ووصف محتويات الكتاب الذي اعتمدناه في صيغته الفرنسية:
يحتوي الكتاب على ثلاثة أجزاء، كل جزء ينقسم إلى فصول، جاءت كالتالي.
الجزء الأول: تحت عنوان “احتضار النظام القديم” يضم ثمانية فصول، يتناولها بوصف الأوضاع العامة بالمغرب، منطلقا من مدينة الدار البيضاء التي اعتبرها مدينة عصرية. كما تحدث عن البنية الإدارية التي تتداخل فيها السلطات مع سيادة ظاهرة الارتشاء، وبذلك عمم الوضعية على كل المغرب، وقسمه إلى بلاد المخزن حيث سيادة سلطة السلطان، وبلاد السيبة حيث الفوضى. أما من حيث التركيبة الاجتماعية، فإنه ركز على ما سماه بالمعاملة اللاإنسانية المتمثلة في انتشار أسواق النخاسة.
ثم تحدث عن ” المحلة السلطانية ” في زمن السلطان عبد العزيز، التي كانت تقوم بردع القبائل، مقدما لها وصفا دقيقا، مشيرا فيه إلى التعريف بحاشية السلطان، مركزا على الحاجب (أحمد بن موسى)، وعلاقة المخزن بالشعب ثم علاقة السلطان بالجيش، الذي يحتاج إلى إصلاحات، والتي تستدعي تدخل فرنسا لإعادة بنائه. كما لفت انتباهه إلى المعاملة السيئة التي يعامل بها الأسرى الذين يساقون مسلسلين تحت سياط الحراس. فختم الجزء الأول بقوله:
لا زال المغرب مجهولا رغم ما قدمته الكتابات الأجنبية من معطيات حوله، مضيفا أن المغرب لا يتوافر على معالم مدنية وبنية تحتية، كما أن المغاربة لا يحسنون التعامل مع المسيحيين. وختم كلامه بنعت المغاربة، بأقبح الصفات…
الجزء الثاني: عنونه ب “من الغروب الى الفجر”، ويضم عشرة فصول، تغطي فترة حكم الحاجب (أحمد بن موسى) من سنة 1900 إلى فترة توقيع الحماية 1912. ويعتبر الكاتب أن هذه الفترة تشكل مرحلة انتقالية ما بين احتضار المغرب وبداية تقدمه مع فترة الحماية، تميز فيها الوضع العام، بالفتن وتعدد حركات التمرد، خاصة مع ثورة الجيلالي الزرهون المعروف ب (بوحمارة) وثورة (الريسوني ) ثم ثورات إخوة السلطان عبد العزيز ، وثورة المولى عبد الحفيظ ، الذي سينجح في الوصول إلى السلطة بعد مؤتمر الخزيرات سنة 1906 . وفي ظل الصراع حول الحكم وتعدد الثورات، أفرغ بيت المال لأسباب منها: عدم استقرار النظام الضرائبي وسوء التدبير المالي، الذي فتح الباب للمعاهدات الدولية وسياسة منح القروض، للإصلاحات التي انفردت بها فرنسا.
وتطرق الكاتب كذلك إلى الاكتساح، الذي قامت به قوات الاحتلال لمنطقة الشاوية والردود العنيفة التي قادها الشاويون. ثم انتقل بعد ذلك للحديث عن الإصلاحات، مبالغا في وصفها. مؤكدا على أن المغاربة استحسنوا الإصلاحات في تعاطف مع المعمرين. ثم انتقل للحديث عن الصراع الداخلي بين الأخوين عبد العزيز وعبد الحفيظ، الذي انتهى بتولي هذا الأخير السلطة. وأنهى هذا الفصل بالحديث عن ذكرياته الشخصية، كمراسل لجريدة “Le Temps ” كطبيب ومستكشف جغرافي.
الجزء الثالث : جاء تحت عنوان ” فجر الحماية “، ويحتوي على ستة فصول، تغطي الفترة الممتدة من التوسع العسكري الذي انطلق من الدار البيضاء ووجدة في نفس الزمن التاريخي، إلى مرحلة توقيع الحماية في 1912 وخلالها حققت فرنسا إنجازات عسكرية وإدارية، وتم فيها إخماد الانتفاضات والفتن ببلاد السيبة، منها ثورة ( أحمد الهيبة )، وثورة القائد (عيسى بن عمر العبدي)، وذلك بفضل حكمة الجنرال ليوطي، الذي يعتبره الكاتب صاحب تنفيذ مشروع الاحتلال، بمساعدة بعض القواد الكبار ومساندة أصدقائه من المغاربة، الذين كانوا يزودونه بأخبار تحركات القبائل.
وفي ختام هذا الجزء ينوه الكاتب بشخصية الجنرال ليوطي.
قراءة وتحليل لهذا المؤلف:
اعتمد الكاتب في انجاز مؤلفه على عدة مصادر في استقصاء الخبر، منها: تدوين المعاينة والرواية الشفاهية وأخبار الصحف واحتكاكه بالسكان بحكم مهمته كطبيب، واهتمامه بتسجيل معاينته المباشرة لما يجري من أحداث عن قرب. ونظرا لقربه من المخزن، رصد عناصر القوة والضعف في بنيته التي استرعت انتباهه، فقدم لها وصفا دقيقا. فتطرق إلى عزلة السلطان عبد العزيز في القصر، في حين بقي أمر تسيير دواليب المخزن بيد الحاجب
(أحمد بن موسى) الذي كان حازما ومتتبعا لدقائق الأشياء، يراقب مهام الموظفين الكبار، الحاضرين دوما في المحلات. ومؤكدا على أن الحاجب لم يكن يتمتع بأي قسط من الراحة، رغم أنه كان يعاني من التهاب الكلية.
لقد كان الكاتب يدون بانتظام مقالات لجريدة Le Temps، باعتباره مراسلا لها بالمغرب، وقد تضمنت المقالات التي هي في الأصل تقارير، معطيات مفصلة عن المغرب من داخل الإدارة والجيش والقبائل، وشملت معطيات تخص الأوربيين المتواجدين بالمغرب، خاصة الفرنسيين. كما تضمنت التقارير، معطيات جغرافية، اعتمادا على تنقلاته عبر جهات المغرب المختلفة من مدن وجبال وسهول. فكان احتكاكه بالسكان من خلال تنقلاته كطبيب، قد سمح له بجمع معطيات اثنولوجية وسوسيولوجية وجغرافية، خاصة فيما يتعلق بالمسالك والطرق. فركز اهتمامه مجاليا على المناطق المجهولة للأوربيين، موضحا أن الرابط بينها، عبارة عن مسالك غير معبدة، مع انعدام القناطر، باستثناء وجود ثلاث منها، على كل من وادي سبو، ووادي أم الربيع بقصبة تادلة، ووادي تانسيفت قرب مراكش. فكان من نتائج جولاته الجغرافية إنجاز خرائط قدمها خدمة للجيش الفرنسي المستعد للقيام بعملية الاحتلال. من خلال نشاطه السياسي، وكان من مهامه أيضا تقديم خدمات للرأي الفرنسي وساسته، للاهتمام بالمشروع الاستعماري للمغرب. ومن أجل ذلك سخر كل إمكانياته لتسهيل عملية الاستعمار في ظروف سلسة، وفي نفس الوقت لمواجهة كل معارضة من جانب الحزب الشيوعي الفرنسي، كما كان من المفاوضين الكبار عندما كلفه الجنرال ليوطي ليتفاوض مع القائد (عيسى بن عمر العبدي) ، في جمعه للأخبار، واعتمد كذلك على المقالات والدراسات التي أنجزها الأجانب بمختلف تخصصاتهم حول المغرب ، كما اعتمد على ما تنشره الصحف الفرنسية من أخبار عن المغرب ، التي اهتمت كثيرا بالمسالة المغربية من قبيل – La Dépêche – La Vigie Marocaine – وغيرها من الصحف .
واعتمد في الرواية الشفاهية لجمع المعلومة عن أصدقائه من المغاربة، كالمخبرين والقواد وتصريحات المخزن والديبلوماسية الأجنبية بالمغرب ومن التصريحات التي وردت في الكتاب ، نجد تصريح السلطان عبد الحفيظ ، عندما يقول : “يمكنكم أن تقولوا لقراء Le Temps بأنني اعترف بالجميل للحكومة الفرنسية وللمقيم العام ، على ما قاموا به من أجلي ومن أجل بلدي … فبدون المساعدة الفرنسية كان المغرب قد ضاع ” – ص 302 – وللحقيقة نقول، أنه يصعب تصنيف الكاتب ضمن تخصص معين ، لأن المهم عنده ، كان هو أن يقدم للحكومة الفرنسية مساهمة في تسهيل مشروع الاحتلال . وبالعودة إلى تصنيف الكاتب، فقد نضعه ضمن مجموعة السوسيولوجيا الاستعمارية، التي اعتمدت على الأبحاث الميدانية، بخلفية أيديولوجية، موجة لمنهجية البحث. كما ركز الكاتب، عند تحليله للأوضاع العامة بالمغرب على ثلاث وضعيات هي: الوضعية الإدارية /السياسية، والوضعية العسكرية، والوضعية الاقتصادية / الاجتماعية.
الوضعية الأولى: يكشف فيهاعن التركيبة المخزنية المركزية المكونة من عدة أجهزة ثناء حكم السلطان عبد العزيز، وتحدث عن الحاجب (أحمد بنموسى) ووصايته على السلطان عبد العزيز، كما تحدث عن تصفياته لأعدائه بالقتل والسجن وإبعاد البعض منهم عن الوظيفة المخزنية، وتجردهم من ممتلكاتهم. وفي المقابل أسند الوظائف المخزنية العليا لمقربيه، كما أعطى وصفا للحاجب بقامته القصيرة وبشرته السوداء وجهله لأروبا. ومن الملاحظات الأساسية والتي لا يمكن أن نمر بدون أن نتوقف عندها، نقول بأن الكاتب كان يعرف بشكل دقيق مختلف القبائل المغربية والزوايا. وقد ورد في متن الكتاب، أن السلطان عبد العزيز، كان مبعدا عن ممارسة السلطة في عزلة مع الخليلات، بعيدا عما يجري من أحداث داخلية وخارجية. وعند وصول السلطان عبد الحفيظ إلى الحكم، يقر الكاتب، أنه كان يقدم النصح للسلطان لكي يحسن من معاملته عند استقبال الديبلوماسية الأجنبية بالمغرب.
يتبع