اللعنة على كورونا…

اللعنة على كورونا…
                    د. مهدي عامري

عَالَمٌ خَربان…

يقول الراوي: “أحيانًا تستيقظُ في الرابعةِ صباحًا، وتفكرُ: تَبًّا… كلُّ شيءٍ مزيف، كلُّ شيءٍ بلا معنى.. صيف 2020. عالم خربان. الناس محبوسون في بيوتهم مثل فئران التجارب. الحجر الصحي. قلة الحركة. فساد الهواء. انعدام الحياة. الموت يتجول هنا كشيطان يقودك إلى الجحيم. سجن غير مرئي، لكنه حاضر في كل زاوية، في كل خبر، في كل منبر إعلامي يصرخ بأعلى صوته: ابقَ في بيتك!

في الأيام الأولى، اعتقدنا أن الحجر المنزلي مجرد استراحة قصيرة، مثل خلع حذاء ضيق بعد يوم طويل. ثم بدأ الضغط. بدأ العفن يتسلل إلى أرواحنا. نفس الجدران، نفس الوجوه، نفس الملل الذي ينخرنا حتى العظم. الجميع يأكلون في المنازل. الجميع يذرعون الأسطح جيئة وذهابًا. الجميع يشاهدون نفس الأفلام التافهة. العالم تحول إلى شاشة كمبيوتر نتابع فيها عدّاد موتى الوباء. الإنسان أصبح صورة مهزوزة، ممسوخة في محادثات زوم وفيسبوك. كان الناس يموتون كالذباب، بلا قيمة، لكننا كنا نموت بطريقة مختلفة، أبطأ، وأكثر تعقيدًا. ثم جاء يوم الحرية الموعود. خرجنا هاربين من الزنزانة، نصف أموات، نصف أحياء. قضيت مئة يوم في الحجر. كنت وحيدًا، بلا أب، بلا أم، بلا زوجة، بلا أولاد… واليوم، خرجت من السجن. وساعات بعد ذلك، قررت أن أحيي بفريد صلة الرحم. كنت ألقاه كل صباح عند الساعة الخامسة فجرًا. كنا نذهب إلى البحر، كما لو كان خلاصنا الوحيد. تخيّل معي: الخامسة صباحًا. المدينة ما زالت نائمة، مثل عجوز فقد ذاكرته. الخيوط الباهتة الأولى للفجر تتسلل عبر السماء مثل شقوق في زجاج معتم. والماء، هذا الساحر الأزلي، يمد ذراعيه لنا، يدعونا للغرق أو للنجاة. كنا نسبح ونصرخ من الفرح، كما لو أن السباحة كانت نوعًا من التطهير الروحي. كنا نسبح ونلعن الوباء.

اللعنة على كورونا. اللعنة على السجن في البيوت. اللعنة على عالم خربان لا قيمة له. لكن البحر لم يكن يهتم بكل هذا الهراء. كان يبتلعنا للحظات، ثم يقذفنا مجددًا إلى السطح، كما لو كنا قمامة عائمة. كنا نسبح، لكننا كنا نغرق في شيء آخر. سألته وأنا أطفو على ظهري، أحدق في السماء التي بدأت تلتحف بعباءة الفجر:

“فريد… ما معنى الحرية؟” “حرية من ماذا؟” “حرية من القوانين، من الأقنعة، من الأوامر، من الغباء الجماعي… من الوجود نفسه.”

ضحك فريد، أو ربما سعل. أحيانًا كان من الصعب التمييز بين الأمرين. “الحرية مجرد كذبة جميلة، يا صاحبي. أنت تعرف ذلك. البشر عبيد طائعون خانعون، لا يريدون الحرية. إنهم يفضلون الأمان. إنهم دائمًا ينتظرون أن يُخبرهم السيد بما عليهم فعله، ثم يشتكون من القوانين.” سبحنا بصمت للحظات. وكانت السماء تتفتح ببطء، كما لو أنها تتثاءب بعد نوم طويل. “ثمة شيء غريب، يا فريد. الحجر الصحي جعلني أدرك أمرًا مهمًا…” “ما هو، أيها الفيلسوف؟” “لقد عشنا دائمًا في الحجر الصحي. الحجر الحقيقي ليس الأبواب المغلقة، ولا الشرطة، ولا القوانين. الحجر هو العالم الذي بنيناه بأيدينا. الشركات الضخمة، الحكومات، القروض، الوظائف، وعود السياسيين الفارغة… كنا في سجن طويل قبل أن يأتي هذا الفيروس ليضع لافتة منع الدخول على الباب.” لم يُجب فريد. اكتفى بالسباحة باتجاه الشمس التي بدأت ترسم ظلالًا طويلة على سطح الماء. كنت أعرف ما كان يفكر فيه. كنا نعيد نفس النقاشات منذ أسابيع، بل ربما منذ سنين، منذ اللحظة التي بدأت فيها صداقتنا، ونحن في السابعة من العمر. “أجبني… ما معنى الوجود، يا فريد؟”

أخيرًا، استدار فريد ونظر إليّ. كانت قطرات الماء تتلألأ على وجهه، كما لو كان حوتًا خرج لتوّه من ظلام أعمق المحيطات. “الوجود؟؟”

ضحك فريد بصوت عالٍ، كما لو أن السؤال نفسه كان نكتة ثقيلة على اللسان والقلب. “الوجود هو سباق المسافات الطويلة نحو اللاشيء، يا صاحبي. إنه مجرد رحلة خطيرة إلى حافة الموت.” اللعنة! هل كان على حق؟ العالم من حولنا يتحطم: أوبئة، حروب، موجات تضخم، أسعار ترتفع كما لو أن الجحيم نفسه أصبح شركة متعددة الجنسيات. وكل شيء يبدو كأنه مسرحية هزلية رديئة. الناس يقتلون بعضهم البعض من أجل لقمة العيش، والسياسيون يضحكون في وجوهنا بينما نغرق بلا نهاية في مستنقع المعنى المفقود. غمسنا أجسادنا في الماء الحنون البارد كالجليد. سبحنا، سبحنا، وضحكنا ملء شدقينا كالأطفال… أو ربما أكثر.

في النهاية، لم يكن هناك مكان آخر نذهب إليه. “فريد… لكن… هل هناك نهاية لهذا السباق؟”

توقف فريد لحظة، ثم نظر إليّ بابتسامة تحمل كل سخرية العالم، قبل أن يسبح بعيدًا في البحر الذي كان يتسع لكل أسئلتنا… لكنه لم يكن يحمل لها أي إجابة.

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية مديرة وإعلامية موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بمغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل و المراسلات:jaridatealwane@alwanne.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *