من الذاكرة الرياضية المغربية: الجزء الأول

من الذاكرة الرياضية المغربية: الجزء الأول

     الطاس في ذاكرة ’’واحد من أولاد الحي‘‘3/1                                            

                                    ذ. نجيب تقي                       

يحاول الباحث والأستاذ في التاريخ نجيب تقي أن يؤرخ لنشأة فريق الاتحاد البيضاوي لكرة القدم الذي عرف باسم “الطاس”، بعيدا كل البعد عن أهواء الذاكرة التي غالبا ما يمتزج فيها الذاتي بالموضوعي. ويرى صاحب كتاب “ذاكرة كاريان سنطرال” أن هذا الفريق الرياضي استطاع أن يحفر اسم في ذاكرة كل أبناء وبنات الحي المحمدي. كما أن كثيرا من الباحثين والدارسين اهتموا به نظرا للدور الذي لعبه منذ نشأته في أحضان العصبة الحرة لكرة القدم (حزب الاستقلال) بحي كريان سنطرال، ثم حضوره في عصبة المغرب لكرة القدم (الفيدرالية الفرنسية لكرة القدم)،
إضافة إلى كونه أصبح مشتلا رياضيا لتكوين المواهب الكروية وطنيا ودوليا.
في هذا المقال الطويل، يكتب نجيب تقي عن عشقه بفريق “الطاس” باعتباره يمثل أحد أعمدة هوية الكثيرين من أبناء الحي المحمدي.

+++++++++++++++++++++++

عندما تعود بي الذاكرة إلى الوراء، محاولا رسم السياق الذي تشكلت فيه ’’هويتي‘‘ كابن من أبناء الحي المحمدي، أراه مرتبطا ارتباطا وثيقا بمرحلة معينة من حياتي، وهي المراهقة، عندما حصلت على شهادة الدروس الابتدائية من مدرسة اتحاد الحي المحمدي في نهاية الموسم الدراسي 1963-1964. عندها، لم يكن بإمكاني ومن جايلني من الأقران والزملاء والأصدقاء، إلا متابعة الدراسة الإعدادية خارج الحي المحمدي الذي كان يشكل لي الوطن كله ويختزله، فنادرا ما غادرته في السابق إلا من أجل قضاء العطلة الصيفية في ’’العروبية‘‘ أو في بعض الأسفار مع أسرتي لزيارة بعض الأقارب خارج المدينة أو من أجل البحث عن قسط من الراحة والاستجمام في مولاي يعقوب وسيدي حرازم. عانى والدي سي أحمد بن علي الدكالي، رحمة الله عليه، ما عاناه حتى يجد لي مكانا في إحدى المؤسستين الكبريين اللتين كانتا تستقبلان حاملي تلك الشهادة ممن كان يطلق عليهم ’’معربين‘‘، أولاهما معهد الأرميطاج المقابل لثانوية مولاي عبد الله والمشهور في ذاكرة البيضاويين بلقب ’’الأزهر‘‘، والثانية مؤسسة عبد الكريم لحلو الواقعة بالقرب من ’’قطاع ولد عايشة‘‘. وأدركت، لما كبرت، سببا خفيا من أسباب معاناة الوالد وما سببته له من حرج، وهو أنه اختار طريقا سياسيا آخر غير الطريق الذي ظلت إدارة مدرسة اتحاد الحي المحمدي وإدارة ’’الأزهر‘‘ تسيران عليه، وخاصة لما دعوته إلى التدخل، ليحجز لي مكانا في السنة الأولى من السلك الإعدادي عوض قسم الملاحظة المحدث حينها. لكنه صرفني بلباقة، وبدون أن يكشف لي سر موقفه وأقنعني بعدم وجود أي فرق بين المستويين.
قيضت لي الدراسة في ’’الأزهر‘‘، إذن، وفي هذه المؤسسة العريقة، اكتشفت لأول مرة أنني أدرس، إلى جانب من انتقل معي من ’’الحي‘‘، مع كثير من الزملاء الذين ينتمون إلى باقي الأحياء الشعبية في مدينة الدار البيضاء، وخاصة المدينة القديمة ودرب السلطان وسباتة ودرب غلف وعين الشق… أحسست، لأول مرة بشيء مختلف، هو هذا الجوار داخل الفصول والصفوف مع أقران لا يقاسمونني نفس الانتماء إلى ’’الحي‘‘. وشيئا فشيئا، أخذت تطفو بعض الحساسيات وأخذت ملامح البحث عن إثبات الذات وإبراز التميز الذي كنا نعتقده يخصنا نحن ’’أولاد الحي‘‘، في مقابل ’’أولاد درب السلطان‘‘ و’’أولاد المدينة القديمة‘‘ الذين كانوا يعيروننا ب’’التكريانيست‘‘ و’’التصوفاجيت‘‘ و…
كان علينا إثبات الذات، من خلال التفوق الدراسي، من خلال التشبث القوي بالفريق الذي يخصنا، وهو فريق الاتحاد البيضاوي أو ’’الطاس‘‘. كان الصراع والجدال والبوليميك حادا آنذاك بين الرجاويين والوداديين، أثناء الاستراحة في الساحة وحتى في حجرات الدراسة، بل وأثناء الدروس أحيانا، أما أولاد الحي فلم يكونوا يدخلون على الخط في الغالب إلا عندما ينازل فريقهم المفضل أحد الفريقين المشهود لهما بالعراقة والريادة في كرة القدم الوطنية. لا يمكن تصور حجم إحساسنا ب’’الهوية‘‘ التي ننتمي إليها، عندما يتقابل الطاس مع الوداد أو الرجاء، ويزداد الإحساس بالاعتزاز والافتخار، عندما ينتصر هذا الفريق الذي كان يعده ’’أولاد المدينة‘‘ و’’أولاد درب السلطان‘‘ فريقا ثانويا وهامشيا.
ومع كامل الأسف، لم تكن ظروفي تسمح لي بالانتقال إلى ’’المدينة‘‘ لمشاهدة فريقي المفضل، وهو يواجه أحد الفريقين العتيدين آنذاك، سواء في سطاد فليب أو سطاد دونور (الملعب الشرفي ثم مركب محمد الخامس)، فأحرى أن أسافر إلى مدن أخرى لتتبع مقابلاته، والسبب في ذلك هو قلة ذات اليد من جهة، وحرص والدي رحمه الله على مراقبة دراستي وتتبع مساري عن كثب من جهة أخرى، إذ لا وقت ولا فائدة من الكرة أمام أولوية التحصيل والاجتهاد، وحين كان الشعار والمثل: من جد وجد ومن زرع حصد، وفي ظرفية تهافت فيها المغاربة على التمدرس الذي كانوا يعدونه أداة أساسية وقاطرة حاسمة في الترقية الاجتماعية.
لذا، كنت قانعا بالتوجه إلى ’’تيران الحفرة‘‘ الكائن في قلب الحي المحمدي، عندما يسمح لي الوقت بذلك، حتى أستمتع بمشاهدة لاعبي الفريق عن كثب، وهم يتدربون، تحت قيادة العربي الزاولي رحمه الله عليه، على أرضية هذا الملعب. كانت نظرات الإعجاب بادية على محياي، وأنا أتملى برؤية بؤسا ونومير وباقي اللاعبين، فما أزال أتذكر، أثناء التداريب، بؤسا يطلب الكرة من نومير، بالنداء على اسمه الشخصي: علال علال. ولا أخفي الامتعاض الذي حل بي، عندما فرض درهم واحد على كل من يرغب في مشاهدة التداريب التي كان يجريها الفريق يوم الثلاثاء ويوم الخميس في الغالب. أحسست بالحرمان من المتعة المجانية والفرجة الجميلة، فلم يكن متيسرا لي أن أملك ذاك الدرهم في تلك الفترة، ولم أكن أعلم خلفيات هذا القرار، كما أنني لم أكن أفكر في البحث عن خلفياته والإجابة عن أسبابه، وإن بحثت عما يشفع لصاحبه باتخاذه، رجحت أن تكون الضائقة المالية المستبدة بميزانية الفريق على الدوام. ولتعويض هذا الحرمان، كنت مصرا على انتظار الدقائق العشرة الأخيرة من مقابلات الطاس، حيث يسمح لنا المسؤولون عنها بالدخول مجانا فيأمرون ’’فرج‘‘ ذاك العساس القوي البنية بفتح باب الملعب لمشاهدة ما تبقى منها. لا اذكر أنني كنت أردد ما صار يتردد فيما بعد في أوساط كرة القدم حول هذا العرف المسمى ’’العباسية‘‘، وهو عرف ضارب في تقاليد المغاربة، وبالضبط ذو أصول مراكشية، حيث شاع عند سكان المدينة تقليد خاص، وهو أن أصحاب الحمامات أو’’الفرارن‘‘ كانوا يقدمون خدماتهم مجانا وبصفة استثنائية يوم تدشين محلاتهم، تيمنا بأبي العباس السبتي أحد رجالات مراكش السبعة. ولتعويض ذاك الحرمان أيضا، كنت مداوما على الحضور إلى تيران الطاس، بعد زوال يوم السبت، لأشاهد مباريات بطولة الفرق المهنية المعروفة ب ’’طرافايوز‘‘، بل ولأستمتع بها، وخاصة مجموعة من الفرق التي كانت تلعب في إطارها، مثل فريق رجال التعليم وفريق شركة جينيرال وفريق المكتب الشريف للفوسفاط وفريق دار الضريبة وفريق تيسبرود. وبالمناسبة، أذكر أن هذه البطولة كانت تغذي فرق القسم الوطني الأول آنذاك بكثير من اللاعبين الموهوبين، أذكر منهم ميلود وزهيد اللذين انتقاهما مسؤولو الوداد آنذاك للعب في فريقهم الأول. ولشغفي بكرة القدم، لم أكن أتردد في تتبع المقابلات التي تجريها أندية الحي المحمدي المنتمية إلى القسمين الوطنيين الثاني والثالث، وخاصة فرق العَلَم والثبات والأهرام والنيل التي كان لاعبوها يتقنون اللعب، فزودوا أندية القسم الوطني الأول بعدد كبير من اللاعبين المشهورين وحتى الفريق الوطني المغربي. وأستذكر، هنا، اسمين: الغزواني (الطاس والجيش) والمعطي (النهضة السطاتية). إلا أن تلك الأندية لم يكتب لها أن تصمد في المنافسات كثيرا حتى تصعد إلى القسم الأول، ولربما كان من سوء حظها أنها نشأت في حي ترسخت فيه أقدام فريق الطاس بقوة منذ منتصف عقد الأربعينيات من القرن الماضي، وتملكته الغيرة من أي فريق آخر قد يزاحمه في مكانته وشعبيته.

بالإضافة إلى ذلك، كنت أتردد كثيرا على ’’تيران الطاس‘‘ لمشاهدة المباريات التي دأب العربي الزاولي على تنظيمها بين فرق الأحياء والتي سمحت له بتكوين ’’مشتل‘‘ أو ’’بيبينيير‘‘ وفر له كثيرا من الجهد والوقت والمال عوض البحث عن اللاعبين هنا أو هناك، وباكتشاف كثير من اللاعبين الذين اعتمد عليهم في بناء فريقه الأول. وما أزال أذكر بعض الآليات التي أبدعها لاكتشاف المواهب من بين العشرات والعشرات من المترشحين، وخاصة طريقة تنفيذ ضربات الجزاء. كما أذكر أن تلك المباريات كانت تتوج بالمباراة النهائية التي تنظم بمناسبة عيد الشباب. وبالمناسبة، ما أزال أستذكر الحفل الذي نظم في 10 يوليوز 1971، وما تلاه من سماع موسيقى عسكرية كانت تبثها الإذاعة والتلفزة المغربية بالرباط، أثناء عودتي من الملعب إلى بيتي، والتي أدركت فيما بعد، وبعد سماع صوت المذيع محمد بن ددوش، أن محاولة انقلابية في الصخيرات كان يجري تنفيذها.
كنت أتصيد الفرص للاقتراب ممن عشقتهم من لاعبي الطاس، أتلهف إلى معاينتهم عن قرب، بل وأسترق النظر إلى وجوههم، انتظر وصولهم إلى مستودع الملابس بفارغ الصبر، بل وأذكر، عندما علمت، وأنا في بداية مشواري الإعدادي، بانتماء نومير إلى صف من الصفوف المتقدمة من الدراسة في معهد الأرميطاج، فيما صار يسمى اليوم ’’التأهيلي‘‘، فبحثت عنه أثناء فترة الاستراحة، لأجده يلعب الكرة وصفوة من زملائه في زاوية من زوايا الساحة، بعيدا عن أنظار الإدارة التي كان أحمد المكتفي يتملك ناصيتها بيد من حديد. وبالمناسبة، أريد أن أشير إلى أن الإدارة الرسمية كانت بيد الأستاذ الهاشمي الفيلالي الذي أتذكر وقفته عند مدخلها، دون أن يتدخل في سير المؤسسة اليومي، حسب ما كان يتراءى لنا، كما أتذكر تشبثه بوضع ’’الطربوش الوطني‘‘ على رأسه، في حين كان ’’لفقيه‘‘ بوشتى الجامعي يداوم على لباس الجلباب و’’البلغة‘‘ والعمامة على رأسه، وهو يسير بخطى بطيئة نحو خزانة المدرسة التي كان مسؤولا عليها.

يتبع

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية مديرة وإعلامية موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بمغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل و المراسلات:jaridatealwane@alwanne.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *