في الطريق إلى واحات تافيلالت
سفر..سفر..سفر: “سيحُوا، تستريحُوا“
منذُ صغري وأنا مُغرَمٌ بالتّرحال والتّجوال، ولا زلت مُدمنًا على السّياحة إلى اليوم. عندما كنت طفلا صغيرا تجاوزتُ حدود قريتي، ثم امتدّت قدَميّ ضدّ قوانين القبيلة والأعراف المعمول بها إلى خارج أطرافها، ووصلت إلى قبائل أخرى مجاورة. كانت أمي خديجة رحمها الله تخاف عليّ من كثرة غياباتي وطولها عن البيت، أما أبي عمر رحمه الله، فقد كان يتّهمني بالتّهوّر والجُنون و”قسحان الراس”.
وفي مراهقتي الأولى، جُلت كثيرًا من المناطق بالمغرب، وحدث أن عُيّنت مُدَرّسًا في منطقة سوس بأقسى الأطلس الصغير، وهي أقرب جغرافيا إلى الصحراء في الجنوب، وهناك زاد ابتلائي بالسّياحة أكثر، ووجدت فيها ضالتي ومرادي.
كنت أدرّس التلاميذ بالقسم أثناء العمل، وفي العُطل الصغيرة كنت أتطاول على مهنة المُرشد السياحي، أفيدُ وأستفيد، وأُعَرّف بالهَوية الثقافية والتاريخية لبلادي. وكم سمعتُ مغالطات يقدّمها المرشدون المرافقون للسيّاح، وعرفت من ملازمتهم أنهم يعرفون اللغات، ويجهلون الكثير من المعلومات الصحيحة عن تاريخ بلدهم المغرب. هناك في مناطق سوس الأقصى والأقسى، صاحبت سيّاحًا من دول أوروبية كثيرة دون مقابل، وكانوا يرتاحون إلي أكثر، حين يعرفون أنني أستاذا وليت مرشدا سياحيا، لأن رجل التعليم له رمزية خاصة في بلدانهم، سواء عند الدولة أو المجتمع.
كل رحلاتي الطويلة، وهي كثيرة ومتنوعة، في طولها وقصرها على مدى أكثر من أربعين عاما، قمتُ بها وحدي مُنفردًا. ليس لأنني أحبُّ العُزلة، ولكن لأنني لا أريد أن أتقيّد بطباع أحَد، كأن أستفيق وأفطر باكرًا أو أتعشى وأنام متأخّرًا، لي خصوصياتي وفرادتي، وغير منتظم في عاداتي وطباعي وطبيعتي. أجمع بين الطباع ونقائضها، بوهيميّ ميّالٌ إلى الحرية والتهوّر، وحريصٌ في نفس الوقت على أدق التفاصيل والجزئيات، ولذلك كنت حريصًا على التصرُّف في سفريّاتي، كما يحلو لي لا كما يتفق مع أهواء غيري، كأن أنام وأستفيق باكرًا، وأسهر حتى الصّبح، وأستفيق متى شاءت ساعتي البيولوجية. أنام اليوم في رياض أو فندق فاخر، وفي الغد أقصدُ فندقا أو نُزلا متواضعًا، حسب ما يتوافق مع مزاجي، وما أتوفر عليه من إمكانيات مادية.
وكثيرا ما كنت أتناسى ما قالته العرب قديمًا: “الرّفيق قبل الطريق“، ولكن حين اقترح عليّ الصديق إدريس إغيظ القيام برحلة إلى صحراء المغرب الشرقي، لم أتردّد، لأنني كنت مُبرمجًا نفس الرحلة منذ زمن قديم أولا، وكنت أعمل في كل مرّة على تأجيلها لظروف كانت تتباين في نزولها، وثانيا لأن الصديق إغيظ تجمعني به قواسم مشتركة، ولأنه كذلك من جيلي، ونحمل الكثير من الأفكار والهموم المتشابهة، وإن كانت بعض المتلازمات والخصوصيات الفردية تحضر دائمًا في هذه العلاقات الثنائية المتقاربة.
بداية الرحلة كانت من فاس، وفي إحدى مقاهي بولمان، تناولنا الفطور الأطلسي الأول. كم أحسست بالانتشاء، وأنا اضع قدميّ لأول مرة هناك، إنها مُجرّد البداية في رحلة طويلة. وأنت في طريقك إلى ميدلت بعد بولمان، يظهر لك بياض جبل “العَيّاشي“ المَهيب في عُلوّه، وكأنه يقول: “بعيدٌ عنك، قريبٌ منك“. ولكن لا عجب، إنه سحرُ الأطلس المتوسط. ثم فجأة يتراءى لنا دخّان يصّاعدُ إلى عنان السّماء، قال لي مُرافقي: “إنه شواء زَايْدَة“، وبعده وصلت أمام دهشة البياض البعيد إلى ميدلت ثم إلى مدينة الرّيش. جولتان سريعتان في المدينتين الصغيرتين، وبعض النظرات كانت كافية لأخذ نظرة سريعة وعامة عن طبيعة الناس وأحوالهم، بعيدا عن أي سؤال، مع مُتنفس صغير واستراحة مع أخذ فنجان قهوة على السريع، والتقاط صور للذكرى، واستمر المَسير بعد ذلك نحو الرّاشيدية.
منذ القديم وإلى عهد حديث، كنت أرى على الشاشة واليوتيوب وأسمع عن محنة عبور المسافرين عبر“تيزي نتلغمت“ في المناسبات والأعياد، وما يخلفه هذا المرور من حوادث مُميتة، حتى ظننته غولا أو وحشًا خُرافيًّا قاتلت، ولكن حين رأيته في رحلتي الأخيرة، وقارنت الطريق القديم مع رأته عينيّ، قلت مع نفسي في صمت، حين يراودك الوسواس بأن المغاربة كُسالى نائمين، تذكر كيف كانت المُنعرَجات في المقطع الطرقي المُخيف “تيزي نتلغمت“، وكيف أصبحت اليوم مطواعة تحت عجلات الشاحنات والحافلات والسيارات. تحوّلت المُنعرَجات القاتلة إلى طريق سريع ومُريح وممتع للنظر، شقته همم الرجال وسواعدهم باستعمال آلات حديثة، في التواءات صخرية جبلية عنيدة وجِدُّ وعرة، يتجاوز علوُّها الألفي متر. إنهم المغاربة ولا عجب، جادّون وأشدّاء حين يُريدون.
بدءا من قرية “كرّاندو“ سيُصاحبنا وادي زيز في الطريق، ما أن تبتعد عنه إلا لتقترب منه، وحين تتخطى هذه القرية بكيلومترات قليلة، وتترك خلفك تاريخ عدّي أوبيهي الغامض، حتى ينجلي أمامك غار “زَعْبَل“ بكل شموخه. باب صخري يفتح ذراعيه ويُحيّي العابرين، يُرحّب بهم في غدوهم ورواحهم إلى مجاهل صحراء تافيلالت، وفتنة أشجار نخيل واحاتها. صخرة صمّاء عالية الهمّة، عملت فيها معاول المغاربة وفؤوسهم ثقبًا واسعًا، مرّت منه قوافل السودان وسجلماسة قديمًا، وهي تحمل على جمالها وبغالها سِلعًا نحو فاس، واليوم تمرُّ منه قوافل الحديد من حافلات وسيارات وشاحنات في الذهاب والإياب عبر حافّة وادي زيز مُحمّلة برُكّابها وبضائعها نحو واحات تافيلالت ومدنها في جنوب المغرب الشرقي.
الاستثمار السّياحي المُكثف في واحات تافيلالت، جعل كل واحة صغيرة أو كبيرة في الصحراء بها فندق أو رياض، ممّا جعل من الرّاشيدية عاصمة الجهة وأكبر مدنها أشبه بمدينة عُبور، وإن كانت لا تخلو من جمالية وأماكن سياحية. وبمجرّد أن تغادر الراشيدية وتودع وادي زيز، حتى تجده أمامك يُجاور شرفاء “مدغرَة“، ثم قصور أكبر واحة في المغرب والعالم: مدخل مسكي، الزّاولة، أولاد عيسى، القصر الجديد، قصر الكارة، أوفوس، الزّريكات، البلاغمة، الرّتب، عرب صبّاح زيز، وصولا إلى مدخل مدينة أرفود الوديعة بأبوابها الفريدة وأسوارها المُتميّزة في قدمها.
هناك، وأنت تعبرُ تجمّعات سكنية كبيرة، تكتشف أن واحات تافيلالت هِبَة وادي زيز، وهو الرّئة التي يتنفس بها ساكنة كل القصور(الدّواوير) ومواشيها وطيورها، ومن دونه لا يمكنها أن تستمر في العيش. زيز وادي طويل جدّا، يُصاحبك من أعالي مدينة الريش ومركز سيدي حمزة في عمق الأطلس المتوسط إلى أن يتلاشى في بيداء الصحراء المغربية. وما أن تغادره عبر قنطرة صغيرة أو كبيرة، حتى تعود إليه أو يعود إليك ثانية في قنطرة أخرى. أوفوس أشهر واحات تافيلالت، وربما أكبرها وأطولها. العرب يجاورون الأمازيغ في واحات تافيلالت، ولم يثبت أنهم اختلفوا في حُسن الجوار.
وادي زيز يُوَحّدهم في اهتماماتهم، وهوى تمور النّخيل يجمعهم. ومن غريب المفارقات وعجائب الصدف، وجدنا على طول الواحة آثار نار وحريق قديم، وبقايا طمي وعلامات تركها فيضان حديث. هو وادي زيز، يجرَحُ عندما يجفّ ماؤُه، ويُداوي عندما يصحَبُ معه مياها وتساقطات مطرية لكي يروي بها أشجار نخيل الواحات، ويجرّ إليها مياه ينابيع أطلسية وذوبان ثلوج، يصاحبها لمسافات طويلة من قمم جبال الأطلس المتوسط الجنوبي، وما يجرفه من طمي الجبال إلى صحراء تافيلالت وواحاتها ليعم الخير فيها.
غابات نخيل كثيف تثير دهشة الزائرين، وانبهار سياح الداخل والخارج. يقف الجميع متأبّطا كاميراته أو يوجّه عدسات هواتفه الذكية لأخذ صورة لكل جميل في الواحة من أشجار ونخيل، وما تحتويه القصور من هندسة فريدة في بناء البيوت والدور والأسوار الصحراوية، كل شيء تراه العين يُغري عدسات الكاميرات بالتصوير على طول الوادي الأخضر في وسط صفرة صحراء قاحلة.
قرى كبيرة تصادفها على طول الطريق العابرة من الواحة، هي أقرب إلى مدن صغيرة، تجد فيها وكالات بنك وبريد، وما يلزم الحياة العصرية من مصالح إدارية وتجارية. إنها واحات تافيلالت التي تلازم طريقك حتى أرفود، ثم مرزوكة والريصاني، ومنها تنعطف يمينا إلى مركز أنيف ثم تنغير وزاكورة، أو تقفل راجعًا من الريصاني إلى الراشيدية عاصمة جهة درعة تافيلالت.
لا شيء يشفي النفوس أكثر من السياحة، ولذلك قال المُتصوّفة قديما، وهم على حق في قولهم: “سيحُوا، تستريحُوا“، لأن السفر في الطبيعة راحة، هو الوحيد القادر على تخليصك من القلق والانتظار، ومن روتين الحياة اليومية.
قبل الوصول إلى صفرة الكثبان الرملية في مرزوكة، كان لا بدّ من التوقف في أرفود، وبها أخذنا برّاد شاي صحراوي أصيل، ثم جولة قصيرة على مهل التقطنا فيها بعض الصّوَر للذكرى.
بعد أرفود اتجهنا رأسًا إلى مركز مَرزُوكة، قرية صغيرة فنادقها ورياضاتها أكثر من دورها ومنشآتها الإدارية. في الطريق إلى كثبان رمالها البعيدة عنها بكيلومترات قليلة، كان لا بد من زيارة دوار “الخَمْلية“، قرية صغيرة جدا تقع على حافة الكثبان الرملية بالقرب من الحدود الجزائرية. هذه القرية لها امتداد تاريخي يصل إلى السينغال، وهو ما يظهر من سُمرتهم الخفيفة وموسيقاهم “الكناوية“ المُختلفة. وعندما نذكر علاقة المغرب بالسودان، نستحضر فترة ذهبية من تاريخ المغرب، في اشتباك علاقته التجارية مع العمق الإفريقي. كنا نصدّر لهم ونستورد عدة مواد من: مالي، النيجر، غينيا، كينيا، السنغال والسودان. وكان بيع وشراء العبيد جزء لا يتجزأ من التجارة النشيطة يومها.
في واحة “خملية“ استمتعنا بطقوس فُرجَوية موسيقىة كناوية مُختلفة، جلست وصديقي إدريس مع فوج إسكندنافي من السيّاح في بيت طويل، وسمعنا إيقاعًا “كناويًّا“ رفيعا ومُختلفا عمّا تعوّدت آذاننا على سماعه من قبل في مراكش والصويرة، وفي دورب فاس ومكناس أزقتها العتيقة. استفسرت أحد الشبّان المكلفين بالتواصل مع الزوّار عن نوع الإيقاع الكناوي “الخَملي“، وعن وأصولهم. قال لي أن “موسيقى كناوَة الخَملية مختلفة، ولها فرادتها وخصوصيتها“، وأنّ “أصلنا يرجع إلى السودان، وقد حافظنا طول هذه المدة على تراثنا وموسيقانا وإيقاعاتنا، وبقيت نقية كما كانت عند أجدادنا، بعيدا عن أيّ طقوس غريبة، كما في مناطق كثيرة من المغرب…“.
ومن قرية واحة “خملية“ انطلقنا نحو رمال مرزوكة، وقد امتلأت قلوبنا بالرّوحانيات. ولكن قبل ذلك، أخذنا طريقا إلى منجم قديم، كان الفرنسيون في عهد الحماية يستخرجون منه معادن، مثل: الرّصاص، الكُحل وغيرها. وفي ربوة عالية، جلسنا ننظر إلى الأخاديد المحفورة، وبقايا بنايات كان يستعملها المحتل الفرنسي في الخزن والتنقية والتعدين. قال لنا “حَمّو“ مُرافقنا الأمازيغي الطيب، وسائق “تويوتا“ رباعية الدفع، اكتريناها من المركز، إذ من دونها لا يمكن التحرك في رمال صفراء متحركة:
– “هذا دوار مرزُوكة الأصل، وتلك خيام السكان الرّحالة، وما يظهر هناك في الأفق، هو حدودنا مع الجزائر…“ مررنا بمساكن طينية وأخرى إسمنتية يستعملها إلى اليوم جنود وضباط مغاربة، وأثناء عبورنا الطريق، سرد علينا حكايات غريبة عن مواطنين مغاربة كانوا يبحثون عن “التّرفاس”، وإذا بدهشة الصحراء تأسرهم، تاهوا فيها واعتقلهم الجنود الجزائريون. حكى لنا كيف عاملوهم بقسوة وعنف، وكيف تعامل الجنود المغاربة في المقابل برقة وإنسانية مع مواطنين جزائريين دخلوا عن طريق الخطأ إلى المغرب. شربنا الشاي مع الرُّحل في الخيم في استراحة خفيفة، وواصلنا الطريق إلى المخيم تحت سفح “جبل“ رملي أصفر، ميّال إلى الحُمرة كلما اقترب قرص الشمس من المغيب.
ارتبطت صفرة رمال مرزوكة عند عامة المغاربة بالتخلص من آلام البرد المُزمن والتهاب المفاصل، أو ما يعرف عادة بالرّوماتيزم. وتُعرَف رمال مرزوكة عند العرب والعجم بفوائدها العلاجية، ولذلك يمارس فيها الكثيرون “الدّفن في الرّمال” كعلاج طبيعي لأمراض الروماتيزم وآلام المفاصل. ويعتقد الكثيرون أن الحرارة الناتجة عن الرمال تساعد في التخفيف من الألم، هذا إن لم تزله بشكل نهائي. ولكن أن تقضي ليلة من شهر يناير بالمُخيّم، وأنت مُحاط بالرّمال الباردة، هو الرّوماتيزم بذاته. بردٌ ما بعد منتصف الليل لا يحتمل، ولا تقاومه أغطية، ولذلك تقل السياحة عادة بمرزوكة في فصل الشتاء وشهري دجنبر ويناير على الخصوص، إلا من سياح أجانب وقلة من المغاربة.
تعوّدتُ على رُؤية الجمال، وتقربت منها أكثر في سوق الجمال بكلميم. ولكن حين امتطيت ظهر الجَمل أوّل مرّة، وتنقلت على ظهره بين كثبان رمال مرزوكة الصفراء ذات الجمال الرّباني، رجعت بي الذاكرة إلى الهجرة الأولى من مكة إلى المدينة، واستحضرت لقطات من فيلم “الرّسَالة“ استخدم فيها مصطفى العقاد عبقرية الفنية، وأبدع فيها مُمثلو ونجوم زمانهم في المسرح والسينما: عبد الله غيث، محمد أنور الجندي، منى واصف، محمد العربي، أحمد مُرعي، محمود سعيد، علي أحمد سالم، حمدي غيث، سناء جميل، محمود السّباع، عبد العظيم عبد الخالق، محمد وفيق، الطيّب الصدّيقي وآخرون. إنها الصحراء بكل جبروتها حقا وحقيقة، كانت الرّحلة إليها شاقة ومتعبة، ولكنها جميلة ورائعة. تجربة فريدة تدعوني إلى إعادتها لو لزم الأمر ثانية وثالثة.
عندما انتهت ملاحقة غروب قرص الشمس، وتتبّعناه بكل تفاصيله من فوق كثبان مرزوكة الرّملية. حلّ بيننا ليل الصحراء ضيفا ثقيلا، برد قارس لم نعتد عليه في بوادينا ولا مدننا. ليل باردٌ جدا لا حراك، وأثر فيه حتى لنباح الكلاب ومواء القطط. لم تعد الخيمة التي تأوينا قادرة على حماية أجسادنا من جبروت البرد، ولا الفراش الذي نتغطى به يُدفئ أجسادنا، أما الحمّام والدّوش أصبحا دودة زائدة في فضاء الخيمة. من يجرؤ على أخذ حمام ليلي في درجة حرارة تقل عن الصفر؟ تذكرت حينها مأساة أطفال المُخيّمات في سوريا وغزّة، وافتكرت العائلات التي لازالت تسكن تحت الخيام في الحوز بعد زلزال. وعرفت ما معنى أن تقضي ليلة تحت الخيمة في الصحراء، فما بالك بالجبال وتحت الثلوج والأمطار.
كنت في بداية يناير في صحراء مرزوكة، أعيش الصباح لأول مرة بشكل مُختلف، راقبت طلوع شمس وهي مسترخية من غيابها الطويل في الليل. كان السياح مُتحمّسون لمُمارسة طقوسهم الصحراوية في يوم جديد، وأنا لا أفكر سوى في الرحيل المُبكّر. تركت ورائي خياما بيضاء منصوبة في انتظام، ذكرتني بحياة قريش القديمة أيام الجاهلية في شبه الجزيرة العربية، وجِمَالٌ على الكثبان جاثمة تنتظر من يركبها، صفرة لا تنتهي وجَمَالٌ ربّانيٌّ أخّاذٌ يمتدُّ على مدّ البصر، أينما وليت وجهك على اليمين وعلى اليسار ثمّة صفرة فاقعٌ لونها.
لا يمكن الدخول إلى مدينة الريصاني زائرًا أو سائحًا، دون استحضار فكريّ لتاريخ سجلماسة القديم، والقيام بزيارة إلى ضريح مولاي علي الشريف مؤسس الدولة العلوية. وسواء في بوابة الضريح أو داخله، تلتقي حتمًا بسياح مغاربة وأجانب. في بوابة مدفن مولاي علي الشريف، وجدنا لافتة تنبّه إلى عدم استعمال الكاميرا، ولكن حين سألت المشرف على الضريح، قال لي:
– “لا يمكن أخذ “سيلفي“ داخل الضريح، أما دون ذلك، لك مطلق الحرية في أخذ ما تشاء من الصور…“ وبما أنني من عشاق طرح الأسئلة، سألته عن هويّته، وعن تاريخ مولاي علي الشريف. عرفت أن القبر الأكبر المغطى بالأخضر، يضم رُفات مولاي علي الشريف، وسألته عن دفناء القبور الصغيرة في الضريح إلى جانبه. بدأ يقدّم لي شروحات كيف وصل إلى المغرب، وكيف تمت بداية تأسيس الدولة العلوية. أعطاني عدة معلومات عامة بسرعة تعوّد على تقديمها للسائلين عنها، قال:
– “القبر الكبير لمولاي علي الشريف، الجدّ الخامس عشر للملك محمد السادس نصره الله، وإلى جانبه مولاي يوسف، ومنه تفرعت الملوك العلويين، وهناك في الركن قبر مولاي محمد بن مولاي علي الشريف، ثم قبر مولاي رشيد(دفين سيدي حرازم) خليفة لأخيه مولاي الحسن الأول، وهناك قبر سيدي الحبيب بن زين العابدين بن مولاي اسماعيل المزدان بتافيلالت…“.
هذه المعلومات قد تكون صحيحة، وقد يحتاج بعضها إلى تدقيق تاريخي في مسار تأسيس الدولة العلوية ونشأتها، ومع ذلك قبلتها كما هي. وقبل أن أطلب بركات المولى علي الشريف والتسليم لرجال البلاد، كما تعوّدنا على ذلك في ثقافتنا في هذه المواقف، استوقفتني جمالية القبّة، سألته عنها قبل أن تمتد رجلي اليمنى خارج الضريح. ردّ الشيخ على سؤالي باقتضاب شديد، ويقين بيّن:
– “عمر القبة 260 سنة، بناها السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله، مُؤسّس مدينة الجديدة، والصويرة حيث كانت عاصمته…“ لا يمكن أن تغادر الرّيصاني دون أن تشري تمورها المحلية، وهي معروفة بجودتها العالية في المغرب وخارجه: “الفقّوس“ و“المَجهول“ وأنواع أخرى. وأنت هناك، ينصحونك أيضًا باقتناء ما يلزم من أعشاب محلية من حوانيت قيساريتها المعروفة بـ“السّوق“. أعشاب طبيعية محلية وأخرى قد تكون مستوردة، وهي تدخل أساسًا في تحضير الشاي المغربي الأصيل على “حقّو وطريقو“.
عند خروجنا من مدينة الرّيصاني، وجدنا سائحًا هنغاريا شابًّا يقف في مفترق الطرق بين أرفود، الرّيصاني في اتجاه أنّيف. في أحاديثنا، ونحن على الطريق، حول خصوصيات هنغاريا والمغرب، قال لنا أنه يمتهن العزف على آلة موسيقية تقليدية في شوارع هنغاريا. طلب منا أن نوصله إلى أنّيف، ففعلنا لظروف إنسانية. الطريق طويل وشبه مُستقيم بين أنّيف والرّيصاني، والطبيعة مُمتعة تُغري بالتقاط المزيد من الصّوَر. جبال فريدة ومناظر تتراءى خضراء للناظرين، وهي أقرب إلى سهول السّافانا، زاد من جماليتها التساقطات المطرية الأخيرة.
وما هي إلا ساعة، حنى كنا وسط مدينة تنغير. كان بيني وبينها عشقٌ قديم، غرامٌ وملح، عشرة عمر وطعام، وما يناهزُ الأربعينَ عامًا من الفراق. أحببت فيها أناسًا غادرونا، وآخرون طيبون لازلت أحبّهم. وكم سعدت هذه المرة، وأنا أحَيّن ذكرياتي فيها. تنغير، مدينة تمتد على سفوح الأطلس الكبير، مناظرها جميلة تستحق الزّيارة والمُغامرة. وها قد عدت ثانية إلى أحضان مضايق “تودغى“، وكم سرّتي أن أعانق نخيل واحاتها، وأستمتع بخرير مياه واديها.
وبعد استراحة قصيرة في ميدلت وأخرى في “تمحضيت“، عرجنا على بقايا بياض ثلج على جنبات الطريق في “ميشليفن“ باتجاه إفران، وجمال طبيعي دائم الاخضرار في غابات الأرز والبلوط بالأطلس المتوسط بين إفران وإيموزار كندر. وهكذا مرّت الرحلة كما كنّا نشتهي لها أن تكون، وهو الأهم في جولة مُمتعة، شاقة وطويلة. تم تصريف كل العقبات التي واجهتنا فيها بمنتهى اليسر والسهولة والتفاهم، إلى حدود ختام الرحلة بفاس.
كل الأمور مرت في أمن وأمان، وكما كان مُخططا لها، وكما أردنا أن تكون منذ الانطلاقة الأولى من فاس.
حمدا وشكرًا كثيرًا لله على ذلك، وعلى سلامتنا. وإلى لقاء قريب في رحلة أخرى مقبلة بحول الله تعالى وقوّته، لو في العُمر بقيّة.