أصدقاء المغرب: خوان غويتيسولو
“خوان غويتيسولو” والحوار بين الحضارات والثقافات
بقلم أحمد قابيل
الشهر الماضي أقيم بمدينة مراكش حفل تكريم للكاتب الإسباني الكبير خوان غويتيسولو نظمته مؤسسة الثقافات الثلاث شاركت فيه مجموعة من الباحثين من مختلف بقاع العالم، بحضور شخصيات وازنة من عالم الأدب والسياسة، وقيل في حقه الشيء الكثير ، فهو أحد الذين يقيمون الجسور بين الشعوب والثقافات وبين الشمال والجنوب وهو من الذين سعوا إلى فهم مشاعر الشعب المغربي ودافع بشجاعة عن حقوق المغرب في صحرائه، وهو أحد الذين يدعون إلى احترام الثقافة الوطنية، لكن دون أن يؤدي ذلك إلى محاربة الثقافات الأخرى أو التحقير من شأنها، ويدعو إلى أن الحوار بين الحضارات والثقافات هو الرد المناسب للوضعية المتردية التي يعيشها العالم الآن. لكننا في المغرب، أصبحنا نعرف خوان غويتيسولو أكثر، لأنه الكاتب الذي أنقذ معلمة حضارية كبرى في مدينة مراكش هي ساحة جامع الفنا فلولا دفاعه المستميت عنها، لكان من الممكن أن تمّحى من الوجود، وأن تصبح مجرد ذكرى يكتب عنها المهتمون بالتاريخ الثقافي للمدينة، ويحكى لنا عنها الشيوخ. وهو أمر وارد جدا، فالذين هدموا المسرح البلدي بالدارالبيضاء وغيره من المعالم الثقافية والتاريخية، والذين يتركون الآن مسرح ثرفانتيس بطنجة للإهمال ويشاهدونه يتآكل ويتهاوى أمام أنظار أعينهم، هؤلاء وأولئك قادرون على محو ساحة جامع الفنا من الوجود،وما أهمية الشأن الثقافي في مخططاتهم ومشاريعهم ذات الربح السريع والآني؟ بدأت القضية حين علم خوان غويتيسولو أنه سيتم بناء عمارة زجاجية من 15 طابقا في الساحة، فاستنتج أن ذلك سيغير من معالمها وسيحدث خللا في طبيعتها، فكتب مقالا ضد هذا المشروع، وكثف اتصالاته بالمسؤولين ليقنعهم بخطورة ما سيقدمون عليه، وظل يدافع عن الساحة حتى تم التخلي عن هذا المشروع الجهنمي، بل لقد أفلحت كتاباته عن الساحة في إقناع المسؤولين في منظمة اليونيسكو سنة 1997 بأن يكرسوا ساحة جامع الفنا فضاء للتراث الشفوي يجب حمايته، والحفاظ عليه لأنه تراث للبشرية كلها. وكان قرار اليونيسكو أمرا جديدا ومستحدثا، فقد كانت تهتم فقط بالتراث المادي الملموس :مساجد، كنائس، قصور، مدن قديمة.وكان لساحة جامع الفنا الفضل في أن يبدأ الاهتمام بالتراث الشفوي أيضا : تقاليد شفوية وموسيقية، أساليب في العيش وفي الحياة وفي الصناعات التقليدية إلخ… ولكن خوان غويتيسولو يرى بأنه يجب علينا أيضا أن نهتم بالخزان البشري الذي يصنع هذا الفضاء الثقافي : الرواة، الحلايقية، الموسيقيون، إنهم بشر ولابد أن ندخل في اعتبارنا وضعهم الاجتماعي والإنساني، وأن نحميهم من مذلة السؤال، فلماذا لا ندخل هذا التراث الشفوي حتى في البرامج الدراسية : أن تنظم المدارس مثلا زيارات منتظمة إلى الساحة ليستمع التلاميذ إلى الرواة والحلايقية، ويكتشفوا هذا الجانب من ثقافة بلدهم، ويعرفوا أن والت ديزني Walt Disney ليس وحده الذي يتقن فن الحكي، بل هناك رواة موهوبون من مواطنيهم قادرون على منحهم لحظات متعة حقيقية والتحليق بخيالاتهم إلى آفاق واسعة.
في إسبانيا، يخوض خوان غويتيسولو معركة ثقافية أخرى ضد أوهام ترسخت لدى المؤرخين الإسبان وروجوا لها، وكان لها أثرها السيء في علاقة الإسبان بباقي الشعوب، وفي علاقة الثقافة الإسبانية بباقي الثقافات، مفاد هذا الوهم أن شخصية الإسبان ليست نتاج مؤثرات ثقافية متعددة اندمجت خلال عدة قرون، بل هي نتاج جوهر إسباني واحد لم يتغير منذ القديم. ويعني ذلك ضمن ما يعني أن الوجود العربي في إسبانيا الذي استمر ثمانية قرون كان مجرد وجود عابر لم يؤثر في المعدن الإسباني، كان مجرد قوس أغلقه الإسبان سنة 1492 حين استولوا على غرناطة آخر معاقل المسلمين. والحال أن العرب والمسلمين في الأندلس أثروا بعمق في الحضارة الإسبانية ومازال هذا التأثير حاضرا في اللغة وفي كثير من أنماط العيش، وبفضلهم تعرف الإسبان على الإرث الثقافي والعلمي والعقلي العالمي وامتداداته العربية الإسلامية.ويعتبر خوان غويتيسولو أن طرد اليهود والعرب من إسبانيا ساهم بقدر كبير في إفقار الثقافة الإسبانية، بل لقد فتح هذا الطرد جروحا في التاريخ الإسباني لم تندمل لحد الآن.
إن هذا الدفاع عن هوية مزعومة هو الذي يتسبب في القومية المتعصبة، وما يتلوها من صراعات ثقافية وسياسية قد تصل إلى حد اندلاع الحروب بين الشعوب والأمم. والحال أن كل هوية هي جماع لعدة مؤثرات من ثقافات مختلفة، وبالتالي فهناك جسور خفية بين الهويات لابد من إبرازها، حتى نساهم في التقريب بين الثقافات والحضارات ويسود السلم بين الأمم.