سميحة أيوب وسناء جميل
بين.. بين
بين سيدة المسرح وسيدة الإحساس
بقلم ذ. عبد المجيد شكير
هما سيدتان حلقتا في علياء الفن المصري بل والعربي، تقاربتا في السن (سناء من مواليد 1930 وسميحة من مواليد 1932)، وتقاربتا في العطاء والإبداع، فلقبت الأولى (سيدة المسرح) ولقبت الثانية (سيدة الإحساس) ولكنهما اختلفتا على المستوى الإنساني في شخصيتهما، وعلى المستوى الفني في اختياراتهما وتوجهاتهما، إنهما الممثلتان المبدعتان سميحة أيوب وسناء جميل، فأين تجلت قوة كل واحدة منهما؟ وما هي أهم أدوارهما المنقوشة في ذاكرة التمثيل؟ وما نوع العلاقة التي ربطت بينهما؟ بلغت سميحة ذرى المجد من خلال فن المسرح، والذي نسجت معه حكاية غرام طويلة وشمتها بالصدق والأصالة والالتزام، وعلى خشبة المسرح القومي وقفت لعقود لكي تجسد أعمالا متنوعة في مضامينها، وثرية في أبعادها، وصلت إلى 170 مسرحية، بجمالية صوتها وقوته، وبلغتنها العربية المتقنة، وبنطقها الفصيح، ومخارج حروفها السليمة والدقيقة، وبفهمها العميق لدورها داخل العمل الكلي، كانت تأسر العيون، وتستعبد الآذان، وتملأ فضاء الخشبة فإذا كل من وما حولها أقزام في حضرتها، وكانت فترة الستينيات والسبعينيات الذهبيتين بألف شاهد على تألقها وهي تصول وتجول بنصوص لأسماء وازنة (الفتى مهران- وطني عكا …) لعبد الرحمان الشرقاوي، (سقوط فرعون) لألفريد فرج، (السلطان الحائر – إيزيس) لتوفيق الحكيم، (قولو لعين الشمس) لنجيب سرور، (العمر لحظة) ليوسف السباعي، (خيال الظل) لرشاد رشدي، (كوبري الناموس- السبسنة – سكة السلامةـ المسامير ـ يا سلام سلم) لسعد الدين وهبة، (أنطونيو وكيلوباترا) لشيكسبير، (فيدرا) لراسين، (البخيل) لموليير، (الإنسان الطيب- دائرة الطباشير القوقازية) لبريخت، (الذباب) لسارتر، (الخال فانيا) لتشيكوف، (أنتيجون) لسيفوكليس، (أجاممنون) لأسخيلوس، وتربعت على عرش أبي الفنون بفضل الرؤيا الإخراجية العميقة لأعلام تحمل طموحا جارفا لإثبات الذات وللتجديد (سعد أردش- كرم مطاوع- حمدي غيث – أحمد عبد الحليم – جلال الشرقاوي – سمير العصفوري…) مشكلة مع الفنان عبد الله غيث ثنائيا ناجحا قدم لنا تحفا خالدة في ذاكرة المسرح (الوزير العاشق- الزير سالم- حبيبتي شامينا…) وتجاوز إشعاعها الحدود، فمثلت على خشبة مسارح أوروبية كبرى، وتحت إدارة مخرجين عالميين: جان بيير لاروي من فرنسا، برنار جوسى من إنجلترا، كورت فيت من ألمانيا، لسلي بلاتون من روسيا، هكذا توجها الكثير من النقاد والدارسين بألقاب رفيعة الشأن مثل: السلطانة، الإمبراطورة، الهرم الرابع، وأما الكاتب الروائي إحسان عبد القدوس فقال عنها (إنها مثل برج القاهرة فاحفظوها نعمة)، بل إن سارتر هنأها بعد أن شاهدها على المسرح قائلا (وأخيرا وجدت إلكترا في القاهرة) ولم يكن غريبا، وبعد أن ذاع صيتها أن توجه لها إذاعة (BBC) بلندن دعوة لتسجيل الكلاسيكيات اليونانية.
وفي التلفزيون كان لسميحة حضور متميز منذ بدايته (الساقية – الرحيل – الأرض الطيبة – ولسه بحلم بيوم- الضوء الشارد- ولد الهدى – المرأة في الإسلام…) وعلى العكس من ذلك فحضورها في السينما خافت على العموم، اللهم من أدوار قليلة نذكر منها (فجر الإسلام- وجفت الأمطار – بين الأطلال …).
ولكن سناء جميل حققت التألق في المجالات الثلاثة (السينما – المسرح- التلفزيون) وقد شع بريقها أول الأمر في السينما من خلال أعمالها مع صلاح أبو سيف (بداية ونهاية- الزوجة الثانية – السيد كاف) ومع يوسف شاهين (فجر يوم جديد) ومع حسين كمال (المستحيل) علاوة على أفلام أخرى سجلت فيها إبداعها كممثلة (امرأة قتلها الحب – اضحك الصورة تطلع حلوة…) وفي التلفزيون كانت لها بصمة متفردة في العديد من الأعمال، تلمع منها شخصية فضة المعداوي في مسلسل (الراية البيضا) وأدوارها المتميزة في (خالة صفية والدير- الضوء الأسود- ساكن قصادي-عيون- عصفور في القفص- دعوني أعيش …) وأما تاريخ المسرح فيحتفظ لها بدرر لن تنسى (زهرة الصبار- شهرزاد- الحصار – الزيارةـ المهزلة الأرضية ـ الناس اللي فوق..).
تضفي سناء جميل على أدوارها نكهة جذابة، تجعلك تنقاد لأدائها، نكهة تصب فيها إحساسها الداخلي، فينعكس في نبرة صوتها وعلى كل جارحة فيها (قسمات الوجه – نظرات العينين – حركاتها…) ويتدثر كل هذا بتلقائيتها المنسابة في التعبير، لذا لم يكن غريبا أن تلقب بسيدة الإحساس، ففي مسلسل (اللقاء الأخير) وهي تنتظر حبيب اليوم زوج الغد، كم أبدعت وهي ممزقة ما بين اللهفة لوصوله، والخوف من عدم مجيئه، في عينيها وفي كل خلجة منها كنا نقرأ حيرتها بعد أن تأخر عن موعده، فهي تنظر تارة إلى التلفون عله يهاتفها، وتارة أخرى إلى عقارب الساعة وهي تمر مسرعة، ظلت سناء وفية لهذا الأسلوب، حتى عندما مثلت بالفرنسية مسرحية (رقصة الموت) تحت إدارة مخرج فرنسي، وكان طبيعيا أن تنهال عليها الألقاب والأوصاف والتشبيهات من كل جانب، فهي الأيقونة، وهي أم كلثوم المسرح، وهي الملك، وهي دائرة الضوء، وهي الأسطورة، وهي عبقرية الأداء التمثيلي في نظر عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين قائلا (ليس إلى تمثيلها سبيل) ، وقد فسر الدارسون كتلة الإحساس عندها مما تراكم بداخلها من معاناة مع الأسرة وما صادفته في حياتها الخاصة من صعوبات وعراقيل، وكانت سناء جديرة بأن يصدر عنها كتابان، الأول للدكتور حسن عطية تحت عنوان (سناء جميل زهرة الصبار) والثاني للدكتور مصطفى سليم تحت عنوان (سناء جميل البصمة المتفردة في فن الممثل) كما صور فيلمعن مشوارها التمثيلي تحت عنوان (حكاية سناء).
عموما وعلى المستوى الفني فسميحة، وبحكم قوة صوتها، تعد ممثلة مسرحية بالدرجة الأولى، أما سناء وبحكم اعتمادها على التعبير بالوجه والعين فتعد ممثلة سينمائية بامتياز سميحة أكثر عطاء في تجسيد المرأة القوية، المتسلطة، المتحدية، الشريرة، الحكيمة والداهية (أنتيجون- فيدراـ إلكترا ـ كيلوباترا ـ نفرتيتي ـ رابعة العدوية ـ شجرة الدر…) بينما أبدعت سناء في تقمص المرأة الضعيفة والمنكسرة والمتسلطة أيضا، إنها نفيسة في )بداية ونهاية( وسمية أول شهيدة في الإسلام في )الرسالة( وحفيظة في )الزوجة الثانية( وهي أيضا المعلمة الشعبية فضة المعداوي في )الراية البيضاء( والمرأة الأرستقراطية في (سواق الهانم)، وإذا كانت سميحة قد مارست الإخراج المسرحي (مقالب عطيات-ليلة الحنة) هي أول امرأة تمارس الإخراج في مسرح الدولة) وأدارت المسرح القومي لمدة 14 سنة (من 1975 إلى 1989)، فإن سناء اشتغلت مدرسة في المعهد العالي للمسرح.
تعرفتا على بعضهما البعض منذ أيام الدراسة في المعهد العالي للمسرح، وذلك في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، وسرعان ما أصبحتا صديقتين لا تفترقان أبدا، ومع السنين توطدت صداقتهما أكثر، حتى أصبح اسماهما مترابطين، لا تذكر الواحدة منهما إلا وتستحضر معها الأخرى، صحيح أنه مرت عليهما فترات اهتزت فيها صداقتهما، إذ لم تكن خلافاتهما إلا سحابة صيف، فعادت العلاقة إلى مجراها الطبيعي ، فكان الحب والتقدير متبادلين، كانت سميحة تعتبر سناء توأم روحها، وهي في نظرها شعلة متقدة من الإبداع، وسناء تعتبر سميحة حبيبة عمرها، وهي في عينها ممثلة قديرة ومقتدرة وقد اجتمعت الاثنتان منذ بدايتهما في أعمال مشتركة مثل (مسرحية وكسبنا البيريموسقوط فرعون ـ ست البنات ـ مجنون ليلى…) وفي سنة 1992 استطاع المخرج إبراهيم الشقنقيري وبعد نضجهما ـ أن يحقق لقاء القمة أو لقاء السحاب بينهما في مسلسل (حصاد الحب) وهو مسلسل باللهجة الصعيدية، جسدت فيه سميحة دور جنات الباحثة عن الثأر لزوجها حمدان والذي قتل بأيد خفية، وأما سناء فجسدت شخصية نبوية زوجة فراج، وشهد المسلسل مباراة حامية في التمثيل بينها، ولاسيما في المشهد الأخير في الحلقة الثالثة عشرة من جزئه الأول، حيث تواجه جنات نبوية في عقر دار هذه الأخيرة، بدأ الحوار بينهما هادئا، وشيئا فشيئا تشتد نبرته عند الاثنتين، وذلك عندما أكدت سميحة لسناء أن زوجها فراج هو القاتل الحقيقي، وبينما تتشبث سميحة باتهامها، تصر سناء على الدفاع عن زوجها، ويبلغ الصراع ذروته عندما تصوب جنات مسدسها نحو صدر سناء، آنذاك تتحول نبوية إلى مراوغة ومهادنة، فيلين كلامها، في حين يظل كلام جنات ملتهبا بنار الغضب وبنار الانتقام، ولم تهدأ هذه المواجهة بينهما إلا بدخول وردة ابنة سميحة، وسلمى ابنة سناء.
وعلى المستوى الشخصي فسميحة نعمت بمساندة الأهل وخصوصا الخال مما جعل الأسرة تستسلم وتعترف بموهبتها، وأما سناء فإن الأسرة تبرأت منها بعد أن دخلت لدراسة المسرح في المعهد، وتقلبت سميحة ما بين ثلاث تجارب في الزواج (محسن سرحان- محمود مرسي – سعد الدين وهبة) بينما ظلت سناء مستقرة في زواجها الواحد والوحيد مع الإعلامي لويس جريس، وكان أهم اختلاف بينهما هو أن سميحة امرأة عقلانية تفكر الف مرة قبل التصرف، وكانت سناء امرأة عاطفية مندفعة تسبقها أحاسيسها، ومن المواقف التي تحكيها سميحة والتي توضح هذا الاختلاف بينهما، هو أن سناء استسلمت لنوبة بكاء شديدة عندما رأت سعد الدين وهبة في المستشفى بعد أن أصابته رصاصة طائشة، وأما سميحة ورغم أنها زوجته فلم تذرف أية دمعة.
رحلت سناء جميل سنة 2002، ولازالت سميحة تعيش على ذكريات الزمن الجميل مع توأم روحها.