قراءة في كتاب “نيكسوس” للمؤرخ الشهير يوڤال نوح هراري
لمحة تاريخية عن شبكات المعلومات من العصر الحجري إلى الذكاء الاصطناعي
بقلم: د. مهدي عامري*
يُعد كتاب ” نيكسوس ” للمؤرخ الشهير يوڤال نوح هراري، أحد الأعمال الرائدة التي تربط بين تطور البشرية وتطور شبكات المعلومات عبر العصور. في هذا الكتاب، يسعى هراري إلى تقديم سرد تاريخي شامل ومتكامل، يجمع بين تحليل عميق لتاريخ الشبكات المعلوماتية واستشراف لمستقبل الذكاء الاصطناعي، الذي بات يلعب دورًا جوهريًا
ننتقل في صلب هذا المقال الى اصدار وازن وقيم في مجال الذكاء الاصطناعي، ويتعلق الامر بكتاب “Nexus: A Brief History of Information Networks from the Stone Age to AI”، لصاحبه يوفال نوح هراري. ويوقد المؤرخ المعروف هراري من خلال هذا الكتاب شموعا في ظلمات التعقيد التاريخي والتكنولوجي، مبرزًا الدور المحوري الذي تلعبه الشبكات المعلوماتية في تشكيل الحضارات الإنسانية عبر العصور.
ولعل ما يميز هذا الاصدار هو كونه يقدم لنا سردًا شاملًا حول كيفية تطور هذه الشبكات، بدءًا من اللغة والكتابة مرورًا بالثورة الصناعية وصولًا إلى عصر الذكاء الاصطناعي.
يتناول هراري في هذا الكتاب الماتع، الذي يعد هدية ثمينة لكل قارئ يرغب في فهم تاريخ التكنولوجيا، مسألة بالغة الأهمية: كيف شكّلت المعلومات المسارات التاريخية وكيف كانت عاملاً حاسمًا في بناء الإمبراطوريات وانهيارها. فهو لا يرى في المعلومات مجرد أداة، بل يعدها القلب النابض لكل تحول حضاري، وهي التي أرست دعائم مجتمعاتنا منذ العصور الحجرية وحتى عصر الإنترنت.
لكن تبقى المفارقة الأبرز في طرح هراري كامنة في تسليطه الضوء على الذكاء الاصطناعي، الذي يراه ليس مجرد رفاهية فكرية أو ترفًا علميًا، بل هو معركة وجودية حقيقية. وهكذا يضعنا الكتاب أمام معضلة مستقبلية قديمة في جوهرها: التخلف عن اللحاق بركب الذكاء الاصطناعي يعني البقاء في غياهب الكهوف، تمامًا كما عاش أسلافنا.
وبالتالي يجب ان نفهم ان هذا التحدي المعاصر ليس مجرد سباق تقني، بل هو تحديد لطبيعة مستقبل البشرية. وهنا يقدم الكتاب رؤية واضحة بشأن الذكاء الاصطناعي مؤداها ان هذا الاخير ليس في جوهره “ذكاء” بالمفهوم التقليدي الذي يرتبط بالحدس، والخيال، والحلم، والفراسة، بل هو، كما يصفه هراري، “برمجة اصطناعية“.
إن الذكاء البشري الأصيل يتمازج فيه العقل مع الروح، في حين تفتقر الروبوتات إلى هذه العناصر الجوهرية التي تجعل الإنسان إنسانًا. كما ان الغياب المطلق لهذه المقومات يجعلنا نتساءل: هل يمكن بالفعل اعتبار الآلة “ذكية” أم أنها مجرد آلة مدربة على أنماط متكررة من البيانات؟
ويقدم هراري كتابه هذا في إطار تساؤلات فلسفية عميقة، حيث يناقش كيف أسهمت الشبكات المعلوماتية في تطور المجتمعات البشرية، ليس فقط على مستوى نقل المعلومات، بل ايضا فيما يخص إعادة تشكيل المفاهيم الأساسية عن الواقع والخيال.
وفي هذا السياق، يستعرض الكتاب كيف أن الشبكات البدائية، كالحكايات والأساطير، كانت بمثابة “نظام تشغيل” أولي للبشرية، حيث عملت على توحيد المجتمعات الصغيرة وتوجيه سلوكياتها. وفي هذا الصدد يشير هراري إلى أن اللغة لم تكن فقط وسيلة للتواصل، بل كانت أداة لخلق هياكل معرفية مكنت البشر من تنظيم أنفسهم في مجموعات كبيرة. ثم جاءت الثورة الزراعية لتدفع الإنسان إلى اختراع الكتابة، ما أدى إلى ظهور نظم معقدة لحفظ المعلومات، وتوثيق العقود والمعاهدات، مما أتاح بدوره بناء مجتمعات أكبر وأكثر تعقيدًا، وخلق شبكات معرفية تربط بين مختلف القرى والممالك. ومع ظهور الثورة الصناعية، توسعت هذه الشبكات بشكل غير مسبوق، وأصبحت المعلومات تنتقل بسرعة أكبر عبر وسائل الإعلام المطبوعة والاتصالات السلكية واللاسلكية، مما ساهم في بناء الهويات القومية وصياغة أفكار جديدة حول السياسة، والاقتصاد، والمجتمع.
ويصل هراري في كتابه إلى عصرنا الرقمي المعاصر، حيث أصبحت الشبكات المعلوماتية أكثر تعقيدًا وشمولية، انطلاقا من الإنترنت الى تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي.
دعونا نعترف من خلال مطالعة هذا الكتاب المهم ان مؤلفه يوفال نوح هراري يطرح تساؤلات هامة حول تأثير هذه الشبكات على قدرة الإنسان على التفكير النقدي، وكيف أن التدفق الهائل للمعلومات قد يطمس القدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال.
وختاما، يعرض الكتاب رؤية مستقبلية لمجتمع تحكمه أنظمة الذكاء الاصطناعي، حيث قد تصبح هذه الأنظمة أدوات للسيطرة وتكريس الهيمنة بدلًا من التحرير. وهنا يشرح هراري كيف أن الذكاء الاصطناعي ليس ذكاءً كما نفهمه، لأنه لا يتمتع بالحدس أو القدرة على الإبداع والابتكار، بل هو برمجة ذكية، موجهة من قبل مبرمجيها، تتحرك ضمن حدود معينة.
ولعل هذه الحدود، بحسب هراري، لا تسمح للذكاء الاصطناعي بأن يتجاوز كونه نظامًا رياضيًا متطورًا، يفتقر إلى الروح التي تُلهم الإنسان، وتدفعه نحو الحلم والطموح.
كما يرى هراري أن الذكاء الاصطناعي هو نوع جديد من الشبكات المعلوماتية التي قد تشكل تهديدًا حقيقيًا للإنسانية، إذا ما اُستخدمت بشكل خاطئ أو تركت دون رقابة. وهنا، يأتي السؤال الأهم: هل يمكن للبشرية أن تبقى متقدمة على هذه التكنولوجيا، أم أننا سنصبح عبيدًا لها؟
ومن خلال هذا السؤال الحارق يضعنا هراري أمام هذا التحدي بشكل صارخ، مشددًا على أن الذكاء الاصطناعي ليس معركة علمية بحتة، بل هو معركة مصيرية تحدد مصير البشرية. فهو كما يصفه، معركة الوجود؛ إما أن نتقدم ونواكب هذا التطور، وإما أن نظل عالقين في كهوف الماضي، غير قادرين على مواكبة العالم الحديث.
ويشير هراري إلى أن أي مجتمع يتخلف عن اللحاق بركب الذكاء الاصطناعي سيواجه مصيرًا مشابهًا لمصير الحضارات القديمة التي لم تستطع مواكبة التغيرات الكبيرة في زمانها.
ومن خلال عرضه الشامل لتطور الشبكات المعلوماتية، يؤكد هراري أن هذه الشبكات لم تكن يومًا حيادية، بل كانت دائمًا محملة بقيم ومعايير تحدد من يحصل على المعرفة ومن يحرم منها. إنها أدوات للسلطة والتحكم، ومثلما ساعدت على توحيد المجتمعات، كانت أيضًا سببًا في تقسيمها.
واخيرا يبرز الكتاب أن كل شبكة جديدة كانت تستدعي نظامًا اجتماعيًا جديدًا، وتعيد تشكيل العلاقات بين الأفراد، مما جعلها قوة مؤثرة في تحديد من يمتلك السلطة. وفي هذا السياق، يستعرض الكتاب تأثير الإنترنت على الحراك الاجتماعي والسياسي، وكيف أن المعلومات المتدفقة قد أدت إلى ثورات غير مسبوقة، مثل ثورات الربيع العربي، لكنها في الوقت ذاته خلقت حالة من الفوضى المعلوماتية. وفي خضم هذا التدفق الهائل للمعلومات، أصبح من الصعب على الأفراد التمييز بين المعلومات الصحيحة والمزيفة، مما أدى إلى حالة من الشك وعدم اليقين. ومع دخول الذكاء الاصطناعي على الساحة، أصبح من الممكن التلاعب بهذه المعلومات بشكل أكثر دقة، مما يزيد من التحديات التي تواجه المجتمعات الحديثة.
- استاذ باحث في الاعلام والتواصل، خبير الذكاء الاصطناعي والرقمنة