ناس الغيوان وجيل جيلالة
بين.. بين
بين الكلمة والإيقاع
بقلم ذ: عبد المجيد شكير
مع بداية السبعينيات طفت على الساحة الموسيقية ببلادنا ظاهرة حاولت أن تمد جسورا وثيقة مع تراثنا الغنائي، وفي الوقت نفسه أن تواكب عصرها وتعبر عنه، فشكلت بذلك ثورة على الألوان الموسيقية السائدة آنذاك شكلا ومضمونا، إنها ظاهرة المجموعات الغنائية التي عرفت نجاحا منقطع النظير، وتجاوبت معها العامة والنخبة، ذلك أن النفوس كانت متعطشة لغناء جديد يقترب من واقعها، ويصور همومها، فوجدت في هذه الظاهرة مبتغاها، وشاعت أغانيها حتى رددها المواطن البسيط والمثقف على السواء، وأما حفلاتهم فذكرتنا بحفلات نجوم الغناء العالمي مثل مايكل جاكسون، وأول مجموعة برزت إلى الوجود هي (ناس الغيوان) وبعدها بحوالي ستة أشهر ظهرت (جيل جيلالة) واستطاعت كل واحدة منهما أن تخلق جمهورها وعشاقها، والأكيد أن الثانية استفادت من الأولى، ولكنها لم تكررها، ولم تستنسخ تجربتها حرفيا مما يدفعنا إلى التساؤل: ما هو المشترك بينهما وما هو المختلف؟ –
: المشترك بينهما
ولادة من رحم المسرح: إن أغلب أعضاء المجموعتين مارسوا في بداياتهم العمل الجمعوي، وزاولوا المسرح بداخله، فكل من بوجميع مثلا والعربي باطما وعمر السيد كلهم جمعهم عشق المسرح في فرقة (رواد الخشبة) بالحي المحمدي بالبيضاء، وعند جيل جيلالة نجد أن (مولاي الطاهر الأصبهاني وعبد العزيز الطاهري ومحمد الدرهم) كلهم مارسوا المسرح من قبل وخصوصا على مستوى الهواية في فرق مثل (شبيبة الحمراء) بمدينة مراكش، ولكن مسرح الطيب الصديقي جمع أبناء المدينتين معا في مسرحيات مثل (الحرازـ عبد الرحمان المجدوب ـ سيدي ياسين في الطريق…) وبفضل ذلك اقتربوا من التراث وعشقوه حتى أصبح لبعضهم هما
أعضاء بأكثر من موهبة: كان بوجميع والعربي باطما باحثين في التراث، ومؤلفين بارعين للزجل الغنائي وللمسرحيات (كتب بوجميع مسرحيات: المسمارـ فلسطين ـ الحاجة كنز… وكتب باطما مسرحية العقل والسبورة ـ مسلسل جنب البيرـ روايتي خناتة ورحلة إلى الشرق…) وبالنسبة لجيل جيلالة يعد الطاهري غواصا في التراث، وزجالا لا يشق له غبار، وكذلك كان محمد الدرهم مؤلفا بارعا للأغاني، وملحنا مقتدرا، وكان مكسبا كبيرا للمجموعتين أن تضم بين جناحيها أفرادا قادرين على تزويدها باستمرار بالنصوص الغنائية، ولكن هذه الخاصية أضرت بهما من جهة أخرى، ذلك أنها شجعت البعض فيما بعد على الانسحاب أو الاستقالة بعد أن دبت الخلافات بينهم (الطاهري والدرهم)
: بعيدا عن موضوع الحب التقليدي
شكلت المجموعتان قطيعة حاسمة مع المواضيع التقليدية المستهلكة وعلى رأسها موضوع الحب بين الرجل والمرأة، ونزلت تارة إلى الواقع لتستمد منه مادة لموضوعها، وحلقت تارة أخرى في دنيا الإنسان بما فيه من قضايا وقيم ومشاعر وتفاصيل صغيرة، فكان هذا التجديد في المضامين أحد عوامل نجاحهما، بدليل أن الناس كانوا ولازالوا يحفظون عن ظهر قلب كلمات أغانيهم، ويتغنون بها هنا وهناك : الصينية ـ ليغارة….
النجاح والتقدير
حققت المجموعتان نجاحا باهرا، وشاعت أغانيهما حتى عبرت حدودنا المحلية، فعانقت مسارح العالم العربي، والعديد من الدول في أوروبا وأمريكا وآسيا، وقد توجه هذا النجاح بالعديد من اللفتات التقديرية والمظاهر التكريمية (بالنسبة لناس الغيوان، تكريم وزير الثقافة الفرنسية فريدريك ميتران للمجموعة بأوسمة من صنف فرسان الغناء والآداب ـ تشبيههم بفرقة البيتلز تارة وبمجموعة رولينج ستون تارة أخرى ـ استعانة المخرج مارتن سكورسيزي بمقاطع من أغانيهم في فيلمه عن المسيح، وأما مجموعة جيل جيلالة فقد فازت بالجائزة الأولى في مهرجان طوكي وللأغنية الإفريقية، وكذلك في مهرجان المسيرة الخضراء سنة 1975…)
:التعرض لضربات قاسية
كانت أول ضربة قاسية تعرضت لها مجموعة (ناس الغيوان) هي رحيل بوجميع سنة 1974، غريد الغيوان وصداحها، ومؤلف أغانيها الجميلة (غير خدوني لله غير خدوني…)، مما جعل المجموعة ترثيه وتخلده بالأغنية الجميلة (والنادي أنا) وفي سنة 1993 استقال عبد الرحمان باكو، فاستقالت معه أوتار هجهوجه الجذابة، وبحة صوته النادرة، وافتقد رفاقه وعشاقه رقصاته وجذبته، ولم تكد المجموعة تستفيق من هذه الضربة الثانية حتى خطفت يد المنون سنة 1997 (هيبي) المجموعة العربي باطما، ورغم ذلك ظل صوته الطالع من حناياه، والمعجون بتراب البادية ووحلها، ظل يحوم على المجموعة، وظلت كتاباته الزجلية المستوحاة من جذورنا ساكنة في الآذان، وكان طبيعيا أن ينعاه رفاقه تحت عنوان (حوض النعناع)، وأما مجموعة جيل جيلالة فقد تلقت ضربتين قويتين وذلك حين انسحبت قامتان كبيرتان، تكتبان باقتدار شديد، وتصوغان للمجموعة أعذب الألحان، يتعلق الأمر بعبد العزيز الطاهري الغواص في بحر الملحون، ثم محمد الدرهم الصوت المحلق في الغناء. ولقد أثرت هذه الضربات على المجموعتين سلبا، وفقدت أغانيهما بسبب ذلك الكثير من رونقها وجاذبيتها، بل وهددت بانفراط عقد المجموعتين
:المختلف بينهما
: العنصر النسوي
كان أعضاء ناس الغيوان كلهم ذكورا، في حين تميزت (جيل جيلالة) بوجود عنصر نسوي بين صفوفها، إنها سكينة الصفدي والتي أسبغت على أغاني المجموعة طراوة ونعومة في آذان السامعين، نتذكر لها العديد من المقاطع التي أنشدتها بعذوبة في أغان مثل (العار أبويا ـ الكلام المرصع ـ الجبال واقفة ..)
:للتراث أكثر من زاوية
عادت الفرقتان معا إلى تراثنا الغنائي القديم، لكي تستلهمه وتقتبس منه مادة تلبسها حلة عصرية جديدة، فيها لمستها، وفيها إضافتها، وإذا كانت مجموعة ناس الغيوان قد ركزت اهتمامها على التراث الشعبي والصوفي والكناوي والصحراوي (فن العيطة ـ عبد الرحمان المجذوب ـ ابن الموقت المراكشي ـ بوعلام الجيلالي -حكايات الجدات…، فإن مجموعة جيل جيلالة صوبت نظرها نحو الملحون، لكي تقتطف منه مختارات متوجة في الذاكرة : الشمعة ـ ناكر الاحسان ـ اللطفية ….
:الكلمة والإيقاع
كانت نقطة القوة عند ناس الغيوان هي الكلمة، الكلمة عندهم تنتقد، تسخر، تصرخ، إنها تعري الواقع اجتماعيا (مهمومة …) وعربيا (صبرا و شاتيلا) وإنسانيا (يا بني الإنسان) ولعل الأقلام المتمرسة في الكتابة أمثال بوجميع في بدايات المجموعة، والعربي باطما في فترة أوجه، وقبل أن يقعده المرض، لعبت دورها في صياغة الكلمات النفاذة إلى وجدان المغاربة، في حين أن ما يشدك في أغاني جيل جيلالة هو إيقاعها الموسيقي الذي يطالعك منذ البداية ويستمر بدون توقف حتى النهاية، ولنا في القطع الآتية (آشبيك دارت الأقدارـ إلا ضاق الحال ـ الجواد ـ لعيون عينيا…) خير دليل
كانت العلاقة بين المجموعتين ولازالت قائمة على الاحترام والتقدير المتبادلين، وارتبط أعضاء الفرقتين بصداقة قوية خالية من كل الحزازات، ففي سنة 1973 انتقل عبد العزيز الطاهري من ناس الغيوان إلى جيل جيلالة، ليعوضه عبد الرحمان باكو، وكثيرا ما كانت تشترك المجموعتان معا في الغناء، وقد تنشد إحداهما أغنية من ربرتوار الأخرى حسب المجموعتين أن كل واحدة منهما هزتنا أغانيها، ومنحتنا المتعة والنشوة زمنا، فسقت آذاننا بجميل الكلام، وعذب الألحان، وساحر الأصوات، ولازال في عيوننا الحنين إلى حفلاتها بطابعها الفرجوي، حسبهما أيضا أنهما حفزتا مجموعات أخرى على الظهور مثل (المشاهب ـ تكادة…)