بروحي أنا نفديك: د. مهدي عامري
(الوطن هو المكان الذي يذكرك بمن تحب، وبالأشياء التي تجعلك تحب الحياة – علاء الأسواني)
، اسم الله عليك
حين وضعت أقدامك بالعالم يا محمد كان الراديو يصدح بأغنية الهادي الجويني
سمرا يا سمرا يا سمرا بروحي نفديك
سمرا يا سمرا أنت ليا و أنا ليك
في حلق الواد في بيت هادئ دهنت جدرانه بالأبيض والأزرق وعلى مسافة أمتار قليلة من شاطئ كازينو ولد وترعرع محمد الأمين في كنف أم حنون وأخ أكبر وعدد قليل من الجيران الطيبين المسالمين الذين تفيض وجوه أغلبهم بالود و البشر
وكان أمين و هو يكتب هذه القصة جالسا في شقته الصغيرة بالطابق الخامس بفانكوفر أقصى شرق كندا أي على مسافة أزيد من 9400 كيلومتر من مسقط رأسه
“حلق الواد أكثر من حي عادي ولدت و نشأت فيه. انه الحضن الأول و الأم الرؤوم و الوطن الحنون. انه مسرح الطفولة ومنبت آمالي وأحلامي الفتية التي تفتقت و تبرعمت مذ عانقت بقلبي و روحي نور الحياة”. حلق الواد طوفان من الذكريات السعيدة و حنين لا ينتهي الى الزمن الذي مضى
وكان حلق الواد و مدن و وجوه عزيزة أخرى من تونس تمثل لأمين أكثر من مجرد ذكرى، بل كانت في كل مرة يسرح به الخيال ملاذه الروحي و جنة أحلامه المنسية
وكان أمين شابا يعيش بعمق في كل تفاصيل الحياة
. يرتل القرآن في أوقات الفراغ مستحضرا الصوت الشجي والروح العذبة لعبد الباسط عبد الصمد
. ينغمس في أحاديث الناس الصاخبة وجمالية الكثير من الأماكن
. يلعب “الرامي” مع أصحابه الى مطلع الفجر
. يعشق قراءة الأدب العالمي و خاصة الفرنسي
. ويرتاد بجنون المثقف البوهيمي دور السينما و مسارح تونس لمشاهدة الجديد و الطريف و المفيد
ولكن أمين في الوقت نفسه كان ممزقا يحس بالوحدة القاتلة و الحزن المستمر بسبب أو دون سبب. و لعل ما فاقم هذه المشاعر السلبية أنه شب عن الطوق وهو يتيم الأب مما ضاعف إحساسه بالضياع و عدم الانتماء
وكان أمين يعيش بين الناس و يخالط كل طبقات المجتمع و يأكل و يمشي في الأسواق ولكنه كان دائم الإحساس بالوحدة
و كانت بداية معرفتي بأمين في مراكش، في ساحة جامع الفنا بين لفيف من القردة و الثعابين. و منذ الكلمات الأولى التي تبادلناها و أنا ألتقط له نصف دزينة من الصور مع هذه الحيوانات اللطيفة، اشتعلت الكيمياء في القلبين و صرنا أصدقاء و تبادلنا الكثير من الرسائل و الزيارات بين المغرب و تونس على مدار أزيد من عشرين سنة
ولا زلت أذكر أنه في أول لقاء لنا بمدينة البهجة ذات يوم ربيعي ممطر، طرقنا تقريبا جميع المواضيع في الحياة والسياسة والدين و الاقتصاد و السياحة و الترفيه و هلم جرا
و كان أمين شابًا في مقتبل العمر، شديد الحيوية و النشاط ممتلئًا بالروحانية و النور و كان يتحدث في كل مرة بشغف منقطع النظير عن آخر قراءاته في الفكر و صولاته و جولاته بين الأفلام و المسرحيات وكأنها قطعة حية نابضة من قلبه
وكان لقاؤنا الثاني المباشر بعد عامين في حلق الواد، ذلك الحي الجميل في تونس العاصمة والذي يعج محيطه بالحياة و الفرح
و كنت أرى دواما في عينيه السوداوين الغائرتين حبًا لا ينتهي للإنسان أينما كان
” في بطاقة تعريفي مثبت أني تونسي لكن هذه حكاية فارغة. الوطنية الحقة هي الانتماء الى الإنسانية. ارفع رأسك أنت تونسي، أنا سعودي، أنت قطري، افتخر أنت لبناني، مصر أم الدنيا… هذا كله كلام تافه، خزعبلات و شعارات لا وزن لها. أنا انسان يا حبيبي و وطني الحرية والانسان أينما كان
Peace and love.
أما عن التزامه بالشعائر فكان أمين يصوم رمضان وأيام التشريق وأحيانا الأيام الستة لشوال ناهيك عن بعض أيام الاثنين اقتداء بالحبيب المصطفى. وكان يكثر من الصدقات في المناسبات وغيرها، والى جانب هذا كان يتردد على المساجد بين الفينة والأخرى حسب أحوال الطقس والحالة المزاجية. وحول هذا الموضوع كان دائمًا ما يعلق بلغة فرنسية راقية وأنيقة قائلا
Ecoute mon ami, la foi réside à l’intérieur du cœur. Je suis pratiquant fervent, j’aime ma religion jusqu’à la mort même si je ne fais pas régulièrement ma prière. Qu’Allah me Pardonne !
وكانت هذه الكلمات و غيرها تعكس تركيبة شخصيته العجيبة؛ حب جارف للدين و عاطفة صادقة مع تهاون في بعض العبادات ، و ذلك على غرار أغلب شباب شمال افريقيا المتواضعين الطيبين المحبين لله عز و جل و لرسوله الصادق الأمين
وكان جل أصحاب أمين قد هاجروا إلى كندا للعمل أو استكمال الدراسات العليا، وظل هو في حلق الواد وحيدًا و كان يعلق على “مكتوب ربي” قائلا
” في بلاد قائمة على الوجهيات ما عدت أستطيع العيش، ان تونس كما تقولون في المغرب بلاد “باك صاحبي”. اني اشعر بالظلم في وطني فبلادنا مليئة بالخونة والمفسدين. الناس تعاني، العباد باش تموت بالشر (الجوع) وأنا أموت غما و كمدا و أرفض على المدى البعيد أن أكون بيدقا في هذه الرقعة و دمية في هذه المسرحية البئيسة”. ان هذا يصيبني بالغثيان. لا عيشة ولا حرية. عايشين في الزنزانة ومخنوقين بالفساد والمحسوبية التي تسود البلاد. عيشة الكلاب حاشاك.”
ورغم كل هذا، رغم هذا الواقع المر كان لدى أمين إصرار غريب على البقاء
و لا زلت أذكر أني قلت له ذات مرة ساخرا (و كان من عادتي أن أمازحه مزاحا لاذعا يتقبله دائما أمين و هو يضحك ملء شدقيه )
. لماذا تصر على البقاء هنا في بلاد عليسة و حنبعل ؟
:وهنا حدجني بنظرة طويلة و حزينة وقال لي
” أمي… ها هي ذي أمامك، من يرعاها إذا هاجرت؟ أنت تعلم أني يتيم الأب منذ كان عمري 4 سنوات، وتعلقي بأمي، خالتك حورية، تعلق مفرط، جنوني، جنيني، لا حدود له.. ممكن غدوة نمشي لكندا و لكن يستحيل نخلي أمي وحدها”وكانت علاقة أمين بأمه – خالتي حورية – علاقة فريدة، فهي كيمياء فريدة من الحب الجارف والتبجيل والتضحية
وكانت أمي حورية، رغم كبر سنها، ما زالت تحتفظ بملامح الجمال والقوة. و كانت تروي لي في كل لقاء قصصًا طريفة عن طفولة أمين، و عن شغبه وحبه للاستكشاف، وعن الأيام الصعبة التي مرت بها بعد وفاة زوجها مصطفى الذي كان يزاول تجارة الزرابي بين المغرب و تونس
و مرت السنوات بسرعة ووجدتني أهاجر الى فرنسا لإعداد أطروحة الدكتوراه في الاعلام، و مرت أعوام أخرى كأنها لحظات. سبعة أعوام أخرى ، وتزوج كريم، الأخ الأكبر لأمين، وانتقل للسكن مع أمه. و كانت فرحة كبيرة للعائلة، ولكنها كانت بداية جديدة لأمين. فبعد زواج كريم، شعر أمين بأن مسؤوليته تجاه أمه أصبحت أقل، وأنه يمكنه الآن التفكير في نفسه وفي مستقبله. وهاجر أمين بعد فترة قصيرة الى فانكوفر للعمل في احدى الشركات، ولكن قلبه ظل هناك.. ظل يغلي بحب أمه و بحب تونس
وكان يحن دومًا إلى حلق الواد، وإلى وجوه الناس الطيبين، وأصدقائه المضيافين من كل مدن تونس؛ مجاز الباب و بنزرت و القيروان، وسوسة، والقصرين، وجربة، وسيدي بوزيد
وكان أمين يروي لي بحنين عن ذكرياته هناك، و عن المقاهي الدافئة التي كان يشرب فيها الشيشة مع الأصدقاء، إضافة الى رجالات السينما التونسية الذين قابلهم هناك. هشام رستم و هشام بن عمار و فريد بوغدير و اللائحة طويلة طبعا لا يمكن حصرها
ثم دار الزمان دورته الفلكية الساخرة وجاءت الطامة الكبرى، جائحة كورونا لتقلب كل شيء رأسا على عقب
وتفشى وباء الشيطان في العالم، وأصبح السفر ممنوعًا والخروج و الدخول بالإذن و الواسطة
و بينما كان أمين يتمنى العودة إلى تونس لزيارة أمه المحتضرة، كانت الحدود مغلقة والسفر محظورًا. وكانت تلك الفترة أصعب محنة في حياته على الاطلاق. وكان يتحدث معي يوميًا على الواتساب و يحكي لي عن آلامه ومعاناته، وعن الحزن الذي يسحق قلبه إضافة الى شعوره المزمن بالغربة
و كان يقول لي دائمًا: “الغربة أعيشها هنا كل يوم و عشتها أيضا هناك. والغربة علمتني أني ولو عشت في الجنة، فالوطن هو الذي يظل في قلبي “
و كانت والدته أمي حورية كما كنت أناديها دائما، على فراش الموت، وهو بعيد عنها.. كانت تعاني من المرض، وكانت تتضرع الى الله أن ترى ابنها أمين قبل أن ترحل
ولكن لعبة الأقدار كانت أقوى من الحياة ومن الموت
و التحقت بالرفيق الأعلى للا حورية أمنا جميعا و كانت تلك اللحظات تحمل في طياتها مزيجًا من الألم واليأس، والحزن الذي لا ينتهي
غادرتنا أمي حورية، وأمين بعيد عنها هناك في فانكوفر في الطرف الأقصى للكرة الأرضية
و لم يتمكن أمين من رؤيتها في آخر لحظاتها، ولم يستطع وداعها و ضمها الى صدره و استنشاق عبقها بحكم الاغلاق الشامل في ظل الحجر العالمي
وكانت لحظة الفراق تحمل في طياتها كل معاني الحزن والأسى
وكانت تلك هي النهاية الحزينة لقصة الحب والتضحية، نهاية قصة إنسان يعيش بين الحنين والواقع، وبين مطرقة الرجاء وسندان اليأس
د. مهدي عامري