من صمت اللسان الى صمت القلوب
خلف كل صمت ألف حكاية وحكاية
اذا كان سقراط يقول مامعناه، أن دواء الغضب هو الصمت ، فهناك من يقول عن الصمت أنه هو لغة العظماء وقد يكون كذلك حماية وسترا لكل الجهلاء . ويبقى خلف كل صمت ألف حكاية وحكاية ، فإذا كانت الإبتسامة أفضل ردة فعل في جميع المواقف ، فإن الصمت هو أفضل رد على كل الأسئلة المتعددة المشارب والتوجهات ، كما قد تكون الإبتسامة بركانا خامدا . وتأسيسا على ماتقدم نقول بأن الصمت هو حكمة أساسية فإذا كان الابتعاد معالجا لأمور لم يستطع الاقتراب علاجها ، فإن الصمت يولد ويصنع مالا يستطيع الكلام أن يحققه . وقديما قيل اذا كان السكوت سلامة والصمت زينة ، فان الكلام من فضة ، والسكوت من ذهب . وعليه فالصمت هو بكاء الروح عندما لا يفهمها أحد ، وهو فن لايتقنه الكثير من البشر ، فمن كان مبدعا بصمته فهو في حقيقة أمره مبدع بكلامه ، والجاهل هو من يعتقد أن الصمت ولادة طبيعية لعدم المعرفة بخفايا الأمور، أو هو الهروب والتهرب من كل مواجهة . لأن الحقيقة هي غير ذلك على الاطلاق ، لأن الصمت هو أساس الحكمة والمعرفة وجوهرهما. وتبقى مابين صمت اللسان وصمت القلوب مسافة كبيرة، ففيها ومن خلالها نجعل سكوتنا يتكلم كلاما لا يسمعه الا العقلاء ، وكلامنا يصمت صمتا لا يحس به الا الراسخون في دنيا القيم الكونية الصادقة. فعندما نختار صمت اللسان فإننا حينها نرفض النزول إلى المستوى المتدني الذي يتحلى به بعض الخلق، لأنهن ولأنهم لا يعرفون أن ثمة فرق شاشع بين مجالات الكلام واختيارات الصمت، فعندها يكون الصمت اختيارا موفقا مستندا الى التحلي بالصدق والشجاعة والمقدرة، فإنه يبقى بعيدا عن اي انهزامية اوضعف واستكانة كما يعتقد بذلك الكثير من الناس . وقد نعمد إلى اختيار الصمت لأننا نعلم أن حديثنا لن يغير اي شيء، ولن يفيد فيما نحن فيه خائضون . اوعندما يكون ثوب الكلام ضيقا، فنختار ارتداء الصمت لأنه المحاولة الأخيرة لاخبار الاخرين – اللذين هم جهنم على حد التعبير الفلسفي الوجودي- لجان بول سارتر – بكل شيء لم يفهموه حين كنا نتكلم وعموما يبقى صمت القلوب أنيقا في الكثير من الأحيان ، خاصة عندما يكون الموقف او الوضع لايسمح لنا بالبوح حتى ولو كان الألم عميقا، فهو الصمت عن أخطاء من نحبهم حبا خاصا ، ووجعا كبيرا لنا. وقد يكون ذاك الصمت أروع حديث بين الأحبة، لان أفضل ما يمكن أن نتحلى به في تلك اللحظات هو الهدوء و الاستكانة والاستماع إلى حديث العقل والفؤاد . فمن أتقن هذا الاستماع وذاك الانصات يمكن أن يتقن كل شيء ويعالج كل الهزات التي تعترضه في دنياه العلائقية وحتى المسلكية مع الآخرين . وقد تعجز النفس عن محادثة الأحباب ، فنحٍٍن اليهم واليهن ويزداد اشتياقنا في صمت مطلق، وعليه ومنه لن يكون الصمت نسيانا ورغم أنه متعب بل وقاتل في الكثير من الأحيان، فهو يبقى أرقى وسيلة للرد الهاديء والمتزن والمعقلن على كل كلام أننا قد نعشق الصمت في لحظة الألم، لأنه كفيل بصون وحفظ كرامتنا، شريطة أن لا يفهم عى أن كل صمت هو الاستكانة والرضى والتقبل، فبعضه وجع يتعدى حدود الألم ويصبح من الصعب معه النطق او الرد والتعبير عن الأحاسيس . فحين يصمت اللسان فان ذلك لايعني أننا لانريد الخوض في الكلام ولانبتغي التحدث، بل نكون عندئد قد اخترنا الاختفاء وراء الصمت، لنقول للآخرين: توقفوا فأنتم لا علم لكم ولكن بأحوالنا . وقد نترك الحديث ونهجره في حالة الغضب أو عندما لانجد للكلام اي مبرر، فليس من الضروري أن نشرح او نفسر لما اخترنا ركوب الصمت ، ولما نحن شديدي الاقتناع بأن الصمت في كل المواقف الصعبة لا يولد الا الإحترام والتقدير ويبعد الصراع والجدل الذي يؤدي إلى التنافر والحقد والضغينة فصمت القلوب حينما نتعدى مرحلة الكلام مع الاخر ونختار التكلم مع ذواتنا ودواخلنا ، ونُسْكِت واحدا لنأخد رأي الاخر، هو بعيد كل البعد عن المحاباة او الرياء الإجتماعي وعليه يكون صمتنا ضجيجا يطحن العظام ، ويشكل اكبر صفعة نوجهها للآخرين ، وعندما نتألم فاننا نطرق أبواب النسيان، وصمت اللسان ونحس أننا غير قادرين على تحمل أنفسنا، وعندئد تبدأ رحلتنا الداخلية نحو الأنا ، وصمت القلوب التي تجعلنا مؤهلين للفهم بشكل واضح أن لاشيء في الخارج قادر على أن يمنحنا السكينة والطمأنينة الدائمة . الأمر الذي يدفعنا للاعتراف بأن اللسان يجيد الصمت ويتحكم فيه ، ويكون قادرا على إلغاء أو إرجاء قدرة التكلم والكلام ، رغم اأن خاصية الأساسية تتحدد في تحويل الكلمات إلى أصوات عالية قد تزعجنا نحن كذلك، وتأسيسا عليه نقول بأن الصمت في جوهره هو صوت بحاجة إلى أرواح قادرة على تفهمه واستيعابه وتقدير لغته التي هي أبلغ بكثير من كل الكلمات، وأحيانا أجدني محبة وعاشقة لصمتي، فهو يمنحي فرص تأمل الناس دون اأدنى جهد وكأني لست معنية بالأمر ، وعادة ماتبقى هناك مسافة بين الصمت المقصود والصمت المفروض ونحن من نجعلها تليق بنا ، فلن نجعل الصمت طريقنا ولن نسمح لأحد أن يسرق منا ثقتنا بأنفسنا، فنصمت أحيانا حين نسمع كلمات جارحة من مقربين منا ونتجاهلها ولا نستعجل الرد عليها ، ليس عجزا او خوفا وإنما لأننا مشبعين بتربية خاصة تنهل من أحواض المحبة الخالصة والقيم الكونية المشهود بها لأسرنا ، ودربتنا على كل ذلك ونحن في حضرة الأباء والأمهات والأزواج والزوجات والأخوة والأخوات والأبناء والبنات ، وهو ما أكسبنا طيبة القلب وسمو النفس وجعلنا نبتعد عن الانهزامية والضعف فالجوهرة لاتخجل من شدة بريقها، لأنه أفضل ميزة فيها . ومن هنا يأتي العتاب الصامت ليعمق الوجع واللوعة وتجاهل الآخر، بغض النظر عن موقعه وخانة تواجده في مواقع تواجدنا وحياتنا ويسعدني أن أختم بالقول
الثقة هي أن نصمت عندما نبتلى بمحدودي الإدراك أو عندما يستهزئ بنا الآخر، لأنا نعرف حقيقة من نحن وعندئد نلجأ الى الصمت لأنه يمنحنا فرصة التنزه في كل العقول ، ويتوج أعمارنا بالنضج الكامل ويؤهلنا كي لا نعطي الأمور أكثر من حجمها ، مصداقا للقول المغربي العامي : الهضرة مع الجاهل تفكَع . وبه يكون الصمت متعة في زمن الثرثرة . فهناك من يختار الصمت تفاديا لجرح غيره ، وآخر لأنه يتألم وكلامه سيزيده ألما، وهناك من يعلم أن الكلام لن يفيد في شيء
وخلاصة القول فكل صمت والصامتات والصامتون في حماية صمتهم العقلاني . ورغم أن أول الصمت قد يكون مجرد محطة للتسلية، فإني قد أحببته وأدمنته ، لدرجة أني لا أعلم هل ماتت كلماتي وفقدت أهميتها وبريقها ، أم أنا التي مت وانتهيت
ثريا الطاهري الورطاسي