إبداعات قصصية: د. مهدي عامري
افعل ما تحب.. قصة للإلهام و الأمل
في أحد أحياء انتناناريفو بجزيرة مدغشقر ، كان هناك منزل قديم بنيت جدرانه من الطوب الأحمر و طليت بالجير، و هناك كانت تعيش عائلة باكستانية-هندية هاجر أسلافها من كشمير الى عاصمة مدغشقر في بداية القرن التاسع عشر.. تلك كانت عائلة يوسف ابدولالي
كانت حياة عائلة يوسف مليئة بالأنشطة التجارية، حيث كان جده تاجراً معروفاً، وأخواله وأعمامه كذلك. لكن في وسط هذا الزحام و في قلب عالم المال و الاعمال، كان هناك استثناء واحد: والد يوسف ، الذي كان موسيقياً
وكان والد يوسف يمتلك قلباً ينبض بالإيقاعات، و روحاً تعشق حد الجنون بديع الألحان، ولم يكن يجني الكثير من المال من حرفته كموسيقي، كان يربح القليل، و ربما اقل منه ! و لكن صوته وألحانه كانت تملأ البيت بالبهجة و الصفاء
و كان يوسف يطيل النظر دائماً إلى والده وهو يعزف على العود، ليشنف آذان الاسرة السعيدة و يسمعها ألحاناً قديمة تمثل تاريخ باكستان وأغانيها الشعبية ، و كانت أنغام العود الرقيقة و الحنونة تنساب عبر النوافذ المفتوحة على مصراعيها، لتصل في النهاية إلى أذني يوسف وتملأ قلبه بالراحة
و في أحد الأيام، و بينما كان عزف العود يزلزل البيت، سأل يوسف والده:” لماذا اخترت أن تكون موسيقياً يا أبي ؟ “
ابتسم والده و نظر إليه بعينيه العسليتين العميقتين قائلاً : “يا بني، لقد رأيت العالم من منظور التاجر، لكن لم أشعر أبداً بالسعادة الحقيقية إلا عندما كنت أعزف. الموسيقى هي غذاء الروح، ولا شيء يمكن أن يضاهي الشعور بالحرية الذي تمنحه
:ومرت الايام، و حزم يوسف حقائبه وسافر إلى فرنسا لدراسة الطب في جامعة بوردو. و في المطار، رافقه والده ليودعه، وقال له
” حبيبي يوسف.. ثقتي فيك كبيرة. لكن لن أقول لك كن رجلاً في الغربة، لأن هذا كلام كلاسيكي لا قيمة له. يوسف، افعل ما تشاء وتحمل مسؤوليتك. لقد اخترت دراسة الطب، لكن إذا مللت منه و وجدته عقيماً بالنسبة إليك، غير الاتجاه بسرعة وفي الوقت المناسب، وادرس شيئاً آخر تحبه بل ربما تعشقه حد الجنون”
و بينما كان يوسف يغمر نفسه و روحه في دراسة الطب، كان يستحضر نصيحة والده الثمينة، و بدأ يشعر بالتوتر و الضغوط النفسية. لقد كانت الحياة الأكاديمية في الطب قاسية، وأحياناً كان يتساءل عما إذا كان قد اتخذ القرار الصحيح
وفي إحدى الليالي الهادئة، جلس في شرفة شقته الصغيرة بضواحي بوردو، و فكر مرة ثانية و ثالثة في نصيحة والده.. و من شرفة البيت رفع بصره إلى السماء ، وحدق في السماء المرصعة بالنجوم و لسان حاله يهتف بأعلى صوت : # إني سقيم.. لكني أحلم اأن أسافر بعقلي وروحي و خيالي، بعيدا جدا، وراء النجوم.. #
.وآنذاك التمعت في لاوعيه إشراقة سرمدية، و أدرك أن شغفه الحقيقي ليس هو الطب، و لكنه بالأحرى عالم التكنولوجيا و الذكاء الاصطناعي
و في تلك اللحظة الخاطفة المبرقة في وجدانه، قرر يوسف أن يقتفي شغفه. و بعد التحدث مع مرشديه الأكاديميين وأصدقائه، غير مسار دراسته إلى هندسة البيانات والذكاء الاصطناعي، و بدأ رحلة جديدة مليئة بالتحديات و الإثارة
،تدريجياً، اكتشف يوسف ان عالم التكنولوجيا يعج بالإمكانيات والابتكار. ووجد نفسه غارقاً في التعلم والاكتشاف، وكل يوم كان يتلقى من الروبوتات و الخوارزميات كلمات وافكارا جديدة
،وبعد سنوات من الدراسة والعمل الشاق، حصل يوسف على شهادة الماجستير، وبدأ يعمل في السليكون فالي، بامريكا، في إحدى الشركات الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي
وكان العمل مضنيا متعباً، لكنه كان يجد فيه متعة لا تضاهى. كان يشعر أنه يعيش بجنون في الحاضر و انه يسهم في خلق المستقبل، وأنه جزء من ثورة تكنولوجية كاسحة و عظيمة، بل بلا حدود
:وذات يوم، جلس مع صديقه عمر ، وتحدثا عن الحياة والنجاحات. و هنا اعترف يوسف
“أنا سعيد جداً، حد الثمالة بعملي، لأنه الحاضر والمستقبل، و لقد وجدت مكاني الحقيقي في هذا العالم”
و بعد سنوات من العمل في امريكا ، عاد يوسف إلى مدغشقر لزيارة عائلته. و دعونا نلاحظ انه لم يتغير الكثير في انتناناريفو، فما زالت تجارة الأسرة قائمة، و موسيقى والده ما زالت تملأ المنزل. و شعر بسعادة غامرة حين جلس مع والده وعزفا معاً لأول مرة، على العود، منذ سنوات
:و في لحظة لا تنسى نظر يوسف إلى والده و قال
لقد كنت على حق يا أبي. إن الاستثمار في العقل والشغف ، هو أفضل قرار يمكن أن يتخذه الإنسان. انا ممتن للخالق العظيم.. انا انسان ناجح.. الف حمد و شكر لك يا الهي !!! اليوم أنا مهندس بيانات و ذكاء اصطناعي، و أشعر بالامتنان لربي و بالسعادة و الرضا
:و ابتسم والده و قال
” أنا فخور بك يا بني. لقد وجدت طريقك الخاص، وهذا هو الأهم. الحياة لا تساوي جمع المال فقط.. المال مهم.. لكنه ليس كل شيء.. ان “حلاوة” الحياة جملة واحدة : البحث عن السعادة و امتلاك الحرية في تجريب ما تحب
و مرت اعوام و اعوام، و تحولت حياة يوسف إلى قصة نجاح تلهم الكثيرين. و تعلم منها يوسف و اصحابه المقربون، عمر و غيرهم، أن السعادة ليست في كسب المال، رغم ان هذا الاخير مهم، و لكن السعادة تتجلى في اقتفاء اثر الشغف الشخصي و تحقيق الذات
والآن، و انت تنهي مطالعة هذه السطور تاكد ان قصة يوسف نموذج يحتذى به في عائلتك، بل و في المجتمع كله
:وتأكد ايضا ان كلمات والده ستزال تتردد في اذهاننا جميعا و تنير حياتنا و رحلتنا للالف ميل.. رحلتنا الطويلة نحو الاشعاع و النجاح
” حبيبي يوسف.. افعل ما تحب، وتحمل مسؤوليتك كاملة، هنا ستجد سعادتك الكاملة و الحقيقية.. و لو بعد حين “
* كاتب، استاذ باحث، خبير الرقمنة و الذكاء الاصطناعي*
المعهد العالي للاعلام و الاتصال،الرباط، المغرب