!الشاعر يلعب لعبة الهندسة الدلالية في قصيدته بارتاح
: الناقد المغربي الأستاذ : نور الدين حنيف أبو شامة يكتب في اجتراح البياضِ في قصيدة النثر (طفولةُ عهدٍ) نموذجاً —————————————————— * تمهيد* قد يبدو لناظرٍ عابرٍ أن القصيدةَ (طفولةُ عهد) للشاعر العميق عبد الرحمن بوطيب في فضائها البصريِّ شتاتٌ و خبطُ عشواءٍ و تركيمٌ غير مسؤولٍ للكلمات و الجمل على عواهنِ الرسم و الكتابة و مورفولوجيا البياض هذا المدخلُ المتسرّعُ يظلمُ الشاعر المائز عبد الرحمن بوطيب و يتعسّف على ذوقه للشعر و علمه بالشعر
* هندسةُ البياض* و الأمر جليُّ البيان، و لا يحتاج إلى برهان أن الشاعر يلعب لعبة الهندسة الدلالية، و يمضي في رسم المفردات ثم العبارات وفق تصورٍ فنيٍّ أنّ الشعرَ ليس مجرد لغة في تركيبها و في انزياحها البلاغي و الرمزي و الدلالي و غير ذلك… فهو عالَمٌ مشرعٌ على كثيرٍ من المكونات، و منها مكون الفضاء :فاللغة الشعرية تتمسرح على صفيح كثيرٍ من أشكال الركح، و منها التواصل الإنشادي الذي يستدعي متفاعلاً مستمعاً، و منها الكتابي الورقي الذي يستدعي قارئاً رائياً في بعديْنِ
رؤيةٌ و رؤيا… من هنا فاللغة الشعرية تبدأ أولاً بالرسم الذي يعتبره العابر شتاتاً أسودَ على بياضٍ برئ، فيما الأمر متعلّقٌ بتصور شعري يُمْضيهِ الشاعر عبد الرحمن بوطيب داخل رؤياهُ الخاصة للشعر، و بالتالي داخل نظره الأخصّ للشعر إنّ ترْكَ الشاعر للفراغات داخل النصّ ليس مجردَ بياضٍ يَعْبُرُهُ سواد، بقدر ما هو عبثٌ تسطيري يخدش حياء الورقة في بياضها و في عذريتها بسواد الحبرِ الشبقيّ… الأمرُ أكبر من خطٍّ على قرطاس، و أكبرُ من تتابعٍ تقليديٍّ لاستواءِ الأسطرِ الشعريةِ تتابعاً نمطيّاً يأسرُ رؤية المتلقي داخل نسقية الوجه و القفا؛ أي أن السطر ينظر إلى قفا تابعهِ في تراتبية تبني توقّعات القارئ و تُسيّجُ بصرهُ و تحدّ من امتداده خارج رؤية الشاعر الناصب كَمائِنَ جماليات شعره القارئ لمنظومة عبد الرحمن بوطيب قارئ حرّ في تأويل البياض، لأن الشاعرَ لم يضعهُ في ممراتٍ ضيّقة و محاصرة، و لم يُملِ عليهِ النظر إلى القصيد من منظار الوجه و القفا، بقدر ما فتح أمام بصره و بصيرته آفاقاً شاسعةً لممارسة قراءة البياض و السواد وفق تصوّر جديد يبنيه المتلقي من منظوره الخاص، و الّذي سيغني منظور الشاعرِ واضعِ هذه الآفاق
* تشكيل الأسطر الشعرية أولاً * و كأنّي بالشاعر يرسل رسالته إلى مجترِحي الجمال في قصيدة النثر أن يلتفتوا أساساً إلى هذا المعطى الرسمي الذي يغفله الكثير من رواد هذا الجنس الأدبي، و نحن لا ندّعي في ذلك سبقاً مارسهُ صاحبنا عبد الرحمن بوطيب بقدر ما نقول إنه يستثمر المشترك الثقافي المعاصر في شخص الشاعر (أبولينير) و أمثاله ممّن أغرقوا في تشكيل الأسطر الشعرية إلى درجة تقديم القصيدة على شكل إنسان أو حيوان أو نافورة أو ما جرى مجرى ذلك في تصوّر سرياليٍّ يعبث بالتشكيل البصري لغاية في نفس الشاعر الغربيّ المعاصر، و نحن مع شاعرنا (ع ب) نجد التوسط الباني و الهادف في رسم الأسطر الشعرية داخل تصوّر يرفض المغالاة، و يرفض أن يبتعد بذائقة المتلقي عن المتن الشعري بما هو متن في ماهيته الحقيقية، لهذا نجدهُ يقتصد في التمرد على الشكل النمطي إلى شكل يرتّب الأسطر الشعرية، لا في خطيّتها المألوف، بل في خطيّة متناسلة تتدفّق داخل بُعديْن هما: السواد المرتبط بالدلالة اللغوية، و البياض المرتبط بالدلالة الفضائية؛ و لئن كانت الأولى سائغةَ القبضِ من خلال استعمال القارئ لترسانةِ القواعد اللغوية و البلاغية و الإيقاعية لضبط تلبّسات المعنى، فإن الثانية أشدّ وطأةً على المتلقي لأنها تضعه أمام الفراغات الماكرة في هندستها الزئبقية و التي تهزأُ بذهنيته المنمّطة، إنها تثويرٌ للبصر في معانقة القصيدة و استبدالٌ لأفق الرؤية و الرؤيا و إغناء لهما عبر هذا التشكيل الماكر :و لننظر مثالاً لا حصراً إلى رسمه التالي بالأمس كنا كان بيننا عهد نزرع الشِّعر ليلاً
و ملاحَظٌ جدّاً، و في غير منازَعٍ، تَدَرُّجُ السوادِ في تأثيت فضاء القصيدة بشكل يتجاوز فيه الشاعر لعبة التدرج الخطي إلى سيمياء التدرج الدلالي، و التدرّج قائم في هذه الأسطر من حالةِ الكينونة الناقصة (كنّا – كانَ) إلى ما يشبه الاكتمال في هذه الكينونة عبر الفعل و الممارسة (نزرعُ) ، ناهيكَ عمّا تختزنُه العبارةُ (نزرع الشعر ليلاً) من دلالات أخرى تُخْرِجُ السياقَ من فكرةِ العبور إلى مقولة الحضور عبر ممارسة فعل الزرع الذي يمكن أن يكونَ شيئاً آخرَ غير الزرع المرتبط بالحقل الطبيعي إلى الدلالة على الحقل الإنساني في تموّجاتِهِ الهيولانية الذاهبة مذاهبَ شتّى في التأويل إنّ ما يُعزّزُ تخريجنا هو عودة التدرج الدلالي من نقطة انتهاء الجناح الأول (نزرع) لاستئناف المقول ب (يزهر) من نفس الحقل الدلالي، و يستتبع ذلك نزولاً من الإزهار إلى الوعد إلى دوران الأيام، و هي النهاية المتجانسة تجانساً مبهراً مع البداية (بالأمس) في مجمّعٍ دلاليٍّ هو الزمان يزهر فجراً هو وعد ودارت الأيام يتشكل بصرنا الآن وفق مكر الشاعر داخل صورة لطائرٍ بجناحيْنِ متناغيميْن في التشكل الدلالي، و هنا يحقّ لقارئ آخر أن يحترز على تأويلنا ببديل آخر هو السهم، و ثالثٌ ببديل ثالث هو التشوير، و رابع ببديل رابع هو السرب، و خامس و سادس و
* مكرُ التبئير الدلالي* و يتعلق الأمر بمقاربة الشاعر لبياض القصيدة داخل عملية التبئير الدلالي، يضمّنُهُ ما يشبه القناعة، و يستدرج الشاعر فيها ذاته للاعتراف بعمق الاختلاج في تصوّر يصف بقسوة تكاد تتاخم النزوع المازوشي عمق هذا الاختلاخ و صخبه :قال الشاعر بعد الخروج من جناحيِ الطّائر الدلاليّ { أرضنا يباب لا زرع يتغنى بها لا ورد لا حبيب يغازل ليلاه } و حرص الشاعر (ع ب) على أن تسرق هذه العبارة الشعرية وسط الصفحة و تحتكره لذاتها دون سطرٍ آخر ينازعها البياض، في إشارة إلى نقيض الإعلان المضَمَّنِ داخل جناحيِ الطائر الدلاليّ المرتبط بالماضي و العهد و الزرع و الزهر… هو إذن فيصلٌ يعيد ترتيب التهويمات النفسية المشرئبّة للزمن في ماضويته العامرة و بين الحضور اليباب حيثُ لا زرع و لا ورد و لا ليلى هذا الفراغ المعنوي في جوانية الشاعر، تناسبه هذا الرسمة الصورية المحتكرة لعمق الصفحة و كأنها اللافتة المُعلِنةُ عن حقيقة الذات في نكوصها الوجودي
* الختم* إن تتبعنا لأشكال الرسم لقصيدة النثر عند الشاعر عبد الرحمن بوطيب متعددة المباغتات في تحويل توقعات المتلقي و تثوير فكرته عن نمطية الأسطر الشعرية في منظورها الحداثي الذي لا يني يُسائل هذه الحداثة باستمرار، و المتتبع للقصيدة (طفولة عهد) سيكتشف كم هو دلاليٌّ التشكيلُ قبلَ التعبير، و إن كانا صِنوين في رسم معالم الإدهاش الفنيّ هنا و هناك في عوالم الشاعر العميق (ع ب) و سيلاحظ القارئ لهذه المقالة أننا لم نُعرِ اهتماماً لتيمات القصيدة، و لا لدلالاتها و لعمق تناصّها، و لا لأبعادها، بقدر ما كان همّنا الإشارة المتواضعة إلى فنِّ اجتراح بياضات القصيدة من منظور رؤية و رؤيا فنية يختلط فيها الوجودي الشعري، و هذا لعمري مبحث قويٌّ و جرئٌ يستدعي منّا أكثر من التفاتة، و حسبي من هذا هذا و في انتظار الأجمل نرجو من شاعرنا عبد الرحمن بوطيب أن يمضيَ قُدماً في هذا الاجتراح الحليل
*نور الدين حنيف أبو شامة * —————————————————— * المتن الشعري* – طفولة عهد – قصيدة نثرية عبد الرحمن بوطيب / المغرب
بالأمس كنا كان بيننا عهد نزرع الشِّعر ليلاً يزهر فجراً هو وعد ودارت الأيام رحلت من قريتنا أحلام أرضنا يباب لا زرع يتغنى بها لا ورد لا حبيب يغازل ليلاه قف تمهل أيها الساري في غيب أيام انتهى الكلام هذي البحور لا موج لا بخور لا سطور لا خصلة شِعر لشَعر لا أدونيس يرعى حقول سعد لا مطر مطر مطر مطر ما قطر التوت أعناق رجال ارتمت جفون على ذقون وهل ترضى أمنا الأرض بسليل عاقر يخون عجباً سؤال من صلب سؤال من عقب سيجارة تحترق على سؤال ولا رد هو السؤال الضياع قفرت كل البقاع زلت الهمة صاعاً بعد صاع صداع صداع صداع ترهل الزمان الأشيب قبل ميلاد نامت الجفون على كَرْهٍ قبل أعياد وهذا الأطلس يحن لزيتون وزعتر قفا نبك من ذكرى عهود بليل أغبر زعتر ليمون زعتر أصفر وليل الليل طويل ما النظم فيه عليه بحر بسيط هي الزحافات وعلل آه منك يا وطن الزحف من علة هي مفرد من علل وذكرى كانت الغد اليوم أمس بعضاً من زهور دفلى وما بينها زهر رمان وعنبر ليل أغبر أغبر أغبر عودوا أنى كنتم غرباء حكايات نرد زهر أنتم قد تعقر
عبد الرحمن بوطيب المغرب
Related
Zahra
زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية
المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام
Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian
Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French)
هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة
كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر
رابط الموقع: Alwanne.com