“عبد الكريم برشيد ” في حوار حصري لجريدة “ألوان
المسرح : أصدق الصادقين والمعبرين عن حياتنا في معناها الظاهر والخفي
…ينبغي ألا نكون عنصريين في الفن
ونحن نخلد هذا الأسبوع اليوم العالمي للمسرح، يسعدنا ويشرفنا في جريدة ألوان أن نقدم لقراء ومتتبعي ألوان هذا الحوار الحصري مع رمز من رموز المسرح المغربي ، وهو الكاتب والمؤلف والمخرج ، المزداد بمدينة بركان في منطقة المغرب الشرقي، انه الدكتور عبد الكريم برشيد ، الذي أصدر مايزيد عن 35 نصا وعملا مسرحيا باللغة العربية ، وتتميز كل أعماله بالابتكار والتنوع تناول فيها مواضيع سياسية واجتماعية وثقافية عديدة .وهو المعروف والذي اشتهر بحمله راية الاحتفالية بكل أبعادها الحياتية والفلسفية، بحيث كتب عنها الكثير من المقالات والإصدارات، حتى أنه يعتبر أب الاحتفالية في العالم العربي. إذ نال العديد من الجوائز ، أهمها جائزة الدولة التقديرية في الإبداع الأدبي عام 2018
،من أبرز أعماله نذكر : ابن الرومي في مدن الصفيح، سالف لونجة، عنترة في المرايا المكسرة ، السرجان والميزان، منديل الأمان
عطيل والخيل والبارود، قراقوش، فاوست، وهي أجمل الأعمال التي أخرجها في فرقة المسرح الطلائعي المسرحي والمخرج الفنان إبراهيم وردة، وهي أعمال في منتهى الجودة، وقد أصدر الدكتور عبد الكريم برشيد خلال هذه الأيام كتاب ” قرقوش في فصلين” خصص صفحة كاملة للإهداء للأستاذ وردة
من أقواله نستحضر : المسرح هو لسان حال الشعب الذي يعبر به عن أماله وطموحاته وهو الأداة الأساس للتربية والتثقيف والإسهام في تنمية الوعي لدى الناس
سؤال: المسرح – كما قيل قديما – هو دنيا تتفرج فيها الأغلبية على الأقلية بينما الدنيا في حد ذاتها لا تعدو أن تكون مسرحية تتفرج فيها الأقلية على الأغلبية ، وانطلاقا من ذلك، هل تعتبرون أن المسرح والحياة المسرحية عامة بخير في المغرب خاصة والعالم العربي عامة ؟
جابة على أسئلتك الجميلة بخصوص المسرح و الاحتفال بالمسرح، فهما ظاهرتان إنسانيتان قديمتان ، فالإنسان ولد في مسرح كبير وهو مسرح الدنيا و مسرح الوجود، وكلنا نسرح في هذه الحياة و نتفاعل ، و نؤسس المدن و نبني الدور، و يبقى أن الإنسان في حاجة إلى مرآة ليرعى نفسه، و لذلك قيل بأن المسرح هو مرآة الشعوب، ولكن مرآة المسرح ليس مرآة واقعية ، و لكنها مرة تكون مرآة سليمة فتعكس الأشياء كما هي ، مثلما تعكسها الصحافة و كما يريدها المؤرخ و الموثق ، و لكن في أحيان كثيرة تكون هذه المرآة ساخرة ، تظهر وجوهنا مشوهة بطريقة كاريكاتورية، وهذا ما يفعله المسرح في كثير من تياراته ، خصوصا في المسرح العبثي أو المسرح اللامعقول الذي يقدم لنا الواقع بصورة مقلوبة، حتى الصورة التي كانت تلتقط في الكاميرا القديمة و كما تلتقط صورة داخل العين فهي مقلوبة ، و لذلك فالمسرح يقدم لنا الواقع من خلال شخصيات و حالات ووقائع ، و بالتالي هو لا يعطينا الأشياء كما هي ، وإنما كما ينبغي أن تكون ، وكما لا يمكن أن تكون أيضا ، و ذلك هو المحال في كثير من المسرحيات التي تصل إلى حد اللامعقول وإلى حد اللاممكن و اللاوجود
فالمسرح هو هذه الحياة بكل تناقضاتها و سلبياتها بكل إيجابياتها، و بهذا المسرح نرى وجوهنا. فالمغاربة عندما يتوعدون شخصا يقولون له ( سنريك وجهك بالمرآة) ( و لي في كرشو العجينة يخاف أن يرى وجهه بالمرآة) و أن يرى سيماته و هو الذي يحرص على أن يرى الناس بالمظهر الجميل و الممتاز. و لكن المسرح هو فن طويل اللسان ، وفضولي، والكاتب المسرحي هو فضولي من الدرجة الأولى ، يتجسس على حياة الناس ليعكس مظاهرها وظواهرها وخفاياها لكل الناس من أجل أن تتعض، و في المسرح متعة و فرجة فنية و هذا شئ جميل يعالج و يطهر كما قال ارسطو قديما بالكطرسيس هو التطهير بمعنى أننا ندخل المسرح وسخين بوسخ الواقع و وسخ حروبنا الصغيرة و الكبيرة و لكن ينبغي أن نكون اتقياء خفافا و هذا ما يحققه المسرح و هذا المسرح هو تربية و موعضة للانسان من اجل أن يكون مواطنا جميلا و حرا في الوطن الحر و هذا ما أكدت عليه الاحتفالية التي قالت هو تعبير حر لإنسان حر في مجتمع حر و هذا المسرح كما تريده هو أن يكون فاعلا و متفاعلا مع الاحداث و أن يكون تاريخها و ليس مسرحا مؤرخا بمعنى أن ينقل الأحداث كما هي في شكلياتها و سطحياتها و في ظاهرها و لكن المسرح هو تاريخ لما أهمله التاريخ لما نسيه التاريخ لما لا تصله عين الصحافي انما هو تأريخ للوجدان لعقل الإنسان و ما يفكر فيه من مخاوفه و رعبه الداخلي، و لذلك هناك حياة داخلية في عقلنا الباطن، والتي يجب أن يصل لها المسرح ليكشف لنا الخفي، ليغوص في أحلامنا و شكوكنا في حيرتنا.. في رعبنا من الحرب.. و من الجوع ..و الأمية ، و الفقر و المرض ، و لذلك المسرح هو اصدق الصادقين و المعبرين عن حياتنا في معناها الظاهر و الخفي
كل شئ نقتسمه ينقص إلا الفرح يكبر
سؤال: إن المتتبع لمساركم الفني تنظيرا وإبداعا وتأليفا ، لايسعه إلا أن يقول بأن المسرح هو منارة الحضارات التي استندتم إليها ، ومن خلالها جسدتم الفلسفة الفنية والافكار والقيم الإبداعية التي اقتنعتم بها أولا وآمنتم بها ثانيا ، في تمردكم الفكري على القواعد المسرحية التقليدية ، ومن خلالها ارتأيتم أن الاحتفالية هي إعطاء الوجه الحقيقي وهويته ، واكتساب الأصالة الحقة للمسرح المغربي خاصة والعربي عامة . فإلى أي حد – أستاذ عبد الكريم برشيد – يمكن اعتبار هذه الرؤى، وذاك التصور بديلا مستوفيا لشروط القطيعة التي أعلنها – عبركم ومن خلالكم – الاحتفاليون، ضد كل جمود أوثبوتية في مكان اجتهادي واحد ؟
إنها رؤية للعالم، و موقف للعالم ، و حلم حالمين في زمن يصعب فيه الحلم، لأننا نعيش واقعا كثيفا، مرعبا ، مخيفا، فيه التفرقة ، و الحروب و الاضطهاد، و الظلم ، لهذا أحسن الأشياء أن ندعو الى التلاقي و الحوار. والاحتفالية جاءت في وقت الحرب الباردة، عندما كان العالم مقسما الى قسمين : المعسكر الاشتراكي و المعسكر الليبرالي و الاستعماري، وعاش العالم ما كان يسمى بالحرب الباردة . الاحتفالية جاءت من أجل الحوار و أن نختلف بأمانة و صدق، واننا كلنا نسعى من أجل هدف واحد هو اسعاد البشرية، و في النهاية أن نصل لنتيجة واحدة هو أن هذا الانسان يكون اكثر سعادة و علما و غنى و احتفالا بحياته وهذه الاحتفالية أكدت على شئ اساسي هو أسمى حقوق الانسان، هو الحق في الفرح، فالانسان ما آتاه الله هذه الحياة ليشقى و انما ليسعد ، لهذا اعطاه كل هذه الخيرات الموجودة في البر و البحر والجمال في الوجود . فالاحتفالية قائمة أساسا على التلاقي والحوار والمشاركة و الاقتسام كما قيل كل شئ نقتسمه ينقص الا الفرح اذا اقتسمناه يكبر، فالمسرحي يعيش الفرح المركب والمضاعف ، فهو يجد فرحه و سعادته في اسعاد الاخرين، و لذلك اكثر ما يمكن اعطاءه لهذا المبدع الذي يحترق من أجل الناس هو أن نصفق له في نهاية العرض و أن نقف له احتراما و اجلالا لأنه فكر فينا و في إسعادنا و أعطانا ساعة من الفرح مثل المهرج في السيرك ممكن أن يكون مريضا و لكن لا يكف عن إضحاك الأطفال ، كذلك المسرحي الذي يتحدث عن مشاكل البشرية و طرحه لبعض مشاكل الحياة كالحرب و السلام، و بالتالي المسرح هو فن جميل و نبيل نشتغل فيه بروح العطاء و السخاء ندعو في الاحتفالية إلى عالم أكثر جمالا، و نظام عالمي جديد تنتفي فيه العبودية و العنصرية و الفوارق الاجتماعية، ونصبح كلنا مواطنين حقيقين، بأن الإنسان خلق حرا ليعيش حرا. وعلى هذا الانسان أن يتعلم من الطيور المهاجرة التي تبحث عن مناخ آخر يعيش فيه بحرية و أمان، و أن يضمن قوت يومه، والاحتفالية ما هي الا بحث عن آفاق جديدة حيثما وجد الانسان الاستقرار و السكينة وجد الحب ، ونحن نسعى في هذه الاحتفالية تسعى من أجل إيجاد مسرح يكون مسرحا للجميع ، فالمسرح مكان للتلاقي والحوار والاختلاف ، فالمسرح هو بيت لمن لا بيت له ، وصوت من لا صوت له، ومنبر من لا منبر له، فلذلك تكون الاحتفالية قد أكدت على الإنسان والإنسانية، وأكدت على الحياة وعلى الحيوية للمدينة والمدنية التي هي ضد الوحشية، وضد قانون الغاب، هذا المسرح وهذه الاحتفالية يمكن أن تكون مسرح اليوم والغد و ما بعد الغد
لا خوف عن المسرح
سؤال: ونحن نعيش في بداية الألفية الثالثة، نلاحظ سيطرة مطلقة لمختلف وسائل الاتصال الاجتماعية ، فهل ترون انها تتجاوز الفرجة المسرحية ، أو على الأقل انها عائق أو مشوش لها .؟ أم أن المسرح لازال بخير أمام كل تلك المستجدات التي فرضها العصر؟
بخصوص وسائل الاتصال في علاقتها بالمسرح : يمكن القول أن المسرح مسرح ، والتلفزيون تلفزيون ، والسينما سينما ، والراديو راديو، والحكواتي الشعبي الموجود في ساحة الفنا بمراكش هو ظاهرة أخرى، وفن آخر ، وصيغة أخرى للتلاقي، وينبغي أن لا نكون عنصريين في الفن ، فليس هناك فن احسن من فن و لا ظاهرة ثقافية و فنية اقل قيمة من الأخرى بالرغم من أن الانسان قطع اشواطا من خلال السينما و التلفزيون ووسائل الاتصال ، فمازالت الحلقة في جامع الفنا بمراكش، لها عشاقها و روادها ، مازال الراديو لم يقفز عليه التلفزيون، و مازال الناس يسمعون، والانسان ينام على صوت المذيع او المذيعة، فلهذا لا أعتقد أن المسرح يمكن أن ينافسه أي جهاز أو اختراع جديد في مجال الاتصال لأن الأساس في المسرح هو التواصل، وانه فن حي، هو فن اللقاء ، هو فن الحضور. فالمسرح غير السينما التي هي صور فقط كالتلفزيون ، ووسائل الإتصال الأخرى تعطيك صورة منقولة ، في حين أن المسرح هو هذا العيد الاحتفالي الذي نقيمه من أجل أن نلتقي، فالمسرح هو شعيرة و طقس مثله مثل الطقس الديني، فلا يمكن ولايعقل أن تصلي مع الهاتف النقال أو أن تصلي مع التلفزيون ، فالصلاة تستوجب الحضور الآن هنا … تستوجب هذه الحالة الشعورية والوجدانية، لذلك فالمسرح له هذه الخاصية الخطيرة جدا التي لا يمكننا شرك فيها أي صيغة تواصلية تقنية جديدة
فالآن نجد التلفزيون يحاول أن ينقل أخطر ما في المسرح و ليس العكس، نجد ما يسمى بتلفزيون الواقع و يحاول نقل الحقائق كما هي، وأن يتواصل مع الآخرين، و أن لا يكتفي بأن يعطيهم الصور و لكن يعطيهم فرصة للتلاقي والمشاركة. كذلك المسرح فهو فن حي عمره 2500 سنة من الإبداع، فيها شعر ونثر و فيها تاريخ وأحداث كلها مختزلة في مسرحيات يونانية ، والفلسفة اليونانية، كلها مختزلة في المسرحيات اليونانية، و بالتالي المسرح هو هذه الحالات التي نعيشها وهذا الطقس الذي ينبغي أن نعيشه بكل صدق، و لهذا أقول لك لا خوف عن المسرح واليوم في أڤينيو بجنوب فرنسا سنجد كل العالم بمناسبة هذا المهرجان يحج إلى عاصمة المسرح ، رغم توفر التلفزيون والهواتف الذكية إلى أن الناس يذهبون إلى الحلقة وإلى الحكواتي من أجل الاستمتاع
لأنه فن آخر، فالزائر من أوروبا أو أمريكا إلى ساحة جامع الفنا، ينفتح على ثقافة أخرى فيها حكي شعبي وفيها فن فطري، لا وجود فيه للكراسي ولا للشاشات، ولا للستائر، لكنه يقف على قدميه، يتفرج، يضحك، ويصفق ويساهم بشكل طوعي، وهذا أخطر ما في المسرح
فالمسرح فن الشعب، يجعله ينفتح على ثقافات أخرى ، و يبقى المسرح فن الشعب ، والفن هو الأقرب للإنسان ، وهو فن اللحظة الحية ، فالمسرح لا يعطيك صورة تعجب بها، لكنها يعطيك فرصة لتلتقي مع الآخرين في ساعة احتفالية جميلة، وهذا هو المطلوب
سؤال: حدثنا عن انشغالاتك في شهر رمضان الكريم..هل تواصل الكتابة والقراءة، أم هناك مشاريع تحضر لها قريبا؟
تعرفين بأنني توقفت مؤقتا عن تلك الأنفاس الإبداعية النقدية التي دأبت على كتابتها منذ أكثر من سنة، و التي بدأتها في مقالة بعنوان ” احتفالية حلال” و أضفت إليها مقالة أخرى ” احتفالية حلال و الاحتفالية حرام” و هذه المقالات و صلت لحد الآن الى 80 مقالة . بمناسبة رمضان توقفت مؤقتا وعدت إلى مشاريعي ، وهذا اليوم 14 رمضان انتهيت من كتابة كتاب جديد كنت قد بدأته من قبل ، وعنونت هذا الكتاب ب: ” مسافر وجهته السحاب” و فيه أتحدث و أحكي عن رحلتي الإبداعية ، ورحلتي الوجودية في مجال النقد والكتابة المسرحية و في الإخراج ، و العمل الصحافي، والعمل الإداري و في التفكير الفلسفي. وفقد حاولت أن أعطي نظرة بانورامية عن مساهماتي في العمل الثقافي بصفة عامة ، ومجال الإبداع بصفة خاصة، انطلاقا من مولدي في المدينة التي رأيت فيها النور: مدينة بركان مرورا بكل المدن التي انتقلت إليها وعشت فيها ، و درست فيها ، و بعدها سأخوض في كتاب آخر إن شاء الله
تحياتي الأخوية لقراء ومتتبعي ألوان و عيد مبارك سعيد مسبقا