قراءة في تراث محمد بن محمد بن عبد الله المؤقت المراكشي
إظهار اللبس فيما انطوى عليه ضمير الشيطان والنفس نموذجا
النص يعلن عن رغبته في الكشف عن متوارياته
د/سعيدة آملاح
بعد اعلان مدينة مراكش عاصمة الثقافة في العالم الاسلامي ، والانطلاق الرسمي لهذه الاحتفالية . وبتاريخ 8 فبراير 2024 ، عرفت رحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية وبتنسيق مع مؤسسة الموقت للعلوم والثقافة ، تنظيم ندوة فكرية حول تراث الفقيه العلامة ” محمد ابن الموقت ” المراكشي ، و للتعريف الموجز به نقول : محمد بن محمد بن عبد الله المسفيوي المراكشي المعروف بابن المؤقت ( 1894 _ 1949 )
:وهو عالم موسوعي مغربي ، كتب في مجالات متعددة منها
،التاريخ والأدب والتصوف والأوقاف والتوقيت ، ويعد من أبرز أعلام الفكر المغاربة في النصف الأول من القرن العشرين
استهلت هذه الندون الفكرية بكلمة افتتاحية لعميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية الدكتور ” عبد الجليل الكريفة” تلتها كلمة رئيس المؤسسة “عبد المنتقم المؤقت ” ، وقد ناقشت الندوة مؤلفات هذا العالم المغربي الموسوعة ، في جلستين عمليتين
:الجلسة الأولى
:أشرف على تسييرها الاستاذ عبد الإله التهاني ، وشملت المداخلات التالية
محطات في حياة محمد ابن المؤقت المراكشي للباحث ” أحمد متفكر ” من مظاهر تقليد المغاربة للاوربيين زمن الاستعمار الفرنسي ، من خلال كتاب: الرحلة المراكشية لمحمد بن المؤقت للدكتوراحمد عمالك . قراءة في تراث العلامة محمد بن المؤقت (إظهار اللبس فيما انطوى عليه ضميرالشيطان والنفس ) نموذجا للدكتورة سعيدة أملاح “
الرحلة الوقتية من خلال الرحلة المراكشية للدكتور ” مصطفى فنتير ” الفكر الاصلاحي بالمغرب زمن الحماية من خلال محمد ابن الموقت المراكشي نموذجا للدكتور عبد النبي حدادي
:الجلسة الثانية
الدكتور ” عبد الجليل الكريفية ” : بعض ملامح شعر الملحون نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، شعر ابن المؤقت نموذجا الدكتورة “ نجية الزهراوي” ، ابن المؤقت المراكشي المصلح الاجتماعي، قراءة في كتابه الرحلة المراكشية . الاستاذ الباحث ” محمد الطوكي ” نظرات في كتاب الجيوش الجرارة في كشف الغطاء عن حقائق القوة الجبارة لابن الموقت المراكشي
الدكتور ” عبد العزيز أبايا ” نظرات في النقد الاجتماعي لدى ابن الموقت من خلال كتاب ( الكشف والتبيان )
الدكتور ” مولاي علي الخاميري ” مراكش العالمة في رحلة ابن الموقت : الطباع والمستجدات
الاستاذ ” عبد الرحمان الخرشي ” ادب الرحلة عند محمد ابن الموقت المراكشي
وقد ارتأينا أن نحط الرحال بالقراء في الفضاءات الفكرية لهذه الندوة الفكرية من خلال المداخلة التي ساهمت بها صديقة الجريدة الدكتورة “سعيدة املاح ” والمعنونة ب ( قراءة في تراث محمد بن محمد بن عبد الله الموقت المراكشي : اظهار اللبس فيما انطوى عليه ضمير الشيطان والنفس نموذجا )
*******************************
إن هذا النص كيان متعدد، وتحديد هويته أمر صعب ،رغم أنه من مألوف القول ، يمتلك صاحبه نظرة نسبية متغيرة سواء في قراءته أو تحديد هويته ، نسيج ابداعي من الكتابة النثرية الفنية القديمة ، استطاع مؤلفه أن يراهن على تقديمه كتأليف جديد وبالتالي كقراءة جديدة، ويمكن أن يدخل في فن المكاتبة
إن النص مزيج من السجع والشعر يقر باختلاف الأداة التعبيرية وبأحقية كل منها في الوجود للتعبير عن القيم والحالات المتباينة والجنس الأدبي يبقي حاضرا في النقد وفي القراءة ، وهو عامل التواصل برسم أفق انتظار القارئ هذا الافق القابل للتحول وفق القناعات والتوجهات وما يطرأ على الجنس من تغيرات مع كل نص جديد
إذا انتقلنا من فرضية مفادها أن متلقي النص متعدد ، وكذا القراءات إذ لا يوجد نموذج خاص من القراء المفترضين أو القراءة الواحدة، فإن التفاعل بين النص والقارئ عند البعض ، قد يصل درجة المحاكمة ، مما يغيب ذات النص في بعض الأحيان ، وقد يصبح الكاتب وما كتب في موقف اتهام قد يؤدي إلى الرفض أو المصادرة
فمنشأ القراءة الموضوعي والعملي لن يزيغ عن حق الاعتراف بأهميته في زمن ما ، و في مكان ما، بطقوسه ونزوعه الانساني وتجربته الشخصية، وإلا فسيكون القارئ ذا مقاس أيديولوجي خاص وميل سياسي أو عقدي
وهنا تبرز إشكالية قراءة نص كهذا قراءة فكرية ونقدية ضمن شروط منهجية ملائمة ، مرتبطة بمرجعيات معينة ، وتوجه محدد حتى لا تنفلت خيوط القراءة ، وتسير في اتجاه معاكس يثير قضايا حساسة ، وردود أفعال بعيدة كل البعد عن أدبيات طرق التلقي ،وكيفيتها، وانعكاسها على آليات النقد وما يحتمل من تأويلات
وبدا تشكل القراءة نقدا جدليا كما قالت بذلك الدكتورة وفاء السلاوي في هوية القراءة
حيث أشارت إلى أن القراءة تقيم علاقة ما بين الأصلية الصحيحة للنص، والقراءة التقييمية لخطاب الاتهام لإنتاج معرفة مؤسسة على مقاربة جديدة وتأويل يستند على آليات وقواعد ممنهجة، وقد تؤدي بعض القراءات الصادمة لمثل هذه الأعمال إلى إنتاج قراءة إسقاطية تقحم معاني موجهة ضد المعنى المضمر الحقيقي للنص كما هو الشأن بالنسبة لمؤلف إظهار اللبس
مما يستدعي ربط النص بموضوعه وحالته وفحواه 2وللاقتراب من فحواه لا بد من الوقوف عند مرحلة تحليلية تفكيكية، فك بنياته اللغوية ، وبنائها البلاغي والاسلوبي والسياقي ، وإعادة بناء النص لاستكناه المعنى في البعد البلاغي و عبر كل مستويات اللغة الصوتية والمعجمية وعمليات التحول الداخلي للكلمة وعلاقاتها السياقية
مروراً بالتأويل المؤسس على رؤية مشروطة بصحة التاريخ وجودة الفكر ومقاربة المضمر، وما بين السطور لتتسم القراءة بالنضج وتكون القراءة صائبة من غير إسقاط
يُشتغل فيها على حقل إبداعي ، وهو الذي تميز به أسلوب سيدي محمد بن محمد الموقت المراكشي الموجز في هذه الوريقات البيانية التي تدل على سعة علم صاحبها ، وتذوقه الرائق
وحقل علمي يستند على حقائق ترتبط بالعقيدة الصحيحة ، وحقل تاريخي يعتمد الاستدلال والبرهان للوصول إلى الهدف ( من إظهار اللبس فيما انطوي عليه ضمير الشيطان والنفس)، الذي نستشف منه الاسلوب التربوي والاخلاقي ، الذي يرمي إلى التربية على القيم
فقراءة هذا الكتيب المليء بالأسرار، وتكرار قراءته ، يغرس القيم ويحمي الهوية
فالنبر والتنغيم في كتابته التي تعتبر أداة فعالة للتوثيق بها إغراء بياني سافر، وبديع المعاني الأقرب إلى أوزان الفراهيدي ، وبيان الجرجاني ، وسجح الهمذاني، ومعانيها في منطوقها و مفهومها غوص في الدلالات وإشارة إلى الحقائق
قراءة هذا المؤلف للموقت المراكشي حديث متعدد الجوانب أقربها وأبعدها مسلكا توجهه العلمي وتفقهه في الدين وعلمه الزاخر
والنص في هذا المؤلف العميق كيان متعدد كما قلت سلفا يصعب تصنيفه من حيث الانتماء وهويته ، فهو متأرجح بين أدب المناظرة من حيث امتلاكه للغة رصينة وأسلوب دقيق ، وجمالية تنقل الحضور الفكري و تشخصه كإنتاج متخيل يبوح بأسرار اللغة وبكافة تجلياتها فالنص يمتح من متخيل عنيف على مستوى الشكل الشيخ ذي المواصفات التي تستجلي مظاهر الانكسار ،وتشي بوضع ملتبس وغامض لغريب رسمت له صورة تشكيلية تقريبية منفرة مستقاة من متخيل جمعي مخيف اجتمعت فيه من الصفات مظاهر الانكسار المرعبة، لوحة رمزية تؤثث عالم النفس وانعدام الالوان حتى ، السواد لا نجد مذاقا من مذاقاته ،رمزيتها في خلوها من أي معنى ما عدا الاحساس بالذعر اللامرئي السابق حتى للرؤيا في قول المؤلف: سمعت وقع أقدام من خلفي خارجا عن العادة فأخذتني الدهش لإشارة المكان الموحش، فالتفت التفاتة الخائف الوجل
إحساس السائر المتحير المضطرب القلب صورة تشي بقساوة التجريب وتوحي بمرارته (فلذة الظفر أذهبت عنه مرارة الضجر) من واقع يجري نحو الوراء لاستبدادية النفس ،وتغريب الروح ، وغموض الرؤيا
فهل ذاك راجع لحضور المؤثر المخصوص بالأذى منذ الأزل ، والذي أعتبر أفضليته في أناه وجحد ولم يلب أمر الله سبحانه وتعالى فهو من نار و آدم من طين، فأبى واستكبر وكان من الكافرين والعياذ بالله ، فرسم له المخيال الاجتماعي صوراً منفرة مقززة استقى منها المؤلف بعضا منها كالعينين المشقوقتين ورأس الفيل وأنياب الخنزير وشفتي الثور إلى غير ذلك من غرابة الصورة ونفور الروح منها
فهل هي مناظرة بين خيال وواقع ، أو واقع وواقع ، أو مخيال وحضور أو رمز ووجود ، وهل يصح اعتبارها مناظرة حيث توفر فيها الانصات الجيد، والاستمتاع بعناية ، وطلب الاستزادة الذي تكرر مرات ومرات من غير ملل في قوله رحمه الله زدني. زدني .زدني استشعارا بثقل الوجود وأفق الانكسار كما يقال
وبالطبع أتسم المناظر المستقبل بالهدوء والاحترام – حتى مع النفور النفسي والخلاف الشديد من غير انتقاص أو إساءة ، والذي يعتبر من آداب المناظرة في الأدب المغربي والعربي والهدف إيجاد الحقيقة التي ختم بها إبليس اللعين مناظرته (إن بقيت على عملك مصرا وضلالك، القديم مستمرا أقاومك مقاومة بخيلي ، ورحلي من الجن والإنس) فما كان من المؤلف إلا الاستعاذة من الشيطان الرجيم، حتى غاب عن بصره ، وحمد الله على سلامته من يد هذا الوجه المنحوس ، العاثر المتعوس ، والشرالمكدوس ، والطبع المنكوس، والذي حضر على استحياء متأدبا مشفقا من آثار الطريق محذراً من الألم والحزن ، مشحونا بطاقات رمزية بؤرتها النفاق والتشويق ، يقول عبد ربه محمد بن محمد الموقت المراكشي ، وهذا آخر هذه المحاورة العظمية المدهشة على سبيل الاختصار، وفيها تذكرة وعبرة لذوي الاعتبار
ومن الجدير بالذكر أن هذه الآداب ليست صارمة بشكل قاطع ، وقد يتغير تطبيقها وفقا لسياق المناظرة ومستوى الحوار إلا أن احترام الآخرين والتعبير ببراعة عن الحجج يعتبر أمرا جوهريا في أي مناظرة أدبية لذلك استسغت لنفسي أن اقحم هذا المؤلف السامق في زمرة المناظرات وإن اتسم بخصوصيات منها: قساوة التجربة ، والاكتفاء بلازمة الاستزادة ، وعلامات الانكسار وان تم النهوض من هول الصدمة ، وقفزة الخوف لمجابهة المعرفة والتعرف على الذات التي لا أمس لها ولا وجه لها ولا مستقبل لها إلا في جريانها مجري الدم من بني آدم ، وفي ظهور غوايتها وبث شرورها
وإن استزاد المؤلف رحمه الله وهو المحاور المفترض من المعلوم الكثير ، واستجلى العلامات والدلائل والمنعطفات والمزالق، وعتبات النص خير من يترجم هذه الآيات والانكسارات انطلاقا من إظهار اللبس فيما انطوى عليه ضمير الشيطان والنفس في مقابلة هذه الثنائية بين الخفاء والتجلي والظهور والانطواء وتحلية اللفظ وتفريعه كضمير للشيطان والنفس، ومماثلة بين هواجس الشيطان وميولات النفس الأمارة بالسوء
ويبقى السؤال الملح ما مشروعية الانتماء إلى أدب الرحلة فالمؤلف بعد الحمد لله لمن أعد أحسن الجزاء لمن خالف أمر نفسه والشيطان وأنزل وابل غضبه على من أطاعهما في السر والإعلان وبعد الصلاة والسلام على خير البرية وآله وصحبه وسلم
وبعد الاستهلال بقوله تعالى “﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ سورة فاطر، الآية رقم 6
فبعد التصريح بالمحاورة والمناظرة بين المؤلف ونفسه والشيطان أكد المؤلف رحمه الله بقطعه لمسافات جلالية وتسطيره في رحلته العظيمة الموقع العديمة النظير في الكرة الأرضية المسماة بالمقالة الباهرة في كشف الغطاء عن اسرار الآخرة، فذبجها مختصرا رحمه الله بالواقف عليها وسماها بإظهار اللبس فيما انطوى عليه ضمير الشيطان والنفس ، طالبا بها الإخلاص، والاعانة، والرضا والقبول
فعزم على السفر وانقطع عن اهله وأقاربه وعن العالم الدنيوي فطوى السهل والوعر والمراحل والمنازل، واصفا أهوال الرحلة وشخوصها وأشخاصها ، فنقل سفره المتخيل ،فوقف عند رحلته هاته واصفا بإيجاز النقلة النفسية والرجة الروحية ومعاناة الذات متحدثا عن العلاقة بالمكان والزمان والذاكرة ، والقيم وأساليب التهويل والتخويف ، والأحداث والقياسات والانفعالات وكل الحالات الشعورية واللاشعورية وقد اعترضته شعبتان غم عليه خبرهما فلم يدري أيهما يسلك ، فوقف متحيرا مضطرب القلب حائرا في البحث عن المخرج ، وفيه من أدب الرحلة الاهتمام بالتفاصيل من محيط وانطباعات وملاحظات وتوثيقات وتجريبات
وهنا أسمح لنفسي في تصنيف هذا المؤلف الصادم بين أدب المناظرة وأدب الرحلة وآداب اخرى بما يتمتع به من غنی عمیق في مجالات المعرفة والثقافة، والشريعة، والتشريع، والآداب
ولعل القصص الخيالية قد تحتوي هذا الانجاز بشكل أو بآخر، هو إنجاز موجه منذ البداية بمعنى أن الخيال وسيلته لتحليل الواقع ، وإرشاد الناس إلى سبل الهدي، ومنبع النور، فالمتخيل من الشخوص المفترضة المستقاة من التاريخ الإسلامي رسمها المؤلف رسومات جامعة لتشكيل حيواني من الواقع فأكد اختلافه وما يخلفه من رعب له، ولكنه سهم مسدد النفاذ لتحقيق الأهداف والغايات والتغلب علي التحديات زرعه المؤلف منذ البداية في رسم دائري مبتدؤه طلب المعرفة المركز وآخره التأكيد علي الهدف من خلال الرمزية الاسلوبية للمؤلف
اختيار المؤلف ليس بدعا، بل هو استقاء من التاريخ على هدي الحكايات المتخيلة في ألف ليلة وليلة الذي أسس مع مراعاة الاختلاف لمناخ رائع حول التخيل والمخيال مما يجسد عوالم خيالية وقوة سحرية للتسلية للاقتناع والاقناع
فهذا النموذج له تأثير عال على الأدب والثقافة بوجه عام انفتاح على عوالم متنوعة كي لا نبقي حبيسي من يتأمل ذاته في المرآة هناك تجاوز الواقع واللحظة والتعبير عن عالم منسجم في رؤاه التي حددها المؤلف وتطلعه إلى الكشف من خلال مقالة نعثها بالباهرة عن أسرار الاخرة
فكتيب كهذا يؤسس مملكة الخيال المترامية الأطراف التي تجعل الخيال واقعا في ظل واقع وأنا مضاعف
تضاريس الكتاب حفلت بأقفال معينة فيها من التضليل الكثير
فالنفس الأمارة بالسوء أغرته بعدم اقتحام المجهول الذي لا تعرف موارده، ولا تبني مصادره، ولا يهتدى لمسالكه ، ولا يتخلص من مهالكه
نفس عقدت مع الشيطان حلفا
بعدها أضرب بعزيمته عن كلامها صفحا لأنه متوكل وصار يطوي العثرات ،والنفس تطارده لمعاناتها الكلل والملل –
بعد أيام المعاناة وقع ما يريب من شك وخفاء حتى احتضنه الضياع –
وأوشك على أن ينهار
فجأة ومن غير تحية الإسلام ووجه بأسئلة حارقة ونعت بظالم نفسه لمنعه عن إتمام غايته –
فهيهات ما مولك وقد أضربت عن رجولتك لتصبح بالخسران والاضلال –
فقدم النصيحة في ثوب معطر بالآثام ، فوقف الرجل متلفعا بحيرة الانفاس –
فوسوس له بأنه مجانب للصواب، ملق بالنفس في مسارح الخسار، مقيما على شفا جرف هاز –
فغالبه الفضول نفسه وأقسم بتبيان حاله وواقع أمره فتحلل من ثياب استعارها ، وأعلى أنه عنصر الكفر ، ومناخ الملحدين –
وكهف الماردين، وبأنه رئيس من لا تزيدهم الموعظة الا خسارا ولا تفيدهم الملامة إلا إصرارا
فلما طلب الشيخ الاستزادة ،اعترف له بأنه الذي أغوى الخلق جاهلهم وعالمهم ، وقارئهم . وعابدهم وفاجرهم إلا عبادا قليلين –
معلنا أولى سوءاته ، وأعظم خساراته ، بإخراج آدم من الجنة ومنع دخول أولاده إلا من قد رحم الله وقليل ما هم –
وأنه ولي من رفض القرآن واتبع الهوى ومن ءامن وارتد
ووعد واخلف فقال الكثير مما يندى له الجبين : أبان المنكرات ومن آداب مناظره قال : سامحني لكثرة هذا البحث والالحاح لكوني أريد الوقوف على حقيقة أمرك قال: تسببت لقابيل في قتل أخيه هابيل ، وسحرت العقول حتى ألقيت اربابها في الاهواء المختلفة
فتوالت الأحداث ، وقدم نماذج مختلفة للإغواء ، ولما استأنس بالقول سدد نحو المقتل سهمه فاستعاذ بالشيطان الرجيم وأجابه بقوة المؤمن حسبك يا هذا لا أنجح الله سعيك، ولا سهل مطلبك هذا القرن وما بعده
فرفع الشيخ رأسه ، وانحسر الغطاء ، فقد حقق الهدف ، واظهره في تقييد خاص ، مظهرا لمكائده ، متوعدا الرجيم بالملاحقة فتوجه بالدعاء مستبشرا بانه بلغ المراد ورفع الرجاء فختم الشيطان متوسلا بأكاذيبه، متفننا بإغراءاته قائلا : ما اتيت لأجازيك ، فقط جئت انتصر لشقيقتي وأحب الناس الي وأقربهم منزلة الا وهي نفسك التي بين جنبيك فبها اتوصل من العبد للهفوة والسقطة والشهوة والغفلة والنسيان واشهد جنوده من الجن والانس
فتسلح الشيخ بالإيمان ، واستعاذ بالله من الشيطان واحتسب بالله العلي العظيم ، وتسلح بحوله وقوته ، فاختفى الملعون فاستعاذ بالله من شره وشر أعوانه وبذلك انتهت المحاورة الذي عدت عبرة لذوي الاعتبار
وكان الفىاغ من هذا الحوار بين الرواية والقصة في ضحى الجمعة سادس عشر محرم الحرام خمسة وستين وثلاثمئة وألف للهجرة
لقد اتخذ شيخنا الحرف زورقا للنجاة ، والكلمة سبيلا للحياة و اعتمد أسلوبا سرديا استخدم الحبكة والتشويق والتفاصيل المثيرة والمشوقة ، فكان بحق نصا إبداعيا في سيمياء الكتابة البيانية وبلاغة الرؤيا والحدث والمقتضى مركزا على القوة الرمزية ، مستخدما الرموز التي تشير إلى معاني عميقة ومثيرة و مؤثرة في الحين نفسه، وبالطبع الأسلوب حافل بالصور البيانية من تشبيه و مجاز وتكرار مما يخلق نسقا وإيقاعا متميزا على مستوى الإيقاع الداخلي والخارجي . تفاصيل تضفي جمالا في بناء المعنى العام للنص، وعندما نضعه في سياقه العام الديني والثقافي والتاريخي يصبح المعنى واضحا والهدف محددا ، و بذلك يمكن أن نقول مع إشراقة هذا النص بانه هو الذي يختار قارئه ، بل هو في تعدديته يقترح منهج التواصل معه
إن قراءتي غير ممنهجة بشكل علمي دقیق بل اكتفيت حسب ما يقتضي الشرط بقراءة أولى ذات صبغة تأملية حسب ما يقتضيه بيان أهل العبارة ، انعكاسية لوجودي الملتزم بالقيم الإسلامية ، آملة أن تليها قراءات أخرى على مستوى البناء والبيان ووجوه المعاني وأنواع البديع وقراءة بنيوية لهذا النص الموسوم بالمتعة الأسلوبية، والمتعة الروحية
هذا النص الذي يعلن عن رغبته في الكشف عن متوارياته ، ودقة وجوهه العلمية وألقه، ولغته الانسيابية التي تفرز المعنى وتفجره ، المتجاوزة أنظمة العلامات والدلالات والتي ليست انساقا من المعاني القائمة بمعزل عن اللغة وذلك بالتركيز على سياقات النص المتعددة الحدود والتي تفضي إلى إعادة إنتاجه في ذاكرة القارئ ، واستقباله وتلقيه والتفاعل معه، وهوية المستقبل التي لا شك انها مزامنة لمرحلة الانتاج ، وحاضرة في وعي المؤلف
والمؤلف هنا هو القارئ نفسه أي الحكم والمنتج والذي يؤمن بأفق التوقعات حيث تتفاعل الفاعلية الانتاجية والاستقبالية والتواصلية أو الاتصالية فيصبح القارئ المفترض قارئا تاريخيا مشبعا بالقيم الاسلامية والدينية
أولا: جمالية المكاتبة في الادب العربي – عبد الله المعاوي ط1 ص27
أولا: المناهل – عدد 84 – فبراير 2008 المؤسسة الثقافية انتاج وتأويل في هوية القراءة
ثانيا: أحمد جوهري / اللغة والابداع الأدبي ل 1989 م – ص 32