العيد والتعييد في عاصمة التعييد الاحتفالي
لا شيء أجمل وأنبل من الكتابة إلا الكتابة: الجزء 1
كلمة افتتاحية لابد منها
هذا اليوم، هو اليوم الأخير من سنة 2023 ولقد اخترت ان اختمه بفعل الكتابة، إيمانا مني بأنه لا شيء أجمل وأنبل من الكتابة إلا الكتابة. وبان هذا الزمان سيغير غدا كل شيء، ويغيب كثيرا من الأجساد ومن الأرواح، وسوف تبقى وحدها الكتابة، شاهدة على اننا كنا هنا، وأننا قد عبرنا من هنا، وأننا قد عشنا بهذه الأسئلة وبهذا القلق وبهذه الدهشة في الكتابة، ولقد اخترت في هذا الملتقى الزمني ان اقول لكم قولا، وان كتب لكم كلمة، وان تكون هذه الكلمة صغيرة ومختصرة جدا، وذلك في حق هذا الزمن الكبير والقوي والجبار والغامض والملتبس والماكر والمخادع والزئبقي، وان نودع سنة، وان نستقبل سنة، وان يكون الأمل زادنا في طريق تلك الأيام الآتية غدا، وان يكون هذا الموعد الاحتفالي السنوي هو الحديث عن الاحتفالية وعن التعييد الاحتفالي، وبالتأكيد فإن ما بعد هذا اليوم الذي سوف يأتي، هو يوم آخر، يوم يكرر ما نعرفه، وقد يفاجئنا بما لا نعرفه وبما لا نريده وبما لا نتوقعه وبما لا نرجوه، وستدور عجلة الأيام والليالي دورتها الفردوسية او الجهنمية، اما نحو الأجمل أو نحو الأسوأ، وسوف تأتي الأيام بعد الأيام وتأتي الأعوام بعد الأعوام، وتمضي كثير من الأجساد التي عاشت حياتها، ومثلت ادوارها التي اعطيت على مسرح الحياة، ولكن هذا المسرح الوجودي، بكل ظلاله وامتداداته باق إلى ما لا نهاية، وهذه هي سنة الوجود، اي أن يكون المكان وفيا لمكانيته ولموقعه الجغرافي، وأن يكون الزمن في التاريخ متقلبا وحربائيا ولاعبا بمشاعر وأحوال عباد الله في ملك الله هي
إذن سنة تمضي، إلى حيث أحد يدري، وسنة اخرى تأتي، من رحم الزمان ومن عمق الوجود، وهذه السنة التي انتهت نعرفها وتعرفنا، ولقد اسعدتنا قليلا، في لحظات قليلة طائرة في الفراغ، واحزنتنا كثيرا في لحظات اخرى غيرها، وتلك السنة التي تبدأ غدا، نجهل عنها اليوم كل شيء، ونرجو أن تكون احسن من اختها التوءم، وأن تكون رحيمة بنا، وأن تأتينا بالأمن والأمان وبالسلام وبالعيد وبالاحتفال، وان تكون رحيمة بالمستضعفين في الأرض، فسنة 2023 جرت معها جنون البشر في اوكرانيا وفي غزة وفي السودان وفي كثير من بلدان العالم، ولقد جاءتنا في اخر شهورها بغضب الأرض، و(اتحفتنا) بزلزال مدمر في أحواز مراكش، ولقد كان هذا الزلزال امتحانا صعبا جدا، ولقد اختبر قوة المغرب، واختبر صبره وصموده، واختبر ايمانه، واختبر كرم المغاربة ايضا، ولقد ظهر في هذا الزلزال ما لم يكن خافيا إلا على العيون التي لا تبصر، وانتصرت عبقرية الإنسان المغربي، وانتصرت حكمته، وانتصر كرمه، وانتصرت انسانيته وحيوته على قوة الطبيعة المدمرة، وانتصرت على غضبها أو على عبثها أو على جنونها، أو على حكمتها الخفية التي لا نعرفها، وبهذا لا نقول إلا نفس ما قال أولئك الذين سبقونا و(قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، انك انت العليم الحكيم )
في هذه السنة التي تمضي، كما في كل السنوات الأخرى التي قبلها، عشت كثيرا، وتأملت كثيرا، وقرأت كثيرا، وكتبت كثيرا، وسافرت كثيرا، وفاض عقلي بالأفكار، وفاضت نفسي بالحالات، وفاض خيالي بالصور الجميلة، ولهذا فإنه يكون من الواجب أن نتذكر السنة الراحلة بعض محاسنها
الاحتفال والاحتفاء في المدينة الاحتفالية
وهذه المدينة الاحتفالية هي مراكش، والتي كنت فيها الأسبوع الماضي كنت في مدينة مراكش ضيفا على فرقة دوز تمسرح، وعلى صديقي الفنان عبد الجبران خمران ومن معه من المسرحيين الصادقين والجادين والمجدين، وتحديدا كان ذلك يوم 20 من شهر ديسمبر، وفي أمسية شعرية باذخة بدار الثقافة، وبالنسبة لمدينة مراكش الاحتفالية، فانا لا أخرج منها إلا من أجل أن أعود إليها، ومن يكن احتفاليا مثلي، فإنه لا يمكن أن يبتعد عنها، لأنه تسكن روحه، وتسكن فكره، وتسكن ابداعه المسرحي الاحتفالي
ولقد كان اللقاء الاحتفاء في مدينة التعييد الاحتفالي حول كتابي (فلسفة التعييد الاحتفالي في اليومي وفي ما وراء اليوم) ولقد حاورتني الدكتورة نزهة حيكون، ووجدت نفسي أمام أسئلة أخرى جدية، أسئلة لم يسبق للاحتفالي أن طرحها على نفسه، ويسعدني أن أجد من يحرك المياه الراكدة في نفسي وروحي وخيالي وذاكرتي، ومن يريني وجهي في مرآة نفسي، ومن يسأل الأسئلة العنيفة والصاخبة، ولكن بهدوء، وأن أجد من يخرج من أي حوار جديد معاني أخرى جديدة ومراكش التي اعود اليها، أو تعود الي، ماذا يمكن ان أقول عنها اليوم؟ واي هي اللغات والأبجديات والمعجمات التي يمكن ان تكون أقدر من غيرها في وصفها؟ هي في الأصل روح، قبل أن تكون جسدا، ومن يقدر ان يجيب عن سؤال (وما الروح)؟
هي المدينة الدولة، يوم كان اسم المغرب مختزلا في اسم مراكش، وهي الجسد الواحد، وهي ظلاله المتعددة والمتمددة والمتجددة في المكان وفي الزمان، وهي صوره الملونة بألف لون ولون، وهي زواياه المعطرة بألف عطر و عطر
هي البدء والمنتهى، وهي الجسد الحي الظاهر، وهي الروح السحري الخفي، وهي الملتقى الذي تلتقي وتفترق عنده ومنه كل الطرق، وهي المدينة الاحتفال، وهي المدينة العيد، قدرها ان تكون فرحا وبهجة، وان تدعو إلى البهجة، وان تحرض الأجساد الحية على العيد والتعييد وعلى الاحتفال ونعرف ان لبعض الأمكنة والأزمنة الحية أجساد وظلال حية، وان لها أرواحها الحية، ولها ذاكرة ولها تاريخ، وكذلك هي المدن العبقرية التي لها عقل وقلب، ولها وجدان وخيال، ومثل هذه المدن، بسحرها المتدفق، لا يمكن أن تبتعد لها، وانا ما ابتعدت عن كثير من المدن الجميلة إلا من أجل أن اشتاق إليها اكثر، ومن اجل أن اراها من بعيد أجمل واكمل وبالنسبة للاحتفالي فان العودة إلى مراكش لها طعم خاص، ولها مكان ومكان خاصة في قلبه وفي مساره الوجودي والفكري والإبداعي، خصوصا عندما تكون هذه المدينة اليوم، وكما كانت بالأمس، عاصمة للتعييد الاحتفالي، وعاصمة للفرح الاحتفالي، وتكون المناسبة هي تقديم كتاب يحمل عنوان ( فلسفة التعييد الاحتفالي في اليومي وفي ما وراء اليومي) وان يكون ذلك مباشرة بعد انتهاء فعاليات المهرجان الوطني للمسرح بمدينة تطوان، وبعد ثلاثة أيام فقط من حفل الاختتام، ولقد جدت نفسي في ضيافة فرقة دوز تمسرح، وذلك في إطار برنامج التوطين المسرحي، ولم يكن غريبا ابدا أن تحتفي هذه المدينة الاحتفالية بالفلسفة الاحتفالية وبالإبداع الاحتفالي، وللحقيقة والتاريخ نقول بأن هذه المدينة هي التي شهدت لحظة مولد الحركة الاحتفالية في السبعينيات من القرن الماضي، ولقد كان موضوع هذا اللقاء هو فعل التعييد المتجدد عبر الزمن المتجدد؛ أسراره ومعانيه واحواله وظواهره ومظاهره الخفية
وبين الإنسان والمدينة قصة عشق قديمة جدا، وبينهما صحبة وعشرة ورفقة، هكذا هي في العقل الاحتفالي وفي الوجدان الاحتفالي وفي الإبداع المسرحي الاحتفالي، حيث الشخصية المسرحية وحدها، وهي الموجودة والحاضرة دوما مع مضاعفها الرمزي، والذي تمثله المدينة الحية والعبقرية، فابن الرومي تقاسمه الوجود مدينة بغداد وسقراط تحييه وتقتله اثينا او شريعة أثينا، وابن الرومي تسحره وتقتله باريس بسحرها القاتل، ويموت غريبا في دروبها واحيائها، وجحا يمارس جنونه العاقل في مدينة فاس، والتي لها وجه واحد، ولها اقنعة بلا عد ولا حصر، وابن رشد العاقل وصاحب الدعوة إلى العقلانية، يحاصره الفقهاء في تمسكهم بالنقل في مقابل العقل، واما الصعلوك. فهو موجود نظريا في مدينة لندن، ولكنه في الحقيقة يظل خارجها وعلى هامشها
بحثا عن الأيام الاحتفالية في الزمن الاحتفالي
إنني، أنا الاحتفالي، أنطلق دائما من المبدأ التالي، وهو أنني لم أقل كل شيء، ولم أكتب كل شيء، وبأنني في حاجة دائمة ومتجددة، لأن أعيد اكتشاف ذاتي في الاحتفالية، واكتشاف هذه الاحتفالية في أسئلة العارفين، وهذا ما يجعلني أمام كل من يحاورني في مقام التلميذ الذي يحسن الإنصات، وليس في مقام المعلم والأستاذ، وبهذا يحق لي ان اقول بانني بفضل كل الحوارات الجادة والجديدة تجددت، وانني بفضل كثير من الأسئلة المستفزة قد أعدت النظر في كثير من البدايات ومن المسلمات القديمة، وهكذا كان شعوري في تلك الليلة الشهرزادية، والتي قد تساوي الف ليلة وليلة مما تعدون، لقد أعدت اكتشاف نفسي واكتشاف افكاري، ووجدتني اقترب أكثر من ذلك الفقه الذي يمكن أن نسميه فقه الاحتفالية وفي تلك الليلة، وبفضل محاورتي، وبفضل الأصدقاء المسرحيين، من عيار بوسرحان الزيتوني والسي محمد بلمقدم وحسن هموش والصقلي، وجدت نفسي، ومن حيث لا أدري بتحيين وتثوير وتجديد الأفكار (القديمة) وكل ذلك، من أجل ألا يلحق القدم هذه الأفكار، وأن تظل جديدة دائما، وأن تبقى محافظة على حياتها وحيويتها يقول الاحتفالي هذه الأيام تمضي خلف بعضها بسرعة جنونية، وهي تمشي إلى الأمام دائما، وتمشي نحو الأعلى ونحو الأبعد ونحو الأصعب، ونحو الغامض والملتبس والمجهول، وقد يظن البعض أنها واقفة في مكان واحد، وهي متحركة حركة خفية، وهي في سرعتها لا يراها إلا المجانين، ولا يسايرها و لا يدركها إلا العمالقة والعباقرة من بني الناس، وهي في سحرها لا يمكن أن يقرأ ألغازها ورموزها وطلاسمها إلا السحرة من جن الإنس، ولا يمكن أن يحسها ويتذوقها، وأن يعرف قريبها وبعيدها وحاضرها وغائبها وكائنها وممكنها إلا العرافون والمنجمون والشعراء والصوفيون والمخاطرون والمتنبئون، وقد تمضي صور هذه الأيام، إلى حيث لا أحد يدري، وتمضي مشاهدها وحالاتها ومقاماتها وظلالها، ولكن روحها الخفي فيها، هل يمضي؟ وكيف يمضي؟
وإلى أين يمكن ان يمضي؟
وبهذا يكون من الضروري أن أقول اليوم، تماما كما قلت بالأمس، بأن علينا ان نستعيد (أميتنا) الجميلة والنبيلة، وأن نعرف بأننا لا نعرف إلا القليل من المعرفة، وأن نحرص على أن نبدأ في كل لحظة من نقطة الصفر في المعرفة، وأن نقبض على تلك اللحظة السحرية المؤسسة للمعرفة، وأن نستعيد اندهاشنا الذي سرقته منا العادة، وأن نستعيد فرحتنا وبهجتنا باكتشاف هذا العالم، أو بإعادة اكتشافه مع إشراقة كل يوم جديد، ومع إطلالة كل عهد جديد، وهذا هو اوحت لي به تلك الجلسة الليلية في مدينة مراكش. ولهذا يكون من الضروري أن لا نتوقف لحظة عن مراجعة ذواتنا، وأن نتحداها بالأسئلة الأخرى، المختلفة والمخالفة والمستفزة
يتبع