اللغة العربية نحو أفق جديد
نواصل في ألوان نشر المقالات التي تتناول اللغة العربية والعالم يحتفي باليوم العالمي للغتنا البهية، فيما يلي دراسة مركزة من الدكتورة: سعيدة أملاّح
اللغة العربية لغة المستقبل
أود الإشارة في البداية إلى أنني لا أطمح إلى تقديم إجابات عن الأشكاليات الرئيسية ، بل لعلني لا أقدم إجابات أصلا فطموحي مسكون بهاجس نقض الأجوبة لأبنائها، هاجس لفض الدوائر المغلقة لا لتكوينها ، فلربما الإجابات الجاهزة وانغلاقها على ذاتها هو الذي أفضى إلى هذا الوضع غير الفاعل والذي ماهو إلا برهان في أحد وجوهه على ماتنطوي عليه هذه الدوائر
فأغلب الأعمال الجديدة لا تفلح في المجال اللغوي سوى أن تضيف رصيدا كميا ، ليضل التراكم الكمي كميا دون تحول كيفي في الوعي ، وحيث يشير هذا الوضع فيأخذ أبعاده إلى الجمود الفكري الذي أضحى يسيطر على الحياة اللغوية العربية ، فإنه يضيء افتقارها إلى التجديد وإعادة البناء
فالهم الأساس هو إثارة الأسئلة وتفجير الإشكالات ، هم إعادة النظر وإعادة الاعتبار إلى التساؤل والمحاورة وكسر عادة التلقي التي ترسخ السلبية العقلية على حد تعبير الدكتور رفعت سلام في رؤيته النقدية للتراث العربي
لقد كتب ” جون فين” قصة خيالية بناها على سياح يخترقون طبقات الكرة الأرضية، حتى يصلوا أو يقتربوا من وسطها ، ولما أرادوا العودة إلى ظاهر الأرض بدا لهم أن لابد وأن يتركوا هناك أثرا يدل على مبلغ رحلتهم، فنقشوا على الصخر كتابة باللغة العربية، ولما سئل ” جون فين” عن وجه اختياره للغة العربية ، قال : (إنها لغة المستقبل ، ولاشك أنه يموت غيرها وتبقى حتى يرفع القرآن نفسه )
وفي الإشادة باللغة العربية ، ودوام حياتها يقول ” صادق مصطفى الرافعي” رحمه الله أن اللغة العربية (بنيت على أصل سحري يجعل شبابها خالدا عليها فلاتنهزم ولا تموت لأنها أعدت من الأزل فلكا دائرا للنيًرين الارضيين العظيمين ، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن تَم كانت فيها قوة عجيبة الاستهواء كأنها أَخْذة السحر)
:وهذا ما جعل أغلب المهتمين حاليا يتسألون
ألا يفتح هذا البعد الرمزي للغة العربية والحضاري والديني آفاقا سياسية واقتصادية على اعتبار أن هذه الوظائف ذات أهمية كبرى ، بل قد تفوق الوظائف الثقافية والأدبية والفنية ؟
أليس تطور الأمم رهين بتطور مواردها البشرية ، وهو تطور مشروط بالاستثمار في الإنسان، خاصة في معرفته وكفاياته التقنية التي تحملها لغة علمية تكنولوجية تحول إلى خبرة ومنتوجات وخدمات وأعمال ؟
وقد أشار بعض الباحثين إلى أن الفشل الاقتصادي قد يجد مصدره في كون القوة العاملة لا تملك سوى قدرات علمية بسيطة لأنها لا تتكلم لغة المعرفة ، والعربية لم تطوع كعلم وتكنولوجيا وتواصل للقيام بوظائف جديدة في التعليم ولم تهيء لتكون سبقا ضرورة قائمة . وتأسيسا على ثنائية الوضع والمتن يرى السوسولسانيون أن تغيير الوضع يستلزم تغيير المتن وادوات اللغة والعكس صحيح
فهل نستطيع إعداد وخلق لغة تستطيع أن تصبح لغة الأتصال والعلم والتكنولوجيا والمعلومات وتبتعد عن لغة السجالات؟
وبما أن اللغة العربية لغة ذات إشعاع تواصلي واسع ، فهل علينا النظر في اختلالات لغة التعليم وتعليم اللغة ، أم في وضع اللغة العربية في الحياة العامة ؟ ام في المؤسسات التي عليها التحفيز المعنوي والمادي للنظر في اللغة العربية لتكون دوما فاعلة ولتحد من الاختلالات اللغوية الأساسية بصفة دائمة وتسعى إلى الضبط والتنسيق والتوجيه واليقظة والتعاون ؟
ومما لاشك فيه أن اللغة العربية بَالِغَةٌ من حسن البيان ماليس بعده مُرتقى ، فلا يقف عالم أو خطيب أو شاعر إلا وجد غزارة مادتها وأحكام أساليبها مايمكنه من إبراز الحقائق أو المتخيلات في برودة ضَافية مُحَبَّرة ، إلا أن المعاني بدأت تتجاوزها ويتباطىء سيرها مع تطورات العلوم والمدنية ، وبدأت تقف دون هذه الحاجات صامتة . وهذا الوضع ليس لقلة مفرداتها أو ضيق دائرة الحصر فلا يسع الواضع سوى أن يضع ألفاظا لجانب كبير من المعاني وان يتوسل للدلالة على بقيتها بمقاييس بقدرها ، والكُلم التي تصاغ على مثال هذه المقاييس معدودة في جملة ما هو عربي فصيح
ولولا هذه المقاييس لضاقت اللغة على ألفاظها وعلى الناطق بها ، ليقع في نقيصة العربية .وفي ظل هذا يصبح القياس في صيغ الكَلِم واشتقاقها حاجة ملحة حيث لا تُغْني عنه المترادفات لما لها عند اللغويبن من بلاغة قول ورصانة تأليف كَلِم وإقامة وزن وتمكين للقافية، حيث لا تسد وجوها من الحاجة غير التي يسدها القياس في مجال نظم الكلام وما يعرض للكلم من تقديم وتأخير واتصال وانفصال وإعراب وبناء وحذف وذكر
وقد قال “ ابن جني ” في الخصائص : ( اللغات على اختلافنا كلها حجة ، والناطق على قياس لغة من اللغات مصيب غير مخطىء) ، وقد قال ” أبو حيان ” – كذلك – في شرح التسهيل ( كل ما كان لغة لقبيلة صح القياس عليه )
وفي هذا السياق اعتبر بعض الباحثين كالاستاذ ” حسن حنفي ” في كتابه: ” التراث والتجديد” ، على أن التجديد اللغوي ليس تغييرا لمضمون الفكر ، بل هو تجديد لصورته، وهي اللغة ، على أن اللغة لا تمس مضمون الفكر ، وأن اللفظ ليس إلا حاملا للمعنى أو موصلات له ، مع تغيرات شكلية تفرضها ضرورة التوصيل ، تلك الضرورة التي لا تَنْبُع من احتياجات الواقع العربي وشروطه وآفاقه
والفصل بين اللفظ والمعنى عودة إلى الثنائيات المتقابلة التي تكشفها ثنائية الروح والجسد الشهيرة ، والتي تم تجاوزها معرفيا في التطور الفكري عموما ، مع أنها تَشي بعدم الوعي بطبيعة اللغة وقوانينها ونشأتها وضوابطها لأن العلاقة بين الرموز والمعاني على الرغم من أنها عشوائية، فهي علاقة اصطلاحية اتفاقية ثابتة بالنسبة إلى اللغة الواحدة والمجتمع الواحد ، في المرحلة التاريخية الواحدة . ويرى ” نايف جورمان ” في كتابه أضواء على الدراسات اللغوية المعاصرة المنشور ضمن سلسلة عالم المعرفة سنة 1978 أن اللفظ لا يعبر عن أي معنى يخرج عن حدوده الاصطلاحية إلى حدود ألفاظ أخرى، حتى ولو كانت مترادفة ، حيث لا توجد في اللغة أية مترادفات كاملة فقد تتقارب في المعنى أو تتشابه ، ولكن لا تمتلك جميع مقومات عناصر المعنى الأولية التي تحملها كلمات أخرى . وبذلك يصبح كل تغيير لاحق باللفظ ممتد إلى المعنى حيث الألفاظ تنطوي على معاني خاصة تنتمي إلى سياق تاريخي مغاير ، مما يتعذر معه إخلاء اللفظ من معانيه الحاضرة إلى معاني سابقة
واللغة العربية كباقي اللغات في ضوابطها لا تخضع للإرادة الفردية ولأنها رهن احتياجات المجتمع وتطوره الذي ينعكس تطوره المادي على تطور أبنيته الثقافية عامة واللغوية خاصة . فهي تتجدد دون أن يجددها أحد حيث ارتبطت ارتباطا عضويا وموضوعيا بالفكر العربي الذي يرتكز على اعتبارين هما
أولا : جذرية الارتباط باعتبار اللغة أداة للفكر وصياغته وتحققه
ثانيا : أنها تخزن سياقا تاريخيا واجتماعيا اكثر تكثيفا ربما من أية أداة تعبيرية أخرى
ومن تمة فلغتنا العربية بأرقي إمكاناتها وقواعدها المتميزة وضوابطها ومعاييرها التي تبنتها المجموعة اللسانية بهدف التوحد النسبي والتواصل ، تطمح ضمن هذه الملازمة على ألا تقتصر على ضبط المعايير والرموز ونبذ الخلق والتطور والتنويع ، وكما أشار إلى ذلك الدكتور: “عبد القادر الفاسي الفهري” في كتابه: “اللغة والبيئة” ، فإن اللغة العربية تمثل الهوية وهي لغة التعليم والتربية ، لغة الفرص المعرفية ، لذا ينبغي أن تكون مبسطة وبيداغوجية، خدمة لمتعلميها ، لغة يسهل بها التواصل وفي نفس الوقت دقيقة وعلمية
هذه الشروط تجعل التغيير مخالفا للمعيارية ، لأن هذه الأخيرة مبنية على الوهم ، وهو أن هناك لغة منسجمة تمام الانسجام وتخضع لقواعد صارمة وسكونية وتحدد علائق بين العبارات ، ومعانيها غير قابلة للتغيير ، وهذه النظرة المتحجرة لنظام اللغة ليست موضوعية ، إنها وليدة اختيارات مجموعة من المتشددين الذين ينشدون سلطة تصحيحية وتخليقية للتمكن من تطهير اللغة وإصدار تعليمات لمتكلميها ليطبقوها . فاللغة حياة ومسكن للكائن لا يمكن أن تختزل ، فالعلائق بين العبارات والمعاني ليست محصورة سلفا بل هي مشتقة بنائية ، واللغوي بمفرده لا يمكن أن يتحول إلى سلطة لغوية فرضية أو إلى رقيب لغوي . وما التشريع اللغوي إلا ترجمة لقرار جماعي يأخذ بعين الاعتبار حاجات المجتمع وقد يكون باستطاعته أن يقدم حلولا أكثر نجاعة لمشاكل اللغة العربية ووظائفها، وقد يكون علينا ألا نخشى تفتت ثوابت هويتنا واندثار الخصوصيات و المتحولات لأن التصنيفات المتحجرة وحدها تتلف الحركية والحياة
الدكتورة: سعيدة أملاّح