!لا خير في بيع السكر
-1- السكر النبات يدل على الإخلاص في القول والعمل
يشكل السكر إحدى أهم المواد الحيوية في حياة المغاربة. قد يستغني المغربي عن جميع أنواع الأطعمة والمشروبات ماعدا الدقيق والسكر. ومتى كانا متوفرين في البيت، عم الخير والبركة. إنهما المكونان الأساسيان في حياته اليومية. يقول أحد الأمثلة المغربية: إذا كان عند الدقيق والسكر في البيت، فلديك كل شيء. وكما يستهلك الدقيق بشكل كبير، فالأمر نفسه بالنسبة للسكر، خصوصا في البوادي، حيث الاستهلاك يكون أكبر. بالرجوع إلى أربعينيات القرن الماضي، أيام عام لبون، لم يكن السواد الأعظم من المغاربة بحاجة سوى إلى الدقيق والسكر ليظلوا على قيد الحياة، وما عدا ذلك لا يعدو كونه كماليات. الدقيق للطعام والسكر للشاي. لكن لماذا لزم حضور السكر في حياة المغاربة؟ هل لمجرد مذاقه الحلو، أم لنزعة المغاربة في استهلاكه، أم لدلالاته في حياتهم؟ وإذا كان السكر عند المغاربة طبيعته الغذائية، في الإقبال عليه بكثرة، مرتبطا بما هو ثقافي. فإن هذا الجانب- الثقافي- هو الضامن الحقيقي لإنتاجه واستهلاك بالنظر إلى ما يختزنه من إيحاءات في العادات والتقاليد. من ثمة يصير الثقافي أشد أهمية من العضوي كما سنرى
تختلف أحجام مادة السكر المستهلك ما بين الحجم التقليدي الذي اعتاد عليه المغاربة، والمتمثل في شكل قالب يصل وزنه إلى كيلوغرامين، وهو شكل ظل مقاوما للزمن، وبين العلب الحديثة، علب من وزن كيلو تحتوي على قطع مستطيلة تستهلك في الشاي، وقطع مربعة صغيرة تستهلك في القهوة. ولعل هذا الحضور لصورة القالب ظل مترسخا في المتخيل الجمعي من حيث أن هذا الشكل للقالب ارتبط دائما بمادة السكر وبقي ملازما لها. إذ لا يمكن استحضار السكر بدون تخيل شكله. ولئن تم صنع علب من الورق المقوى تحتوي على بضعة قوالب بعد أن تراجع الكيس المصنوع من الخيش الذي يحتوي على ثلاثين أو إثنين وثلاثين قالبا، فلا يزال حضور القالب- دائري الشكل، قاعدته كبيرة في قطرها، وقمته صغيرة نسبيا ومقوسة- و لا يزال يستهلك في البوادي والقرى
تعود بداية تاريخ إنتاج السكر إلى العهد الموحدي والعهد المرابطي، ولم يزدهر إنتاجه إلا في عهد المنصور الذهبي السعدي، حيث تم تصديره إلى أوروبا. وسمي بالقالب لأنه يحيل على القالب الذي يصاغ فيه، وهو الشكل الذي صيغ فيه منذ تلك الحقبة وإلى الآن. في سنة 1929 أنشأت الشركة الجديدة لمعامل تكرير السكر سان لوي دو مارساي، وكان يصل حجم إنتاجها آنذاك 100 طن من السكر يوميا في شكل قالب. وفي سنة 1967، أي بعد الاستقلال، استحوذت الدولة المغربية على 50بالمائة من رأسمال الشركة وتحول اسم الشركة من كوسومار إلى كوسمار. واتسعت مزارع الشمندر، خصوصا في مناطق بني ملال. ولعل لعدد الأطنان المنتجة دلالة بالغة على حجم الاستهلاك الوطني لهذه المادة في بداية القرن الماضي. حاليا يصل إلى أضعاف هذا الحجم
ونظرا لإقبال المغاربة على استهلاكه خصوصا في البوادي والقرى فقد ارتفع معدل إنتاج الشمندر السكري في بعض الجهات من المغرب، من 68,4 طن في الهكتار إلى 73 طن في الهكتار لموسم 2015. كما أن معدل نسبة الحلاوة بدوره عرف ارتفاعا من 16,5 بالمائة (كمعدل خمس مواسم فلاحية فارطة) إلى 18 في المئة كمعدل محصل عليه خلال ذلك الموسم الفلاحي، أي بزيادة بلغت نسبتها 9 في المئة. و من بين هذه النتائج المشجعة المحصل عليها خلال الموسم الفلاحي المشار إليه، إنتاج حوالي مليون و400 ألف طن من الشمندر بقيمة إنتاج تقدر ب 672 مليون درهم مقابل مليون و192 ألف طن بقيمة إنتاج تقدر ب 580 مليون درهم خلال الموسم الذي سبقه. كما ارتفع الإنتاج إلى185 ألف طن مقابل 170 ألف طن خلال الموسم السابق، أي بنسبة زيادة بلغت نسبتها 9 في المئة، فيما سجلت قيمة الإنتاج نموا، إذ انتقلت إلى 35 ألف درهم للهكتار
وقد عرفت زراعة الشمندر السكري إقبالا متزايدا من طرف الفلاحين في بداية الموسم الفلاحي2014-2015، حيث زاد طلب وإقبال الفلاحين على هذه الزراعة، مما أدى إلى ارتفاع المساحة المزروعة من 17 ألف هكتار إلى 19 ألف و200 هكتار خلال الموسم التالية، أي بزيادة 13 في المئة. وقد يكون معدل الإنتاج تزايد في السنوات الأخيرة بفعل النمو الديمغرافي
على أن ما يهم في هذه الدراسة ليس تاريخ السكر وإنما الدلالات الثاوية خلف هذه المادة الحيوية من جهة، وما يضمره شكل القالب من دلالات. إذ أن الطبيعي يلازمه دائما الثقافي. في كل الجماعات البدائية أو المتحضرة يلعب القانون والأخلاق، والعادة، وأحيانا الدين دورا أساسيا إلى جانب ما هو طبيعي، عضوي. وقد يكون أحيانا أقوى للمحافظة على تماسك الجماعات. فبعكس الحيوان الذي تقوده غرائزه، يشكل الثقافي أبرز جانب في السيرورة البشرية. والمجتمع يتدخل ويعزز من خلال قوانينها لصوت القوي للطبيعة. على هذا النحو تخضع الرابطة الطبيعية لظروف اجتماعية ليست أقل شأنا من الظروف الفيزيولوجية. وهي ظروف لا يمكن وصفها دون الأخذ في الاعتبار التأثير الذي تمارسه التقاليد وعادات المجتمع. أو في مناسبات أخرى قد لا تستدعي بالضرورة ذلك
ولما كانت لكل مجتمع نماذجه الخاصة من القيم والأخلاق والعادات التي تميزه عن باقي المجتمعات الأخرى، فإن هذا هو ما يجعل كل ثقافة تتسم بالفرادة والتميز. إذ أن خصوصيات كل مجتمع تجد مصدرها في الظروف المحيطة والمؤثرة في أفراده. لكن لماذا ارتبط هذا الشكل بالسكر فقط داخل الثقافة المغربية؟ لعل لارتباط الشكل العمودي لمادة السكر دلالة أقوى من المادة نفسها. و بما أن لكل مجتمع في كل عصر شكل من أشكال الدين يتناسب مع طبيعته و ظروفه، و ضروراته، فإن فكرته عن مفهوم الخالق قد خضعت لطبيعته و تصوراته، و طقوسه و ممارساته العقائدية
هذا المفهوم للخالق وجد تجسيده في العديد من الديانات القديمة في شكل أعمدة مختلفة الأحجام أو في شكل أبراج. وقالب السكر كما يظهر من شكله لا يشذ عن هذا التصور، أي أنه مصاغ على شكل عمود، رغم أن المادة المصنوع منها هي السكر. لذلك فالعلاقة القائمة بينهما تضمر دلالة أعمق من الدلالة الدينية، مع العلم أن المغاربة قبل اعتناقهم الإسلام قد مروا من ديانات أخرى لعل أهمها هي الوثنية بما هي عبادة قديمة جدا. على أن ما يهم في هذا الصدد الشكل الذي صيغ فيه. قد نجازف بالقول إن هذا الشكل/ القالب يحيل على الفترة الوثنية حيث إن الوثني لم يكن يدرك المفاهيم المجردة غير المشخصة للذات الإلهية، لكنه صاغها على شكل عمود خشبي. غير أن دلالته الأصلية تنوسيت مع الزمن، فيما تم الاحتفاظ بالشكل. لكن يجب التذكير بأن الدين في أي صورة قد يظهر بها يمثل دوما أرقى وأصفى الأفكار البشرية، ومن ثمة فلا يمكن إقحام أي شيء في عباداته قد تبدو في رأيه أشياء نجسة أو فاحشة. ألا يحيل الشكل العمودي لقالب السكر على الفالوس؟
ترجع عبادة القضيب، بما هو رمز مقدس للخالق إلى عصور سحيقة، حيث كان من أبرز التصاوير أولا صورته الحقيقية ثم بعد ذلك تم الاحتفاظ بالشكل على شكل عمود. و قد رمز القضيب للإله باخوس، كما لعب دورا بارزا في العديد من المهرجانات الدينية. يقول كليفورد هوارد: في الوقت الذي وجدت فيه تماثيل بريابوس (Priapus ) و أوثان الفالوس ( أو القضيب) بوفرة عظيمة في خرائب العالم القديم، و بينما كانت و لا شك قد استعملت على نطاق واسع في جميع الأوقات، لا يمكن مقارنتها أبدا بعدد وأهمية الأشكال المعدلة و التقليدية لرمز الخالق الذي نجده متناثرا في جميع أنحاء العالم، بأعداد وتشكيلات لانهائية، محفوظة اليوم دون علمنا في هندستنا المعمارية، و رموزنا و عاداتناو (ص، 41).و إذا كان من بين أبرز الأشكال هو العمود، فإن ذلك يعود إلى ما يرمز إليه العضو الذكوري كقوة مبدعة و مولدة. في التوراة يعتبر العمود شعارا مقدسا للخالق. كما أن هناك أشكالا معدلة منه ولها نفس الأهمية. وجلها من الحجارة
يتبع