المرحلة الحالية ليست مرحلة المسار الديمقراطي
المدرسة المغربية للعلوم الاجتماعية لازالت في طور البناء، أسسها مسؤولون لهم أسماء لامعة في الساحة الثقافية والأكاديمية
يسعدنا في فضاء حوارات “ألوان” أن نستضيف شخصية فكرية مغربية من العيار الثقيل ،وفاعلا مؤثرا في الحقل السياسي والثقافي والاجتماعي، يعتبر من أبرز الباحثين الاكاديميين، تولى مسؤوليات عدة ، نستحضر منها على سبيل المثال لا الحصر: اشتغل وزيرا للتربية الوطنية ، وأستاذا للعلوم السياسية بكلية الحقوق بالرباط ، وعميدا سابقا لكلية الحقوق بالمحمدية ، ورئيسا للجمعية المغربية للعلوم السياسية ، وعضوا للجنة الاستشارية لمراجعة الدستور المغربي، وعضوا فاعلا في العديد من الجمعيات الدولية ، والهيئات العلمية المغربية والعربية . وهو الرئيس المؤسس والمدير التنفيذي لمركز الدراسات والأبحاث في العلوم الاجتماعية. بالإضافة إلى نشره العديد من الدراسات والأبحاث المنشورة داخل وخارج المغرب، وقد سبق وحصل في 2012 على جائزة المغرب للكتاب والعلوم الاجتماعية، كما مُنِحَ سنة 2017 جائزة المجتمع المدني العربي
:باختصار شديد، إنه المفكر والباحث الأكاديمي “الأستاذ عبد الله ساعف” الذي يسعدنا ويشرفنا استضافته لإجراء الحوار التالي
أتحدث مع الأستاذ والباحث الأكاديمي: لن أعرج على مسارك الحكومي كوزير للتربية الوطنية . كيف كان إحساسك بعيدا عن البحث الأكاديمي خلال تلك الفترة؟
وانا عضو في حكومة التناوب ، لم أبتعد كثيرا عن مجال البحث ، وكان من الضروري أن أقوم بالعديد من الأبحاث ، في المجال الذي كنت أتحمل فيه المسؤولية ، ومن جهة ثانية كنت أتردد على الجامعة لإعطاء الدروس ، وتأطير الأبحاث التي كنت أشرف عليها ، رسائلا وأطروحات . وكنت المدير ورئيس التحرير لمجلس ” أبحاث للعلوم الاجتماعية ” . وفي نهاية ولاية حكومة التناوب ، كنت – كذلك – مسؤولا عن مجلة ” دفاتر سياسية ” وهي بالأساس تحليلية تُغَلب جانب الدراسات والأبحاث، أكثر من المواد ذات الطبيعة الإخبارية، وبذلك لم أكن بعيدا عن مجال البحث الأكاديمي
لقد كنت حريصا على التوفيق ما بين مهامي الحكومية ورسالتي التدريسية، وقد كان علي أن أدرس ست ساعات خلال الأسبوع – كما تنص على ذلك التنظيمات الجامعية – بحيث كنت مقيدا بهذا الالتزام ، أحاول الحضور باستمرار في الوقت المناسب ، وعندما يتعذر علي ذلك أو يستحيل ، فإني كنت أخبر الطلبة بغيابي المحتمل أو المؤكد ، وأستدرك الأمر عند الحاجة طبعا
كما علمت من بعض اصدقائك الاساتذة، أنك لم تنقطع عن البحث و الكتابة. كيف تمكنت من التوفيق بين مسؤوليتك الحكومية و مسؤوليتك الأكاديمية؟
وفي نهاية ولاية حكومة التناوب ، كنت مسؤولا عن جريدة ” دفاتر سياسية ” ، وبالمناسبة هي جريدة تحليلية ، يغلب عليها طابع الدراسات والأبحاث، أكثر من اي طبيعة اخبارية . وبذلك فلم أكن بعيدا عن مجال البحث الأكاديمي، فأنا استاذ باحث وهذه الوضعية هي أهم حاجة في حياتي ومسيرتي الشخصية ، لأني منذ البداية اخترت التدريس والبحث بالدرجة الأولى ، أما العمل الحكومي فقد جاء في ظروف معينة ، – لأني لم أكن ابحث عنه – وأمام التقاء ذلك مع قناعاتي فقد حاولت التوفيق بين هاذين العالمين . ومن حسن حظي أنى كنت قد كتبت عام 1992 -على ما اظن – كتاب ” المعرفة والسياسة ” ونشر هذا الكتاب ضمن سلسلة كان يشرف عليها الاستاذ عبد الكبير الخطيبي، وحسمت بذلك في الموضوع . كنت يومها مناضلا سياسيا في (منظمة العمل الديمقراطي الشعبي) وهو ما استوجب على التوفيق بين العمل السياسي – بهذه الصفة – من جهة ، والاشتغال في المجالات التي أهتم بها أكاديميا ، مع الحرص على قاعدة البحث والتدريس طبعا . وهنا تحضرني فكرة ” الانسان حيوان سياسي ” وهي من مقولات أرسطو وابن خلدون وغيرهما، وعليه فإن البعد السياسي يبقى مكونا محوريا في شخصية الإنسان
قليلون هم الأساتذة الذين سلموا من كماشة البيروقراطية عندما أسندت إليهم مهام حكومية. ويسعدني أن أقول إنك واحد منهم، ما رأيك في هذا الاستنتاج؟
كنت دائما حريصا على أن أكون منسجما مع ذاتي ، وأن أواجه التناقضات التي تعترضني وأن أجد لها حلا ، فعندما يكون لدينا خط رابط ، فإن الانسجام يأتي بشكل طبيعي – وكما كان يقول أستاذي للفلسفة بالتعليم الثانوي ، ينبغي أن تكون لي إشكالية في حياتي – ففي حياتي الحزبية، وباعتباري أستاذا جامعيا ، حاولت دائما أن أكون منسجما مع ذاتي ومع قيمي ، و أن أبقى وفيا للمتطلبات الأساس التي اشتغلنا عليها ، وكانت في قلب حياتنا دائما ، وإلى حدود اليوم لازال هذا الأمر ساريا
من بين من سلموا من الكماشة ، وقد كانت لك علاقة مباشرة معهم ، اذكر عبد الباقي الهرماس التونسي و غسان سلامة اللبناني الخ. هل كان قدرا ان تحتكوا جميعكم مع دواسة البيروقراطية لتدركوا ان المدرسين و الاساتذة و الأكاديميين غير مؤهلين نفسيا للتخلي احيانا عن مبادئهم من اجل قرارات مؤلمة و لكنها ضرورية اثناء مزاولتهم لمهامهم؟
نعم كنت أعرف عبد الباقي الهرماس وغسان سلامة ، وفي نفس الفترة تقريبا كنا نتحمل مسؤولياتنا في مواقع مختلفة ، عبد الباقي في الحكومة التونسية آنذاك ، وغسان في الحكومة اللبنانية ، وانا – طبعا – في الحكومة المغربية ، وانا اعرفهم جيدا ، فقد جمعتنا ندوات ومناظرات في مختلف البلدان ، سواء بالمنطقة العربية أو خارجها . وفي الحقيقة فإن ما يوحي به السؤال ، أن المثقفين – بذلك – يكتشفون بأن عالم السياسة والحركات السياسية، والمناورة والخبث والبيروقراطية ، كما يدركون بأن عالم السياسة معروف ، ويمكن الحركة فيه بدون اي تغيير لمواقفنا أو التخلي عن قيمنا
فتلك عقيدتي وهذه قناعتي. ومرة أخرى أعود للحديث عن فكرة الخط الرابط والانسجام، فعندما تكون لنا إشكالية ويكون لدينا تماسك، فلاخوف علينا من الخروج عن الطريق
يعتبركم البعض من رواد ما يمكن تسميتها المدرسة المغربية للعلوم الاجتماعية ؟ هل هناك فعلا مدرسة مغربية للعلوم الاجتماعية و السياسية المغربية؟ كيف تتموقعون بين بول باسكون، المهدي المنجرة مثلا؟ سؤالي هذا للاستئناس فقط لتنوير القراء
أعتبر أن هناك مدرسة مغربية للعلوم الاجتماعية ، مازالت في طور البناء ولم تكتمل بعد عملية البناء ، فلدينا أسماء لامعة ، هم نجوم في عالم العلوم الاجتماعية ، ومؤسسون فرضوا أنفسهم في الساحة الثقافية والاكاديمية ، وامتد اشعاعهم ليس فقط في المنطقة بل في العالم ، اسماء كثيرة كالعروي ، الجابري ، فاطمة المرنيسي وآخرين، واللائحة جد مفتوحة ، الأمر الذي يبين أن هناك مدرسة مغربية في العلوم الاجتماعية ، تشكل جزء كبير منها ، ولازالت تبنى وتكتمل ، وقد أنجزت هذه المدرسة الكثير إلى حد الآن، وانا اعتبر أن افاقها لازالت مفتوحة ولم تنته بعد ، ويمكن القول بأن حتى من توفوا منهم فقد تركوا أشياء عظيمة ، مثل الركام المعرفي الذي تركه الجابري والأستاذة المرنيسي ، وكذلك كتابات عبد الله العروي ، وبول باسكون ، واخرون هم كثر، ولن استطيع ذكر جميع من ساهم في بناء هذه المدرسة
أعرف موقفكم مما أطلق عليه الربيع العربي. ما رأيكم في التحول الديموقراطي في البلدان العربية؟ و هل ستستمر النخب في استنساخ تجارب الآخرين دون جدوى؟
ما وقع خلال الربيع العربي كان له كبير الأثر على مجريات الحياة ، وخلال كل ذلك ، برزت لحظات إعادة البناء المؤسساتي والدستوري والسياسي والاجتماعي ، وكل تلك العمليات التي جاءت في المنطقة وفي مواقع مختلفة ،أعتقد أن الربيع العربي أعطى الشيء الكثير ، لدرجة اني لا اشاطر من ينتقده ويعتبره بأنه مجرد مجموعة أحداث وافكار ، يجب أن ننساها اليوم . فأنا أنصت كثيرا لبعض المثقفين الذين يتحدثون عن الربيع العربي ، وكأنه نوع من المؤامرة ، أو أنه مرحلة كانت سلبية للمنطقة . نعم كانت لها حوادث سلبية ، وهذا لا ينفي جوانبها الايجابية ، وقد تبين لنا أن ما يسمى باليسار الديمقراطي لازالت تعترضه حواجز وصعوبات كثيرة ومتعددة . وبأن المجتمعات العربية غير مستعدة لتجاوزها ، وأنه بعد النكسات التي نشاهدها ، فهناك بلدان لم تعرف الربيع العربي وهناك ما يسمى بالثورات المضادة ، بل نستطيع أن نقول بأن هناك عودة للاستبداد بثياب جديدة شملت كثيرا من الأماكن : كتونس ومصر واليمن ….وغيرهم ، فظهرت الحروب الأهلية ، وغطت الخسارات على المكاسب ، فالخلخلة التي وقعت في بعض المناطق ، ساهمت في خلق المشاكل ،أكثر مما أعطت الحلول المرجوة منها .ولهاذا فالمرحلة الحالية ليست هي مرحلة المسار الديمقراطي ، فهي تتسم بقوة الدولة ومركزتيها وعودتها بشكل أقوى ، الأمر الذي ساهم في اتساع الهوية بين الشعوب والحكام ، وهو ما يعني أن حكم الدولة أصبح أقوى من كل الفاعلين الموجودين في هذه المجتمعات ، وأقوى من الاحزاب والنقابات ، ومن المجتمعات المدنية ، ومن الحركات الاجتماعية ….الخ
وبذلك نقول بأن هذه اللحظة ليست هي لحظة الانتقال الديمقراطي ، وقد زاد ( وباء كوفيد) من صعوبة الأمر
برأيي أن خاتمة الربيع العربي ، بعد كل ما جرى في كل قطر على حدة ، جاء (كوفيد) لكي يقودنا إلى خلاصة اساسية واحدة ، وهي أن قوة الدولة ومشروعيتها أضعف الفاعلين الآخرين
ما رأيكم في فشل اليسار و الاسلام السياسي في اقناع الشعوب بضرورة التغيير؟ و هل فشلت النخب في استعاب المرحلة منذ اواخر الستينيات ؟
إن جيلنا ومن أتى بعدنا إلى حدود اليوم ، جميعنا عشنا تجارب اتسمت بالفشل ، بالانهيار ، بخيبة الأمل، ولم ننجح . شاهدنا كوارث كبيرة خلال حياتنا السياسية ، بدءا من هزيمة 1967 ، ومرورا بشتنبر الأسود ووصولا إلى اجتياح لبنان ، وحروب العراق، وما أتى في ظل الربيع العربي ، وما وقع في كل من سوريا وليبيا واليمن …. وغيرهم ، كلها هزائم بالنسبة لجيلنا ، وجعلنا لم ننجح في الكثير من المحطات . وإذا كانت لنا كيسار إخفاقات كثيرة ، وهو نفس الأمر لمواطنينا الإسلاميين هنا وهناك في كل المنطقة العربية ، حيث نجد نفس الهزائم ، نفس خيبات الأمل ، فماذا يعني كل هذا ؟
إن ما عشناه كيسار وما عاشه الاسلاميون ، كان ضروريا الانخراط فيه ، لأنه التزام فارض لنفسه . وشخصيا لازلت أعتبر نفسي في اليسار بحيث أنه كان علينا أن نفعل ما فعلنا ، وأن ننتمي إلى ما انتمينا اليه ، فالنجاح أو الفشل ، يبقى نتيجة الطريقة أو الطرائق المعتمدة ، ويبقى الأمل كما يبقى الاستثمار في المستقبل ، فلعل وعسى أن من سيأتي بعدنا قد يستطيع أن ينجح ، ويحقق ما لم نستطع أن نحققه – نحن – وننجح فيه
كيف يتمكن مفكر مثلكم ان يتعامل مع الثورة المعلوماتية و الشبكات العنكبوتية التي تفرخ ثقافة مبتذلة و تعمق التضليل والغباء الفكري؟
ثورة الثقافة الرقمية جاءت بكل عناصرها ومكوناتها ، وكان من الصعب الالتفاف عليها ، الأمر الذي جعلنا ننخرط ونتعلم أشياء كثيرة ، ولازالت أشياء كثيرة لانعرف كيف نتعامل معها ، ونحن دوما نحاول التعلم . فالثقافة الرقمية كظاهرة اجتماعية خلقت نخبا جديدة ، والفعل السياسي والاجتماعي المختلف ، أعطى حجما لم نكن نتصوره للعديد من الأعمال السياسية ، وبالتالي فمن الضروري أن نستغل كل الفرص المتاحة لنا كي نتعلم أكثر وننخرط ونندمج في هذا العالم الرقمي المثير
هناك مشكل في النشر والتوزيع ، ويبقى مشكل التوزيع أكبر بكثير من مشكل النشر ،فالناشرون المحترفون والفنانون الذين يبدعون في مهنتهم من نشر وطباعة وإخراج للكتاب في صيغ مقبولة وجذابة ، ومع ذلك لايزال أمامنا الكثير مما يجب القيام به وأن نتعلمه لتحسين وتجويد المنتوج . فبعض الناشرين وصلوا إلى جودة عالية جدا في تحسين الكتاب وتقديمه في صيغ جميلة ، وهو ما يبدو واضحا للعيان
سؤال أخير: ما رأيكم في دور النشر المغربية. أعرف أن لكم تجارب ومواقف بعضها غريب ، هل يمكن الحديث عنها دون إحراج من يهمهم الأمر ؟
ويبقى أهم شيء هو التوزيع ، فهناك الآن احتكار قوي، ولم تعط المؤسسات القائمة الآن وهي مؤسسات تحتكر سوق توزيع الكتاب والمجلات ، ولست أدرى كيف تغيرت شبكات التوزيع ،وأعطيت للأبناك بعد أن كانت لدينا شركة تقوم بهذا العمل بشكل نضالي . فاليوم نجد أن من أكبر المشاكل التي نواجهها ونعاني منها ثقافيا ، هي شبكة التوزيع ، لاسيما أن نقط التوزيع ونقط بيع الكتب وبيع المجلات ، أصبحت قليلة جدا . وقد كان لي صديق ناشر ( سي عبد القادر الرتناني ) – توفي يوم الاثنين 13 نونبر – كنت اسأله عن المكاتب التي يتعامل معها بالمغرب ، وصدمني لما قال إنها لا تتعدى 27 فقط . أظن أنه يجب ان ينصب العمل على هذا المستوى ولهذا الغرض اسسنا جمعية تضم المجلات الثقافية والاكاديمية ، وانا الآن أتراسها ، ونحاول أن نجد حلولا لهذه الإشكالية