السفر بين حد الحضور وحد الغياب
فاتحة الكلام: عبد المجيد فنيش فنان برتبة مفكر
في تقديمه لاحتفالية (يا مسافر وحدك) يقول كاتبها الاحتفالي ( في الاحتفالية المسرحية يختبئ المعنى التالي، وهو أن ما هو بعيد هو الذي يظهر دائما للعين أحسن، وأن هذا الواقع ـ بكل وقائعه المألوفة والمعروفة ـ لا يمكن أن يدرك جوهر الحقيقة، إلا عندما تصل فيه المظاهر والظواهر والحالات والمشاهدات، أقصى درجاتها الممكنة، وأن يكون من حقنا أن نقول عنها ( هي أغرب من الخيال) ومشاهد كثيرة جدا، في هذه الاحتفالية المسرحية الغريبة والعجية، هي فعلا ( أغرب من الخيال) وعبد المجيد فنيش هو المسرحي الذي قدم ويقدم دائما لضيوفه واقعا مسرحيا أغرب من الخيال، ولكنه بالتأكيد قريب جدا من روح العيد ومن روح الاحتفال والاحتفالية، في معناها الحقيقي، هي أساسا طريق وجودي في التاريخ، وهي طريق في عالم تعددت فيه الطرق المذهبية والدينية والفكرية والوجدانية والأخلاقية، والسعيد السعيد هو من عرف طريقه، وهو من سار فيه، وهو من سجل خطواته على هذا الطريق، ولعل أجمل كل الطرق وأشرفها وأنبلها هو طريق الحق والحقيقة، وهو طريق الجمال والكمال، وهو طريق الإنسان والإنسانية، وهو طريق الحياة والحيوية، وهو طريق المدينة والمدنية، وهو طريق الجمال والكمال، وهو طريق العيد والاحتفال، وهذا هو الطريق الذي اخترناه ، أو اختارنا، أو اختارنا القدر الحكيم من اجل أن نمشي فيه، وأن نحيا فيه وبه، وأن نجد فيه من اهلنا وصحبنا ورفاقنا من يشبهنا ونشبهه، ومن يكمل نقصنا، ومن يصحح أخطاءنا، ومن يعطي للسفر الوجودي معنى وجوده معنا، واذا كان الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر يقول بان الجحيم هو الآخر، فان الاحتفالي، عكسه تماما، يقول بان السجن هو غياب الآخر، وبان الغربة هي وجود ذلك الآخر الذي لا يعرفنا ولا يفهمنا، وبهذا فقد امكن لنا في الأسرة الاحتفالية أن نقول ما يلي، بأن روح الرفقة الروحية، في الطريق الفكري والجمالي والأخلاقي، هو الذي كان وراء تأسيس جماعة المسرح الاحتفالي سنة 1979 وذلك بمدينة احتفالية اسمها مراكش، وبالتأكيد، فان تلك الجماعة المؤسسة لم تكن مطلوبة لذاتها، لأن مهمتها كانت هي أن تصبح تلك الجماعة مجتمعا، وأن تصبح الاحتفالية فلسفة الإنسان في كل زمان ومكان، وأن يكون لهذه الاحتفالية اسم يدل عليها، والذي هو فلسفة التعييد الاحتفالي
عبد المجيد والطريق إلى العيد
والاحتفال وعبد المجيد فنيش، الانسان والفنان، هو واحد من رفاق الطريق، الصادقين والأوفياء، وهو واحد من الذين بنوا الطريق الاحتفالي، في الفكر والفن وفي العلم والصناعات الإبداعية المختلفة، وهو واحد من أولئك السيزيفيين الذين دفعوا صخرة الاحتفالية إلى الأعلى وإلى الأسمى وإلى الأبعد وإلى كل الناس في كل زمان ومكان. ولعل من أجمل ما قدم هذا المسرحي، الموسوعي والشامل، احتفالية مسرحية اسمها ( يا مسافر وحدك) وذلك مع مسرح الأوركيد بمدينة بني ملال، وعبد المجيد فنيش هو ذلك الاحتفالي الذي لا يسافر وحده، إيمانا منه بأن الحياة سفر، وبأن السفر حياة، وبأن هذه الحياة هي فعل جماعي واجتماعي، في حين أن الموت هو فعل(أناني) فردي، وعبد المجيد فنيش هو كائن اجتماعي وثقافي، وفي روحه ووجدانه يلتقى الشرق والغرب، ويلتقى الحلم والعلم، ويلتقي الفن والفكر، ويلتقي التاريخ والواقع، ويلتقي الحكي والمعيش، ويلتقي النور والظلام، ويلتقي الكلام والنغم، وهو في مسرحه لا يمرر علما، ولا يهرب فكرا، ولا يصدر رأيا، ولا يصادر أي رأي مختلف ومخالف، وفي تقديم احتفالية ( يا مسافر وحدك) يقول الكاتب الاحتفالي (في هذه الكتابة الاحتفالية، وبلسان كل الشخصيات فيها، فإنني أقول ما يلي
إنني ما أوتيت من العلم إلا قليلا، وبأنني لا أعرف شيئا كثيرا، وجميعنا نقول لا نعرف، وجميعنا يخيفنا ويرعبنا ذلك الشيء الغامض والملتبس الذي لا نعرف، وكلنا في مسرح هذه الكتابة نسعى من اجل أن نعرف، ومن أجل أن ندرك ـ على الأقل ـ ما معنى أن نسافر؟ وإلى أين يمكن أن نسافر؟ ولماذا يسافر كل مسافر في قطار الحياة وحده؟
ولماذا يسافر هو ويبقى المكان وحده؟ ولماذا يسافر ويبقى من يحب ويهوى وحده؟) وحتى ندرك معنى السفر، في هذه الاحتفالية المسرحية، فإنه ينبغي قراءة ذلك الإهداء الذي جاء في مقدمة الكتاب، والذي نشرته دار إيديسوفت بمدينة الدار البيضاء، وفي هذا الإهداء يقول الكاتب الاحتفالي
(إلى التي سافرت وحدها إلى روح الحاجة فاطمة الوالي، أمي ـ أمنا إلى المرأة التي لم تهدنا، نحن أبناءها الخمسة الذكور: الحسين وعبد الحفيظ وإدريس ونور الدين وعبد الكريم لم تهدنا أخنا لنا فكانت هي أختنا الكبرى، وكانت أمنا، وكانت صديقتنا وكانت ابنتنا الطفلة، واتي ظلت دائما طفلة وأبرز ما يميز هذه الأنثى الأم هو روح الطفولة فيها وقد عاشت للبهجة والفرح وحدهما وكانت احتفالية دائما، بغير تفلسف، وبغير بيان احتفالي وقد عاشت هذه الاحتفالية، في حياتها اليومية من ألفها إلى ما بعد يائها، وذلك قبل كل الاحتفاليين فإلى روحها الطاهرةأهدي هذه الرحلة – المسرحيةـ
عبد المجيد فنيش من يكون؟
هم يقدمونه عادة، في الكتابات النقدية، بأنه فقط مخرج مسرحي، وهل هو فعلا كذلك؟
بالتأكيد هو أكبر وأخطر من ذلك بكثير، لأنه أولا إنسان كامل الإنسانية، ولأنه ثانيا مواطن كوني، عاقل ومسؤول، ولهذا يمكن أن نقول عنه بأنه فنان برتبة مفكر، وهو مفكر بدرجة حكيم، وهو حكيم بدرجة صانع، وهو صانع بدرجة ساحر ، وهو ساحر بدرجة عراف، وهو عراف بدرجة متنبئ وقد يختلفون في كل شيء حوله، إلا في الأشياء الأساسية والجوهرية والحيوية التالية، وهي أنه صاحب رأي ورؤيا، وأنه فنان تلتقي في روحه ووجدانه كل الفنون، وهو إنساني النزعة، وهو مواطن مدني برؤية احتفالية وعيدية جديدة ومتجددة دائما، ومن يتربى مثله في مدينة احتفالية تسمى سلا، لا يمكن أن يكون إلا احتفاليا بالضرورة وأن يكون عيدي العقل والروح والنفس والوجدان، وأن يحيا مع الناس لا مع الحجارة
وعبد المجيد فنيش، مغربيا وعربيا، هو اسم معروف ومألوف، ومع أنه قريب جدا مني ومن كوني ومن عالمي، فإنني لا أزعم بأنني أعرفه، ولا أظن أنه هو أيضا، يمكن أن يزعم بأنه يعرف نفسه، وذلك في شموليتها وفي كليتها، وفي سكونها وحركيّتها، وفي كل محطاتها المتعددة والمتنوعة، ويعرفها في أية حالة؟ وفي أية صورة؟ وفي أي عمر؟ وعند أية درجة؟ وفي أية محطة؟ ومن أية زاوية؟
فهو مجرى النهر الثابت، وهو مياهه المتغيرة والمتجددة بشكل دائم، وبهذا فيمكن أن نتحدث عن أكثر من عبد المجيد فنيش واحد، وذلك في أكثر من زمن واحد، وفي أكثر من حال واحد
ولأن هذا الفاعل المسرحي، هو أساسا حالات وجود متحركة، وذلك في فضاء هذا العالم المتحرك، فإنني أراه وأتمثله شخصية أسطورية، وأكتفي بأن أقول فيه ما يلي: هو سيزيف المسرح المغربي والعربي والكوني الحديث، وذلك في تعدد وتمدد هذا المسرح، وفي تنوعه وتجدده أيضا، وفي تياراته وكدارسه، وفي حرارته وجرأته، وفي إنسانيته وكونيته اللامتناهية
هو سيزيف الجديد الذي دفع صخرة هذا المسرح إلى الأعلى وإلى الأسمى وإلى الأبعد وإلى الأرقى وإلى الأجمل وإلى الأكمل وإلى حيث ينبغي أن تكون، وهو في البدء شاعر، بروحه ووجدانه، قبل أن يكون شاعرا بكلامه وبكلماته وبجرسه وقوافيه، هو شاعر إذن، وجد أن الشعر اللفظي وحده لا يكفي، فكان أن أصبح فنانا شاملا، وكان في فنه شيء كثير من الشغب ومن الحلم ومن الاحتراق ومن الاختراق ومن الهذيان الخلاق
ولقد وجد هذا الشاعر الفنان، أن عالم هذا الفن وحده ـ بكل روافده وأدواته وتقنياته ومدارسه، لا يكفي، فكان أن فكر في شرطه الوجودي، وفكر في وضعه الاجتماعي، وفكر في شعريته قبل شعره، وفكر في حياته الشخصية، وفكر في مسار وحياة فنه، وفكر في قضايا عالمه وكونه، وفكر في طبيعة العلاقات الإنسانية، القديمة والجديدة معا، وكان طبيعيا أن يصبح مفكرا، وأن يكون في تفكيره فنانا، وأن يكون في فنه مفكرا، وأن يكون عرافا وحكيما وحكواتيا ومهرجا ساخرا، وان يكون ساحرا أيضا
وبالتأكيد فإن وجود فن بلا أسئلة، وبلا مسائل، وبلا قضايا فكرية حقيقية، قد يكون صناعة صانعين ومتصنعين فقط، ولكنه أبدا لا يمكن أن يرقى إلى درجة الفن الحقيقي، أي الفن الشامل والمتكامل، والذي يخاطب في الإنسان جسده، ويخاطب نفسه وروحه ووعيه ولا وعيه أيضا، ولقد ارتقى هذا الفنان المفكر إلى درجة المسرح، والتي هي أعلى درجات الفنون والفكر والعلوم والصناعات المختلفة، لأن المسرح عوالم وليس عالما واحدا، وهو عوالم سحرية مركبة تلتقي فيها الأجساد والأرواح المبدعة والخلاقة، ويلتقي فيه الكائن والممكن والمحال، ولقد وجد عبد المجيد فنيش نفسه ـ ومن حيث لا يدري ـ مواطنا في مدن المسرح التي يلقي فيها الواقعي والحلمي والوهمي والحسي والحدسي والمتخيل، وهذا ما يفسر أن يكون في مسرحه كثير من الشطح الصوفي، ومن الدرامية ومن الغنائية ومن السفر و الرحيل نحو المدن السحرية الفاضلة لقد اختار هذا الفنان أن يكون فكره مجسدا في أجساد حية، وأن يكون مشخصنا في شخصيات مسرحية مقنعة وممتعة، وأن يكون مسرحه متجليا في حالات ومقامات ومواقف، وأن يكون مركبا في أحداث ومشاهد حية مدهشة، وبهذا فقد كان قدره أن يصبح مسرحيا في مسرح الدنيا، قبل أن يكون مسرحيا على الخشبة المسرحية فقط، لقد أبدع مسرحيات كثيرة جدا، ببلاغات شعرية متنوعة، ولقد كانت أصدق وأجمل كل مسرحياته هي حياته الصادقة بكل تأكيد؛ حياته الغنية بالأحداث والغنية بالحالات وبالمواقف وبالتحديات وبالعلاقات وبالقراءات وبالمحطات وبالاختيارات المبدئية الصادقة، وهذا هو الفنان المسرحي الشامل عبد المجيد فنيش
عبد المجيد فنيش وسؤال أكون أو لا أكون
ومثل كل الشخصيات، في عالمه المسرحي، فقد كان هو أيضا شخصية مسرحية، فهو فلا يحيا حياة واحدة، بحيث أن أعمار هذه الحياة الواحدة والمتنوعة، هي أعمار متعددة ومتنوعة بشكل كبير، ولهذا فقد كان صعبا التمييز بين حياته وحياة أفكاره، وبين حياته وحياة شخصياته، وبين حياته وحياة مسرحه، والذي هو مسرح غني لحد البذخ، وهو مسرح لا يتوقف لحظة عن البحث عن نفسه، ولا يتوقف لحظة عن طرح سؤال الكينونة وسؤال الوجود، والذي هو
ــ أكون أو لا أكون؟
كما لم يتوقف لحظة عن طرح سؤال الهوية، والذي هو: ــ وكيف يمكن أن أكون؟ كما أشاء أنا الصانع المبدع، أو كما يشاء لي الآخرون، وكما يريدون لي أن أكون؟
(يتبع)