أدونيس والموقف من التراث
أو ” قتل الأب ” بين قطائع الانفصال و وشائج الاتصال
يدعو أدونيس إلى احتضان اللحظة الإبداعية في التراث التي يشع ألقها عبر العصور، فالمبدع يحتضن جوهر التراث فيما يتطلع إلى المستقبل، لا يؤخذ منه إلا بلحظاته الصارخة والإنسانية. فصلة المثقف الثوري بالموروث ” ليست صلة إحياء أو تمجيد، إنما هي صلة نقد وتحليل وتجاوز، كذا ندرك أن دور المبدع لا يكمن في المحافظة على النظام الثقافي الموروث، وإنما يكمن في تفجيره وتطويره. “(1)
هكذا لا تظل النظرة إلى التراث نظرة تقديس على اعتباره النموذج الذي يتحقق فيه الكمال المطلق، إنما تصبح نظرة محاورة ومجابهة الند للند من هنا يدعو أدونيس إلى الاتصال بالماضي والانفصال عنه في آن واحد ، الاتصال به بمقدار ما يسلط أضواءه على الحاضر. أي الارتباط بالجوهري والإنساني فيه الذي يفرض نفسه بقوة الإبداع. وذلك باستيعابه وتمثله ثم تطويره وتفجيره بشحنه برؤى حديثة ترتب بالحاضر وتتطلع إلى المستقبل
فالإنسان ” لا يقدر أن يتجاوز الماضي لأنه في دمه. لكنه من جهة ثانية لا يكون حاضرا حيا ما لم يتجاوزه. الإنسان الحي هو المتصل بماضيه المنفصل عنه في آن “(2)
ويجد أدونيس في شعر أبي تمام مثلا جانبا مهما من التراث الذي لا يجدر الاستخفاف به أو تجاوزه. فهذا الشعر يتضمن جانبين، الجانب الإبداعي الجوهري، أي الأفق الشعري، وجانب يتضمن الزي الذي أخرج به هذا الأفق. ولا غرو أن الشاعر الجديد سيتصل بالأفق وينفصل عن الزي
فمسألة الصلة بالماضي ” لا تبحث من زاوية الرفض أو القبول، بل من زاوية فهم هذه الصلة ووجهة النظر في تحديد طبيعة هذه الصلة، وتحديد ما نتصل به وما لا نتصل به “(3)
فتجاوز الموروث لا يعني نبذه وقطع كل الصلات معه، إنما يعني تجاوز القيم والمواقف التي نشأت في خضم ظروف تاريخية معينة للتعبير عن تلك الأوضاع التي أنشأتها، ونظرا لتغير هذه الأوضاع الثقافية والإنسانية لزوال الظروف التي أدت إليها، يلزم تغيير هذه المواقف والأشكال لأنه لم يعد بإمكانها استيعاب ما استحدث من مفاهيم وقيم من هذا المنظور يدعو أدونيس إلى رفض الجانب التقليدي في التراث وتحطيم المقدس فيه، والإفادة منه بقدر ما يلقي الأضواء على عتمات الحاضر“هكذا يؤخذ الشاعر العربي الجديد من أصوات الماضي بتلك التي تعانق المستقبل فيما كانت تعانق حاضرها وتعبر عنه “(4)
فالإعجاب بالقديم لا ينطلق من عظمة الموروث وغناه لأنه قديم. ولأن عظمة العمل الفني لا تأتي من قدمه أو حداثته، بل من إبداعيته. وقد يكون النتاج الحديث أشمل وأهم بالضرورة من القديم لأنه يستوعبه ويقربه إلينا “تحت ضوء من الحداثة ” ولأن اللحظة الشعرية الراهنة تصافح كل العصور والأزمنة. من هنا لا يصبح الشعر خاضعا للتراث بل التراث هو الذي يخضع للشعر. ولا يظل التراث هو نقطة البدء، بل يصبح الحضور الإنساني هو الأصل الذي تتفرع عنه بقية الفروع ومن جملتها التراث. “وحين نكتب شعرا سنكون أمناء له قبل أن نكون أمناء لتراثنا. إن الشعر أمام التراث لا وراءه، فليخضع تراثنا لشعرنا. “(5)
ويوضح أدونيس موقفه من التراث استنادا إلى قضية الاختلاف الموجود في العصر الواحد، ذلك أننا نجد داخل عصر واحد ما هو مختلف وما هو مؤتلف، ما هو حديث وما هو قديم. لأن العصر ليس كثلة واحدة إما أن تكون قديمة أو حديثة،فالقدم والحداثة ليست لهما قيمة مطلقة، إذ أن القدم يلازم الحداثة ويعيشان جنبا إلى جنب. من هنا فالماضي هو الآخر متعدد وليس هناك ماض واحد إما أن نقبل عليه بكل ما فيه أو نرفضه، بل
” هناك ماض وماض، ولنا نحن ماضينا العربي، هذا الماضي الثقافي لا نلتمسه في الغزالي وأحمد شوقي وأمثالهما، وإنما نلتمسه في امريء القيس وأبي نواس وأبي تمام(…) ومئات العقول الخلاقة الأخرى في تراثنا العربي التي غيرت ورفضت وتمردت على الأليف والموروث والعادي والتقليدي ،والتي خلقت وجددت وأضافت ” ( 6)
بهذا المعنى تحدث بودلير عن الحداثة عندما اعتبرها نصف الفن الذي يتمثل في الظرفي والعابر، في حين جعل النصف الثاني هو هذه اللحظة الجوهرية الثابتة والتاريخية (7)
إن هذه اللحظة الجوهرية هي التي يتحدث عنها أدونيس في فصله بين ماض وماض، الماضي الذي يتحتم نبذه، والماضي الذي يظل جديرا بالتمثل والاستيعاب للقبض على اللحظة الأبدية فيه، والذي يتحقق فيه النصف الثاني للفن كما حدده بودلير
إن الموقف من التراث من القضايا ذات الأهمية البالغة التي أثيرت ولا تزال تثار، ونجد لينين من أبرز من تعرضوا للمسألة، لذلك يقتطف أدونيس بعض أقواله ويستشهد على موقفه بكون لينين كان يأخذ على الديمقراطيين البورجوازيين الصغار
” تقليدهم الذليل للماضي “.إلا أن أدونيس لم يتعرض للطرف الثاني من موقف لينين من التراث والذي يتمثل في كونه كان يحتج على جماعة ( الثقافة البروليتارية )لكونها ترفض التراث وتنادي بقطع كل صلة معه،إذ ارتفع صوتها أنه :” علينا أن نطلق الرصاص على أعمال بوشكين وتولستوي و رفائيل وكل السابقين…حتى نتحرر ” ونادت باختراع أساليب ثورية لا علاقة لها بالماضي إطلاقا. هنا يقف لينين موقفه الحاسم من هذه القضية، موضحا خطورة هذه الدعوة إلى الانفصال الكلي عن التراث( بحجة أنه تراث إقطاعي أو رأسمالي ) وأظهر أن في ثقافة كل نظام اجتماعي ناحيتها الديمقراطية التي علينا أن نأخذها
ويؤكد لينين أن خلق ثقافة بروليتارية لن تنشأ من العدم، بل إن ذلك يستدعي تطوير خير نماذج التراث وتمثله تمثلا انتقاديا، وتوليد الجديد من أحشاء القديم. (8)
إن هذا الموقف الذي يقفه لينين من التراث، نجده شبيها بموقف أدونيس الذي يفصح عنه في كتابه( زمن الشعر ) لولا أنه يظهر أحيانا وكأنه يرفض التراث، إذ يظل موقفه مترددا نتيجة بعض التناقضات التي تظهر من خلال مقالاته المختلفة
قالت خالدة سعيد في شأن موقفه من التراث أنه ” عين هذا الموقف: الاغتذاءبالتراث وهضمه والإفادة منه لتجاوزه. فهو يتجاوز التراث متسلحا بهذا التراث لا منقطعا عنه “( 9)
فخالدة سعيد تشير إلى أن علاقة أدونيس بالتراث تقوم على الاستيعاب والتفهم لما فيه من معاني إنسانية خالدة .فهي ليست علاقة تأثر صرف. ومن هنا نلاحظ حرص أدونيس على استخراج العناصر التي لها صفة الديمومة والاستمرارية في التاريخ، فنظرة متفحصة في أشعاره، تكشف لنا تمثله للتراث
:ففي مقطع من قصيدته ” فصل المواقف ” نقرأ
من يعطيني ورقة أحمِّلها أكداسا من البخور والصندل
أنقطها كالعروس وأجلوها
أقرأ عليها سورة مريم
أهز فوقها جدوعي من الشوق والحلم
وأرسلها إلى أحبابي مليئة كالتفاحة
خفيفة وخضراء كمهرة الخضر
هنا نلمس صدى الآية القرآنية ” وهزي إليك بجدع النخلة..” لكن بعد أن اتخذت مسارا نفسيا في نفس الشاعر، فهو يريد أن يبعث برسالة إلى أحبابه، هذه الرسالة أكبر من الكلام، فليس في الكلمات ما يطيق حملها، ثم إنه يفجر من نفس الموقف – موقف السيدة مريم- التعبير الباهر عن رؤيته، فوراء هذا الموقف تكمن معاني الامتلاء والولادة ثم الصمت عن الكلام. وهي نفس المعاني التي يحسها الشاعر، فهو ممتليء بشيء( هو رسالته ) ويريد أن يخرج بهذا الشيء إلى النور( وهذا نوع من الولادة )
فهذه العملية ليست عملية اقتباس لنص من التراث، إنما هي عملية تفجير لطاقات كامنة في النص يستكشفها كل شاعر حسب موقفه الشعوري. “(10)
وفي “أغاني مهيار الدمشقي ” نرى كيف يلجأ أدونيس إلى تمثل شخصية مهيار فينتزعها من حركيتها التاريخية ويشحنها بدلالات معاصرة، فيربط بذلك بين المعضلات الإنسانية الأزلية ومواجهات الإنسان المعاصر
” أما شخصية ” مهيار ” فهي أسطورة تنطلق بدءا من أزمة الشاعر كفرد يعيش في القرن العشرين ويعاني على مستوى ثان تجربة التحول والتحرك التي يعيشها العربي،كما يعاني على مستوى ثالث أزمة الإنسان إذ يواجه المعضلات الكونية كالموت والحياة والحب. هكذا ينقل أدونيس التجربة الشخصية والقومية إلى المسرح الكوني، وإذ تتلاقى هذه المستويات المتعددة لأزمة الإنسان عبر شخصية ” مهيار ” التي تتخذ أبعاد الأسطورة فإنها تغتني بأصداء الأساطير القديمة محركة بذلك تاريخ القلق البشري”(11)
:إلا أننا نقرأ في قصيدته ” لغة الخطيئة ” من ديوان( ساحر الغبار ) قوله
أحرق ميراثي، أقول أرضي
بكر، ولا قبور في شبابي
أعبر فوق الله والشيطان
(دربي أنا أبعد من دروب
الإله والشيطان ).(12)
ألا يبدو لنا من قوله هذا ” أحرق ميراثي ” كأنه يريد أن يقطع صلاته مع الماضي وينفصل عن الموروث، ليبدأ من ” أرض بكر ” لا أثر فيها للقديم..؟
إلا أن الواقع غير ذلك، فأدونيس يتحدث عن العبور وليس القطيعة، ويمضي إلى أرض بكر في اتجاه التجاوز والمغايرة.والميراث الذي يدعو إلى حرقه هو الميراث المتجمد مقابل ميراث متجدد ينحو منحى التجاوز ومخالفة المألوف والنمطي والتقليدي بصفة عامة
فالموقف الأدونيسي من التراث لا يخرج عن الإطار العام لمشروعه الشعري والنظري والنقدي، الذي يمكن ملامسته في كتابه”الثابت والمتحول”،كما في كتب أخرى مثل
” زمن الشعر ” و” مقدمة للشعر العربي”، على أساس أنه لا قطيعة مع التراث في جوانبه المشرقة، المنفتحة على الحاضر، والمتطلعة إلى المستقبل، لأنه لا وجود لقطائع في الأصل لا في التاريخ ولا في الأفكار، مع تجاوز كل ما يجتر الماضي في جموده والانفتاح على الجوهري والكوني الذي يحمل استمراريته معه
الحداثة ليست مرتبطة بفترة معينة،فالتراث أيضا يحمل الكثير من اللحظات الحداثية التي تنزع إلى المغايرة والاختلاف على سبيل النوع والطفرة، أو الثورة كما حدث مع أبي تمام
وأدونيس لا يحيد عن هذا المنحى نظريا وإبداعيا..ولا يزال متمسكا بموقفه بدليل أن آخر ما قاله في لقاء التويزة بطنجة منذ بضعة أيام:” لا يمكن أن نعيش في القرن الواحد والعشرين ونفكر بنفس طريقة البخاري..”
:المراجع
1_زمن الشعر: أدونيس ص 130
2_ نفس المصدر: ص167
3_ نفس المصدر: ص 127
4_زمن الشعر: أدونيس ص 60
5_نفس المصدر: ص228
6_نفس المصدر ص 239
7_ Baudelaire ( Écrits sur l’art) Tome 2. P.150
8_الأدب الجديد والثورة: محمد دكروب/ الطبعة 1 /ص 32/33
حركية الإبداع: خالدة سعيد/ الطبعة 2/ ص 93
10_الأبيات والتعليق وردت في “الشعر العربي المعاصر ” لعزالدين إسماعيل
11_حركية الإبداع: خالدة سعيد/ الطبعة 2/ص 121 و122
12_ الآثار الكاملة: أدونيس ص 368