!جئتُ لا أعلم من أين، ولكني أتيتُ
!الاحتفالية حرية وتحرر
الطريق ورفاق الطريق
الطريق، اي طريق، مادياً كان، أو كان طريقا رمزيا وفكريا، ما وجد إلا لنمشي فيه نحن المشاة، وبالتأكيد، فان وجود طريق مهجور، لا نحيا فيه، ولا نمشي فيه، ولا نتعب ونشقى فيه، فإنه لا معنى لوجوده، وبالمقابل، فان وجود طريق بلا رفيق، وتمشي فيه وحدك، هو اصعب وهو أغرب وهو أعجب كل الطرق، وطريق واضح ومضاء، ليلا ونهارا، ومؤثث بالعلامات وبالإشارات، هو طريق خير، الف مرة او مليون مرة، من طريق آخر، مهجور وملعون ووحشي وهامشي، طريق لا تعرف له موقعا في الكون الفكري والجمالي والأخلاقي، ولا تعرف له اسما من الأسماء، ولا تعرف له بداية ولا نهاية، ولا يصادفك فيه انس ولا جان ولا ملاك ولا شيطان، ولا تلقى فيه اي مظهر من مظاهر الحياة ولا أية علامة من علامات الانسان والإنسانية ولا من علامات الحياة والحيوية ولا من علامات المدينة والمدنية، وتتعب فيه وانت تمشي، او فقط تتخيل نفسك تمشي، وتتعب جسديا وفكريا وروحيا، ولا تجد محطات للاستراحة، ولقد كانت طريق الاحتفالية طريقنا، ولقد اخترناها لأننا وجدنا فيها الرفيق والصديق، ولأنها مستقيمة وبلا منعرجات خطيرة وقاتلة
ونعود إلى مسرحية (الطريق) للكاتب الاحتفالي ذ. رضوان احدادو من اجل أن نعيد التفكير في الطريق الاحتفالي، والذي اخترناه او اختارنا، والذي يربطنا به حبل سري خفي، يدل على اننا ولدنا فيه ومن رحمه، والذي هو حبل طويل وصادق، وليس مثل ذلك الحبل الآخر، والذي هو حبل الكذب ، والذي هو بالتأكيد حبل قصير وغير متين وغير موصول بالحق والحقيقة، وفي هذا الطريق كنا، وفيه ولدنا فكريا وجماليا وأخلاقيا، وفيه مازلنا نمشي لحد هذا اليوم، وفيه سنظل نواصل السير الحالم والعالم والجميل، ولعل اجمل وأصدق ما في هذا الطريق الواحد، هو أنه يمكن أن نمشيه بألف طريقة للمشي، اي ان يمشي فيه المشاة مشيا على الأقدام، وأن يحلق فيه الطائرون بأجنحة الفكر والخيال، وأن يمشي فيه السائرون بأكثر من سرعة واحدة
الاحتفالية : الطريق والطريقة
الاحتفالية اساسا طريق، وما يميز هذا الطريق هو انه طريق وجودي، اخترناه او اختارنا، لست أدري؟ وهو طريق نحياه ويحيا بداخلنا، وليس مجرد طريقة في الكتابة او في الإبداع الأدبي والفني
والمبدع الاحتفالي، في هذا الطريق الوجودي، لا يمشي وحده، ولا يعيش وحده، ولا يموت وحده، هو كائن إنساني حالم، وهو في حلمه لا يغمض عينيه ولا يغمض وجدانه وخياله، وهو مسافر دائما في عالمين، عالم تشرق عليه الشمس صباح كل صباح، وتغرب عنه مساء كل يوم، وعالم اخر، شمسه لا تغرب أبدا، وشمسه هي اساسا شمس الحقيقة وهي شمس الجمال وهي شمس الكمال، وهذا المسافر الاحتفالي، في الطريق الاحتفالي، ورغم مرور نصف قرن على وجوده في هذا الطريق، لم يصل بعد الى نهاية الطريق، وكان هذا الطريق الاحتفالي هو طريق دائري، ليس فيه إلا البداية التي تستعيد نفسها ، وتجدد نفسها بشكل دائم، والشيء الوحيد الذي يعلمه هذا المسافر الاحتفالي، هو أنه لا يعلم، ولكنه بالتأكيد يريد ان يعلم، واكبر زاد لهذا الاحتفالي في رحلته الوجودية والفكرية هي الاسئلة، وهو يعلم ان ما يسعى لان يعلمه هو اكبر واكبر مما في علمه، وهو بهذا كاتب -مفكر – مبدع مشاء، وذلك في الطريق السيار الذي يمشي، وهو بهذا جسد متحرك في الزمن الذي يتحرك، وهو في سيره ومشيه يعلم أنه ما وضعت كل هذه الطرق إلا لنمشي فيها، واكبر كل الطرق واخطرها، هي الطرق التي لا تنتهي بعد لحظات او بعد ساعات او بعد أيام او بعد اعوام، وبخصوص علاقة هذا الاحتفالي بالطريق نجده يتساءل، ايهما اسبق في الوجود، هو ام الطريق؟ ولأنه يعرف بان هذا السؤال يشبه السؤال (ايهما اسبق في الوجود، البيضة ام الدجاجة) فقد اكتفى بأن يقول مع ايليا ابي ماضي في قصيدة الطلاسم ما يلي
جئتُ لا أعلم من أين، ولكني أتيتُ
ولقد أبصرت قُدّامي طريقا فمشيتُ
وسأبقى ماشيا إن شئت هذا أم أبيتُ
كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟
لست أدري
هل انا السائر في الدرب ام الدرب يسير؟
ام كلانا واقف والدهر يجري لست أدري)
وكان هذا الطريق الذي مشيت – مشينا فيه هو طريق الاحتفالية، والذي هو طريق الإنسان العاقل والمفكر والعاشق، وهو طريق المدنية الحقيقية، وذلك في انفصالها التام عن الهمجية، وعن الغاب وعن مجتمع الغاب وعن شريعة الغاب، وهذا الطريق الاحتفالي هو أساسا طريق الحياة الحيوية وهو طريق الحرية والجمالية ولأنه مواطن احتفالي، في الوطن الاحتفالي، فقد كان الكاتب -المفكر – المبدع الاحتفالي مؤمنا بالحضور، وهو في هذا الإيمان مقتنع بأن الأصل في الوجود هو الحضور، وبهذا كان الغياب انهزامية، وكان خيانة وجودية، ولهذا نجده في كل ابداعاته الفكرية والجمالية يواصل الكتابة الاحتفالية، بجسده وروحه وعقله، وهو اليوم، تماما كما كان بالأمس، مازال يواصل السير في نفس الطريق الاحتفالي، والذي لا نعرف له نهاية له محددة، وفقط نعرف انه طريق طويل يوصل الى الحق والحقيقة ، ويوصل الى نبع الحياة الحقيقية، ويوصل الى عتبات العيد والى درجات الاحتفال الصادق، ويوصل الى البهجة والفرح
الطريق وحدود الخطأ في الطريق
ان الاحتفالية حرية وتحرر، ولكن، إلى اي حد يمكن ان تصل هذه الحرية؟
وبالتأكيد، فإن هذه الاحتفالية التي تؤمن بالحق في الخطأ، تستثني من هذا الحق شخص ط الطبيب المعالج، والذي يمكن أن يبعث بك أي خطا يرتكبه الى الموت، وشخص القاضي ايضا، ممنوع من الخطأ، لأنه قد يجرم البريء، أو يبرئ المجرم، ويمكن ان نضيف اليهما شخص الناقد الأدبي والفني، والذي قد يسوق كاتبا في بداية الطريق الى الموت المبكر، وكل ذلك بمجرد كلمة واحدة، كلمة غير منصفة ، وغير مسؤولة ، وغير سليمة ، وغير متزنة اخلاقيا، وإذا كان للطبيب الفاسد ضحايا، وكان للقاضي الفاسد ضحايا، فإن للناقد الفاسد ضحايا ايضا، وقد لا يكون هذا الناقد فاسدا، ولكن بضاعته وادواته النقدية فقيرة او بائسة، أو تكون علاقته بالكلمات والعبارات والأشياء والصور وبأصحابها علاقة غير سليمة وغير إنسانية وغير ودية وغير متزنة نفسيا واخلاقيا ايضا
ونعرف جميعا، بأن إحساسنا يمكن ان يخدعنا ، قبل أن نخدع الناس ونحن ندري او لا ندري، وبهذا فقد اكدنا دائما في هذا الطريق الاحتفالي، على النسبية في مقابل المطلقية، وعلى أن ما نراه، يمكن ان تكون له حقيقته فيه، كما يمكن ان تكون (حقيقته) فقط في العين التي تراه، وهذا هو ما يسمى الإسقاط، وهذا ما يجعل الاحتفالي يقول، ليس كل ما نراه وما نكتبه وما نقوله ما نفعله وما ننشره يستحق الإعجاب بالضرورة، وقد نخدع انفسنا، أو نحاول ذلك، ونخدع كل الناس، عندما نريد أن يقتنع الجميع بأشياء لا وجود لها، وأن نبيعهم الوهم، والأمر بالتأكيد يحتاج الى حس جميل، ويحتاج الى موقف نبيل بما يفعل الآخرون، ويحتاج الى عين سليمة وخارقة، عين تشبه عين زرقاء اليمامة، اي تلك العين السحرية التي ترى البعيد، وتدرك الخفي، وتتوقع حضور ذلك الغائب هناك، في المكان الآخر، وفي الزمن الآخر، بل وفي اللازمان واللامكان، وتؤمن ايضا بذلك الغائب والبعيد والمتخيل، وايضا بذلك الممكن الصعب، والذي قد تصل صعوبته إلى درجات وعتبات المحال، وهل هناك شيء حقيقي في العالم الحقيقي يمكن أن يسمى المحال؟
ومن يخاصم هذا العالم لا يمكن ان يراه في حقيقته، ومن يخاصم الأيام والاعوام في كليتها وشموليتها لا يمكن أن ينتظر يوم العيد، وينتظر يوم الاحتفال، وعين الظلامي لا نور فيها، وروح العدمي لا وجود فيها
وتؤكد الاحتفالية على الأصل في الإدراك السليم هو العلاقات السليمة دائما، فكن في البدء انت جميلا، وذلك في رؤيتك واحساسك، وتوقع ان يكون الآخر جميلا ايضا، والحس النقدي ليس مرادفا للحس المرضي، وعليه، فإن القاعدة الاحتفالية تقول، بأن كل انسان جميل حتى يثبت عليه العكس، وقرينة البراءة هي الأساس، وتبقى الاحكام النقدية احكاما بعدية وليست احكاما قبلية، ولقد كان من سوء حظ الاحتفاليين أن حوكموا وادينوا قبليا وغيابيا، وذلك وفق تهم كثيرة فضفاضة، وهي كلها تهم متخيلة وجاهزة وصالحة في كل زمان ومكان
وفعل النقد السليم يسبقه الحس النقدي السليم، وتسبقه العلاقة النقدية السليمة وليس العلقة المرضية والمعطوبة والقد اساسا تفاعل، وليس فعلا من جانب واحد، وكل فعل واحد هو اساسا عدوان، والأصل في الفعل النقدي، احادي الرؤية واحادي الطريق، هو انه عادة شيء سهل ومريح، ولكنه غير مفيد موضوعها وعلميا، وشيء سهل أن نقوم بنقد الآراء الأخرى ونقد المواقف الاخرى ومقد الكتابات ونقد الأفكار الأخرى، ولكن أخطر النقد، واشرفه وانبله هو نقد الذات الناقدة، اي ان ننتظر الى نفسها وقولنا وافكارنا في مرآة الحقيقة وان نتأملها بعين العقل، وأن نزن أفكارنا بميزان العقل، وليس بميزان العاطفة والهوى، وعليه، فإن كثيرا من النقد الذي قد نحسبه نقدا ليس نقدا، وقد يكون مجرد اتهامات عدوانية لذلك الآخر المختلف عنا، والذي لا يشبهنا، والذي لا يقول ما نقول، ولا يكتب ما نكتب، وأسوأ النقد اليوم في كل الميادين الأدبية والفنية والفكرة والعالمية ، هو ذلك النقد الذي يتهم، بغير دليل، والذي يهاجم، بغير حجة، والذي قد يشفي بعض النفوس المريضة، ولكنه ابدا لا يمكن أن يضيف للعلم حرفا او حتى نصف حرف او ربع حرف
يتبع