في القنطرة جلجلة

في القنطرة جلجلة
صورة الغلاف للتشكيلية الازربيدجانية جميلة هاشموفا
حسن حامي

في القنطرة جلجلة : الجزء الأخير للرواية

تمت المواجهة، ولم تسفر عن شيء. تشبث كل واحد بأقواله. تراجع بعض الشهود عن شهادتهم، وتبين أنهم أجبروا على ذلك. وجد العميد وفريقه أنفسهم في ورطة. وظل الأمل الوحيد، هو شاهد الإثبات، متروي ـ متردي. طلب من إلهام أن تدخله من الباب الخلفي، حيث كان ينتظر. نقل نظراته بين الجميع في حيرة من أمره، لتستقر على وجه مألوف، انتظار؛ خفض عينيه للحظة ثم أعادها لتنفذ إلى عينيها، وتبادلا ابتسامة شاحبة. سأله العميد مجدي أسئلته المعهودة، وكانت أجوبة متردي ضبابية. ولكنه قرر في الأخير أن يقول ما لم يستطع قوله من قبل

ـــ معذرة أيها العميد، أنا وجدت هنا بالصدفة. لم أكن هاربا بالمعنى المتعارف عليه. كان لا بد من تحصين ما لعشيرتي وما للآخرين. القنطرة وضعتني في صورة كنت لا أعرفها عن نفسي، وعن ناس، بعضهم هنا، وبعضهم هناك. الكل يعتبرني دمية. ولكن الأقدار جعلت أنني جئت إلى القنطرة في الوقت المناسب. ولن أعبرها قبل أن تنتهي الأمور. العربة ساعدتني على تعقب جذوري التي أصابها بعض الورم. وهي في طريق الشفاء. إلا القلب! وهذا موضوع آخر. قيل لي إن التوكيل لم يعد صالحا، وأنا كنت أعرف أنه غير صالح. قيل لي إنني مربض الفرس، ولم أر فرسا واحدا. قيل لي إن مؤامرة تحاك ضدي، ولم أر سوى أشخاص يلهتون خلف حبات رمل تكبر في أعينهم عندما تتجبر بين الغبار. قيل لي إن اعتنائي بالقنطرة والجوار، تدخل في اختصاصات السلطات. قيل لي إنني أصبحت مشهورا لأن شقراء في فيلم، كله علامات استفهام، حاورتني للحظات واستعطفتني لغاية في نفس يعقوب. قيل لي إنني سخرت من أصدقاء الأمس بائتمانهم على أشياء تافهة، وما هي بتافهة. من أكون أنا إذن كي يمسح بي التراب، تارة؟  ومن أكون أنا كي أنظف مثل تمثال أثري عريق، تارة أخرى؟ هذه القنطرة، لن يعبرها المتطفلون والوصوليون والانتهازيون والضعفاء والمتربصون والمتعاونون والدمى بكل أنواعها. لن أستطيع أن أساعدك أخي مجدي ــ واسمح لي بأن أناديك أخي، لأن قلبك طيب

:كان الجميع ينظرون إليه باهتمام كبير. ساد الصمت بعد ذلك لمدة طويلة، قطعها العميد مجدي قائلا

ـــ كانت مداخلة رائعة، ولكنها لن تفيدني. بإمكانكم المغادرة الآن. الملف لم يغلق

وفي نفس اللحظة، دخل مفتش شرطة ليسر في أذن العميد، أن جماعة من الفضوليين يتواجدون في محيط القنطرة، ويبدو أن نيتهم سيئة جدا. هرع مجدي إلى الباب يتبعه المفتش مترجي، بينما ظلت إلهام تراقب الآخرين وهم يغادرون تباعا، ثم استقر نظرها على تبادل نظرات غريبة بين انتظار ومتردي. خرج الاثنان في الأخير. كان رائد ينتظر في الخارج، وما أن رأى متروي، حتى جذبه من يديه، ليخبره بألا يقلق حول موضوع التجمهر في محيط القنطرة، لأن السبب هو أن الساكنة قررت أن تمنع بداية أشغال التجزئة قبل أن تعرف من هم الممولون الحقيقيون للمشاريع كلها. وعندما رأى انتظار، ابتسم وسأل

ـــ من تكون هذه ‘القرطاصة’؟

ـــ انتظار

ـــ أنا انتظار، وأنت؟

ـــ رائد

ـــ هل تعرف شخصا إسمه منتصر؟

ـــ نعم، منشط البولڤار، متى يحلو له، والمهندس الإعلامي المتنقل بين المدارس وزبون ‘المنتزه’ الذي يتربص بفتيات القنطرة وناشط المجتمع المدني كلما شعر بالفراغ

ـــ أنا لم أطلب منك نبذة عن حياته.  إنه أخي الأصغر. وهذا ما يجب عليك معرفته. وكل شيء آخر سمعته أو ستسمعه عنه وعني، هو جزء من الماضي، وأكثره من أدبيات قارئة الفنجان

:عدلت انتظار نظارتها الرفيعة، وسألت رائد

ـــ هل تتكلم الأمازيغية؟

ـــ لا

ـــ أهديك هذه الرواية بالأمازيغية. حروف التيفيناغ تبدو غريبة، ولكنها تحكي عن حضارة وتاريخ وتلاحم عضوي لا يقاوم. والقنطرة، جزء من كل هذا. حاول أن تتعلم اللغة الأمازيغية والحسانية، إنها فعلا رائعة مثلها مثل اللغة العربية واللغات الأخرى. لا تهتم باللغط حول أية لغة هي الأكثر إفادة للتعليم والتحصيل. الخطر هو الجهل

ـــ سأحاول

ـــ أتمنى أن نلتقي قريبا

ـــ أين يمكن أن أجدك؟

ـــ يمكن أن تجدني في كل مكان إذا عزمت. تحياتي

غادرت انتظار ساحة المخفر ولم تتوجه ولو بكلمة واحدة إلى متردي، الذي غرق في صمت عميق. ولم تسعفه مواساة رائد، الذي تأبط الرواية، وهو يحاول أن يخلق تمويها يعيد إلى صديقه الكهل نكهة الفرح التي تبخرت بعد أن أهملت وجوده سيدة لم تكن عادية. حاول رائد أن يقنعه بأن كلام انتظار الأخير موجه إليه هو وليس إلى غيره، ولكن بدون جدوى

:قررمتروي القيام بما يجب القيام به، وأخرج الورق والأقلام الملونة استعدادا لتغيير اللافتات القديمة، كما أمرته السلطات بذلك، ولكنه قرر كتابة أبيات شعرية محلها كانت تتصادم في ذهنه منذ مدة

“كُتُبٌ جُمِّعتْ في الرُّفوف       فأتى الشكُّ كلَّ الصُّفوف”

 “الرحلةُ ما كانتْ لِتَكون         لوْ لمْ أركبْ بحرَ الظُّنون”

          “واهٍ مَن يجري خَلفَ حُلمٍ بعيد    رغم إدراكهِ الجرْيَ لا يُفيد”

 “هل أحتمي بحكايا نسَجتُها    وقد أبانتْ عن هَشاشةِ حَبكِها”

          “أَلمْ يكنْ صمتي مِنْ خالصِ الذهب   أنا الذي تهتُ في هسْهسَةِ العَتب؟”

:أدرك متروي أن ساعة الرحيل قد حانت، وقبل أن يتحرك، التقى برائد وسلمه المفكرة السوداء، وطلب منه تسليمها إلى انتظار حين يراها أو يزورها. سأله رائد، وعينه تنطق بالجد

ـــ أنتما تجنناني. رواية بالأمازيغية، ومفكرة لا أعرف ما بها

ـــ قدرك أن تحفظ الذاكرة

ـــ وماذا سأفعل بالكفن الذي سأشتريه لك؟

ـــ حوله إلى لوحة تشكيلية واعرضه ضمن الأنشطة الموازية عندما يعود مهرجان البولڤار

ـــ وماذا سأفعل ببقية المبلغ الذي ائتمنتني عليه؟

:أجابه متروي، وهو يبتسم

ـــ أعده إلى مستعد، وقل له أن يبلغ أصهاره وزينب أن القنطرة، ولو أنها تبدو مهترئة، فإن أساسها متين، وأنها لم تكن أبدا للبيع. حاول كثيرون وفشلوا، وأنهم أخطؤوا العنوان؛ وليعلموا أنهم لن يفلحوا أبدا في شراء أي شيء بالمال في هذه الربوع. أما سامي، هذا العزيز نسي أن ابن الدار يدخل إليها من بابها المفتوح، وما كان عليه مغادرتها أصلا، وأن المستكشفين الجدد الذين يتطاولون على القنطرة لن يكرروا استثناءات الماضي ــــ ولن يعبروا من هنا أبدا

 بعد ذلك، توجه إلى الحمام، وهناك التقى بأب إرشاد وسأله عن أحوالها، فأخبره بأنها تكبر بسرعة وتلبس براءتها درعا لتقاوم حنينها إلى أمها، وأنها أصبحت تستحم لوحدها وأن نساء العائلة يحاولن تدارك الوضع، ولكنها تقابل محاولاتهن بتجاهل نبيل. كما أنها أصبحت تعتز بالوشم في ظهرها وتظهر ميولا خاصا إلى الرسم

تمدد متروي على أرض الحمام، كانت قطيرات ماء تتجمع بانتظام في السقف قبل أن تسقط على جسمه بردا وسلاما، فحلم أن قشة ضخمة، مثل زبد البحر، تتأهب لتبتلعه، فأغمي عليه. ولما أفاق، أطل عليه وجه مصطفى، الذي قال له

ـــ لا يمكن لك العبور؛ أنت شاهد إثبات

لم يجبه، كان في حالة هذيان مثل تلك التي كان يعيشها أيام كان لخرقته سحر وقوة وبيان. بعد أن أكمل الاستحمام، توجه إلى ‘المنتزه’، وجلس وحيدا. كان الناس يتحدثون عن حظوظ الفريق الوطني المغربي لكرة القدم في في بطولة الأمم الإفريقية التي تنظمها مصر. كم هو جميل أن يحلم الناس وأن يتشبثوا بالأمل! طلب كأس شاي بالنعناع، وأخذ يرتشفه وكأنه لن يشرب شايا بعد اليوم. مر مستعد وحطاب وميمون بجانبه وجلسوا في الطاولة المقابلة له، متجاهلين وجوده كليا. ما زالوا يخططون. لم يدركوا بعد أنهم مجرد كومبارسات. وفي تلك اللحظة، أحس بأنه قد استرجع فعلا حريته

 نهض من مقعده، عاد إلى العربة، فتش في المكتبة الصغيرة، أخذ المجلد الصغير ووضعه في جيبه. ولم ينس المذياع. جمع بعض الملابس ووضعها في الحقيبة التي أهدتها له جينفر. ألقى آخر نظرة على المكتبة. ابتسم، لا خوف عليها، سيحافظ رائد وأصدقاؤه عليها، مثلما حافظ هو على المخطوطات والوثائق النفيسة. تناهى إلى سمعه ما يشبه هسهسات. كم كانت دهشته كبيرة! كانت القطط والكلاب والجرذان تحملق فيه، وكأنها أدركت أنه سيرحل ولن يرجع أبدا. اغرورقت عيناه. لا! لن يضعف. من الآن فصاعدا، يجب عليها أن تعتمد على نفسها. ألقى آخر نظرة على المكان. كان ديكور الكنيس والكنيسة والمسجد يطل عليه وكأنه يودعه أيضا. من سيتجرأ يوما على هدمه؟ ألم تصمد القنطرة؟ كانت تنتظر فقط اللحظة المثلى كي تجبر الساكنة على الاستفاقة وتدرك أن كل شيء بيدها، ولا تحتاج إلى عرابين من أي نوع كان، حتى ولو زعموا أن نيتهم حسنة.  ولكن من سيسهر بعده على الديكور مطالب بالإقرار بأنه لا يملك عصى سحرية، وأن عليه أن يتطور ليستمر في الحياة وليجدد نفسه ليستعيد نفسه. قرر ألا يودع أحدا أو أن يستأذن العميد مجدي في مغادرة المدينة. مهما يكن، فالملفات المفتوحة تحتاج إلى فطنة الجميع وصبرهم الجميل لتعرف بداية حلول. وقد تتعقد الأمور أكثر بعد ظهور ورثة ادعوا قرابتهم من ماتيو طعنوا في الوصية وما تبعها. يبدو أن كل المتدخلين فقدوا صوابهم

توجه إلى محطة المسافرين الطرقية، وعندما سأله بائع التذاكر عن وجهته، أجابه: “أية وجهة الآن ستكون وجهتي.” كانت الحافلة التي تستعد للسفر متوجهة إلى أݣادير. ابتسم. هل ستقوده قدماه إلى صخرة ‘أݣادير أو فلا’ رغم أنه يسابق الزمن لطي كل صفحات الماضي؟ ما هو الشيء الذي تكون انتظار قد تركت له هناك؟ تذكر أن مشروع تأهيل هذه المعلمة يعرف تأخيرا في التنفيذ لأسباب متعددة. وقد يكون السبب الأرجح تعويذة ــ أوشيء من هذا القبيل ــ وضعته انتظار في مكان ما آخر. وهل لذلك أي معنى الآن؟ هل كسب الرهان أم أنه لم يكسبه؟ لم يسعفه أي جواب يثلج صدره. أدى ثمن التذكرة بآخر درهم في جيبه مما ناله من مشاركته في الفيلم ووضع الحقيبة في مقصورة الحقائب بعد أن تردد بعض الشيء. اختار أحد المقاعد الخلفية وأخذ يتأمل حركة المسافرين والبائعين المتجولين والنشالين والشحاذين. كل شيء كان منظما في فوضى رائعة، مثل ما هو الشأن في القنطرة. القنطرة التي لم تزل تقاوم خبث المتربصين ولم تبح بعد بكل أسرارها

: شعر ببعض التعب، احتضن المجلد الصغير في جيبه، وكأنه يسمع صوتا يهمس في أذنه

 يا من يَستيقظُ في عِزِّ الليلِ يميل

                       يتنفَّسُ بالكَادِ، يسألُ أين

                               ومتى ينتهي الكيلُ بِمِكيالين؟

                                                  النملةُ نملة والفيلُ فيل. 

 أغمض عينيه، وتخيل أنه يجري في واحة تافراوت الفريدة، وهي تتنفس رطوبة القَطَّارات، ووراءه يتسابق جده وفطيمة وانتظار محاولين اللحاق به لاسترجاع الرسائل، من أجل وضع علامات الترقيم والحركات المناسبة على حروفها، لعلهم يفلحون في إقناعه بمعانيها ويصالحونه مع ذاته. لكن أمه كانت ترمي الحجارة في طريقهم لتبطئ سرعتهم، وتصرخ: “إياك وأن تتوقف! سأنتظرك في الضفة الأخرى.’ استفاق من غفوته. كانت الحافلة تشق الطريق السيار بسرعة فائقة. ابتسم، ثم سلم نفسه للمجهول

:صدر للكاتب والشاعر حسن حامي شعرا باللغة العربية

متاهات الظمأ، 1999

هوس الدوالي، 2006

تراتيل القزوين، 2016 

في كنف الريح، 2020

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com