!! قصة قصيرة : مذكرات حمار
(قصة قصيرة في الأدب السياسي الساخر)
بعد تمحيص وتفكير ، قرر كبير الحمير أن يكتب يومياته في مذكرات ، لتبقى عبرة ودروسا ، يُدوِّن فيها ما مر به من أحداث في حياته ، لتكون تذكرة لباقي الحمير ، ممن لا يحسنون التدبير ، في زمن بات كل شيء فيه يخضع للتغيير ، بعد ربيع البغال والحمير في كثير من البلاد ، حيث طالبوا بأكل ما لذ وطاب ، من الكرز والعنب والعناب ، بدلا من التبن والبرسيم والشعير
جلس كبير الحمير إلى جهاز الكمبيوتر ، بعد أن أخذ دورة عند صديقه ” البغل ” الذي تربطه به صلة قرابة ، في مؤسسة ” مايكرو- زِفت” لتعليم أصول الطباعة ، ولأن الحمير من طبعها الطاعة ، فقد تمكن كبيرهم من استيعاب دروس الكمبيوتر جميعها في أقل من نصف ساعة ، ولأنه سريع الفهم ، فقد شحذ ذاكرته ، بعد أن شحنها كهربائيا ، بوضع كابل سميك من أسلاك الكهرباء ، التي كان يستخدمها الإنسان في عقاب الحمير عند أي ” إحران ” أو ذنب ، في مؤخرته تحت الذنب ، وبعد أن امتلأ بالكهرباء ، المفقودة هذه الأيام في الكثير من البلدان ، أخذ في تسجيل مذكراته المليئة بالأسرار ، حيث قال
-منذ أن كنتُ جحشا صغيرا ، ووالدي المسكين يوصيني بأن أكون خادما مطيعا للأمير ، وللرعية أجمعين ، من الكبير إلى الصغير ، وقد شاهدته وهو يؤدي الأعمال الشاقة بحراثة أرض الزعيم ، المزروعة بكل الخيرات ، ثم بعد أن تنضج وتطيب ، يحملها إلى الأسواق ، وهو أمام السائس يساق ، بالسوط والكرباج ، دون استراحة في الطريق ، ولا التفاف أو اعوجاج ، ودون أن يتمكن من تذوق أي نوع من تلك الفواكه والخضار ، فطعام الحمير ليس أكثر من التبن والشعير، وإذا لم يعجبه ذلك ، سينال أشد العقاب ، بالضرب على مؤخرته بالعصا الغليظة ، وعلى راسه بالقبقاب ، حتى يُسمع له على بعد مئات الأمتار نهيق و” ضريط ” ، من كثرة الضرب والخبيط
تلك كانت مذكرات وذكريات كبير الحمير ، عندما كان جحشا صغيرا ، وهي التي ظلت عالقة في ذهنه ، ولذلك عندما كبر واستفاق ، قرر الانقلاب والثورة من أجل الانعتاق ، بعدما شاهد ما يجرى حوله من ثورات، والتي أتت على الأخضر واليابس ، وحرمت الحمير حتى من أكلة برسيم ، وعندما حضر حاجب الأمير ليصطحبه في مشواره اليومي لقصر الزعيم ، كان نصيبه رفسة قوية برجلي الحمار الخلفية ، أودت به إلى حتفه المحتوم ، والتي بعدها لن يقوم
بعد هذا الانتصار من كبير الحمير، خرج مزهوا ، وقرر التوجه لهم بخطاب أثير ، دعاهم فيه إلى التمرد على أوامر الأمير ، والتوجه إلى قصر الزعيم لتوصيل رسالة مفادها ، أننا لم نعد من أصحاب السمع والطاعة ، وأنه من هذه الساعة ، لا بد من المعاملة الحسنة للحمير ، التي لا بد أن يكون لها نصيب من الحكم ، بعد أن تم اختيار كبيرها ، كزعيم وقائد حكيم وخبير ، سيشارك في حكم البلاد دون تأخير
الأمير وقد رأى هذا التغيير في مجتمع الحمير ، قرر وعلى وجه السرعة أن يهرب من القصر ، قبل العصر ، وأن يتوجه إلى المطار ، وعلى أقرب طائرة يطير ، قبل ان تستولي على الحكم الحمير ، وتطبق عليه الحكم بالإعدام سحلاً بذيل حمار
بعد أن استولت الحمير على قصر الأمير في عاصمة البلاد ، تمدد حكمها إلى باقي المدن والقرى والأرياف والبلدات ، وبدأت تتمتع بما بها من ملذات وخيرات ، بينما كبيرها، يجلس على كرسي الامارة والرئاسة ، يسجل ما حقق من امتيازات
وفي سكرة الانتصار الذي أنجزته الحمير، نسي كبيرها أنها تفتقر للكياسة ، وتتمتع بكثير من الغباء والتياسة ،، فقد غلب على الحمير الكسل والملل ، من قلة العمل ، وركنت إلى هذا الحال ، دون أن يخطر على بالها أي سؤال ، بما هو مُعدٍّ لها في قادم الأيام ، بعد أن سيطر عليها النعاس والنوام ، واصبحت قوما من النيام ، وبعدما أتخمها اللذيذ من الطعام
في هذه الأثناء ، كان الأمير الهارب ، يدبر أمراً للعودة إلى إمارته ، وتحرير البلد من حكم الحمير ، وبعد دراسة عميقة أقر البيان ، وقرر الاستعانة بأقوى الجيران ، ولو تقاسم معهم حكم البلاد ، فاتفقوا معهم على الهجوم في يوم معلوم ، وبينما الحمير في هناء وسبات ، هاجمتهم أرتال القوات ، برا وجوا بالدبابات والطائرات ، موقعة فيهم القتلى والجرحى بالمئات
وهكذا سقط حكم الحمير ، التي لم تحسن التفكير والتدبير ،وعادت السلطة للأمير ، الذي استعان بما في البلدان ، بكل مستشار وخبير ، وخاصة بعد العثور على كمبيوتر كبير الحمير ، وما وجد فيه من أسرار وطلاسم الكلمات ، التي كانت مشفرة بلغة الحمير ، ولم يستطع فكها أي خبير ، وهكذا ضاعت مذكرات كبيرها ، وضاع معها حلمها بحكم البلاد والعباد ، دون إذلال أو استعباد ، من البشر لمجتمع الحمير
د. عبد القادر فارس