في القنطرة جلجلة
في القنطرة جلجلة (الجزء السادس- 5-)
تطورت التحقيقات في ملف مستتر. ظهر شاهد مجهول أخبر المحققين أنه رأى مستتر يدفع زوجته في البئر. وهي شهادة زكاها مفيد، حيث أخبره شاهد آخر بأنه رأى مستتر في محيط البئر، وهو يمسك رأسه بين يديه ويدور كبهيمة مسعورة. وادعى مفيد أنه تحرى الأمر لدى مستتر الذي أنكرفي البداية ثم تراجع في النهاية، وطلب منه البحث عن طريقة لإقناع الشاهد بالصمت، وبكافة الوسائل، وهو الشيء الذي رفضه. ولكن شاهدا ثالثا تقدم إلى الشرطة وأفاد بأن مفيد كان يراقب مشهد المشادة الكلامية بين مستتر وزوجته، وأنه دخل إلى البيت عندما غادره الأول غاضبا، ثم بعد لحظات خرجت محجوبة تجري وهي في حالة غير طبيعية وقصدت البئر، ورمت بالدلو في القاع، لجلب الماء، وتبعها مفيد الذي حاول الإمساك بها، ليقبلها، فامتنعت، فدفعها، فوقعت في البئر. بعدها، فر مفيد على متن دراجة كان يركنها غير بعيد
وجد العميد مجدي وفريقه صعوبة كبيرة في ربط الأحداث بعضها ببعض. لم يكن غبيا. علمته التجربة أن تقدم الشهود بمحض إرادتهم في قضايا القتل لا تكون بريئة بالمرة. تتداخل المصالح، ويتصادم أصحاب النفوذ. فمن يكون هؤلاء؟ هل سيتمخض الجبل عن فأر، ويظهر أن مستتر ومفيد وغيرهما من أبطال القنطرة ليسوا سوى دمى؟ وهل سيكون هو نفسه دمية، وقد أسند إليه التحقيق في قضية مفخخة؟
لم تتوقف مفاجآت العميد مجدي عند هذا الحد. أظهرت التحريات التي قامت بها شرطة جهتي دكالة والشاوية أن أب محجوبة قتل بسبب قضية الإرث، وأنها قد تكون صفيت لنفس السبب. كان الإرث يهم حقولا كبيرة من قصب السكر، يتم استغلالها من قبل عائلة نافذة تبين أنها لا تملك حق ملكيتها، كما استفادت، كما كان الحال بالنسبة لكثيرين، من الغموض حول الأراضي السلالية والملكية الخاصة والأراضي المسترجعة من المعمرين. وقد تمكن أب محجوبة من ربح القضية، ولكنه لم ينعم بذلك طويلا، حيث وجد مرميا بجانب البحر على الطريق بين الجديدة وأزمور في مكان يدعى’عش اللقلاق’. وقد أسرت بنت مستتر البكر للمحقيقين بأن جدها، قبل أشهر، ائتمن أمها على وثائق قامت بإخفائها في مكان قريب من الفرن التقليدي، وكان برفقته شيخ لطيف جدا أهداها هدية في شكل مصحف صغير لا زالت تحتفظ به. وعندما سألها العميد هل تتذكر إسمه، أجابت بأن كان يحمل إسم مناجي، لأنه أتى مرتين بمفرده وسألها عن المصحف الصغير الذي أهداه لها، ولكنها كانت قد ضيعته، فغضب غضبا شديدا. كما أفادت بأن أمها هي التي طلبت منها أن تقول ذلك، لأنها هي التي أخذته منها لتضمه إلى الوثائق التي كانت تخرجها بين الفينة والأخرى، لترتبها وتقرأ بعض الآيات التي لم تسمعها الصغيرة من قبل، لأنها تقرأ القرآن وتعرف كيف تميز بين الآيات. ومرات، كانت محجوبة تدخل في حالة هيجان غير طبيعية، ولا سيما عندما كان مفيد يزورها في غياب مستتر. وأضافت الشاهدة الصغيرة أن شابين ترددا على المنزل أكثر من مرة وطلبا إما كوب ماء، بدعوى العطش، أو قطعة خبز بدعوى حبهما للخبز الأصيل الذي يتم إعداده في الفرن التقليدي
من تخلص من محجوبة إذن؟ قرر العميد اتخاذ الإجراءات المسطرية من أجل البحث في منزل مستتر والأماكن المجاورة. حصل على الإذن بسرعة، نظرا لأن الرأي العام بدأ يتحرك على خلفية فضائح من العيار الثقيل، كما يقال، اختلط فيها كل شيء، وكان الدافع من ورائها الرغبة في الانتقام. توجه العميد وفريقه إلى المنطقة، وبتنسيق مع السلطات المحلية، بدأ حفر جنبات الفرن. وفي وقت قصير، تحولت منطقة الحفر إلى مقبرة صغيرة، حيث اكتشف أن بقايا عظام أدمية لأطفال صغار كانت مدفونة بطريقة منظمة. استنفرت السلطات مزيدا من المساعدين وتحركت مصالح الشرطة العلمية، وكثر الضجيج واللغط. وسؤال وحيد تردد مرارا وتكرارا: لمن تكون هذه الهياكل العظمية ومتى ولماذا دفنت هناك؟ وهل لها علاقة بجرائم بيدوفيلية أو تصفية حسابات بين ورثة؟
لم يعد البحث عن أوراق، قد تكون محجوبة دفنتها بجنبات الفرن، هو الأهم. أتخذت القضية بعدا وطنيا، وصادفت أحداثا أخرى كانت موضوع نقاش كبير من بينها مواضيع الأم العازبة والتجارة في الأعضاء البشرية للأطفال، والإجهاض. ضاعفت منظمات المجتمع المدني من ضغوطها وقامت إحداها، عرفت بجرأتها وشجاعتها، بحملة تحسيسية للوعي بمشكل الأمهات العازبات، كما تقوت شوكة بعض النشطاء للضغط على البرلمان من أحل المصادقة على مشروع قانون الإجهاض، بعد أن اقترحت لجنة مختصة، على إثر نقاش سياسي ومجتمعي ساخن، الشروط التي تخول اللجوء إليه، ومن بينها الحمل عن طريق زنا المحارم أو الاغتصاب
بتزامن مع التحقيق، استمر الحديث عن المشروع الكبير الذي يهم التجزئة السكنية الكبرى، والتخلص مما تبقى من مدن الصفيح، وتأهيل المبنى الموروث عن المجزرة البلدية، ونقل سوق الدجاج إلى مكان آخرــ قد يكون المكان الذي كان من المفروض أن يبنى فيه ملعب الدار البيضاء الكبير لكرة القدم ــ وجعل القنطرة قبلة سياحية. بدأ العمل في التجزئة أولا. ولكن الأمور لم تسر على أحسن مايرام، والسبب هو أن توكيل متروي كان ضروريا رغم أن ‘ݣلوبال شيرن وان’ ألغته، بإرسال إشعار عن طريق البريد الإلكتروني، وهو ما يعتبر غير كاف، لأن إلغاء التوكيل يجب أن يكون مصادقا عليه وبحضور فعلي لممثل للشركة أو من ينوب عنها. كان من الممكن أن يعهد بإتمام هذا الإجراء إلى معروف، إلا أنه بدا أن الشركة لم تعد ترى فيه الشخص المؤهل للكلام باسمها. كان ورقة رابحة فيما مضى، ولم يعد كذلك اليوم؛ حكاية الليمون الذي يعصر ويلقى به فور نفاذ آخر نقطة. ورغم ذلك، كانت الآلات تشتغل لمدة قبل أن يتم إسكاتها، ثم تعود للاشتغال وتسكت من جديد في لعبة أرهقت الساكنة التي منعت من الاستفادة من فرصة اقتناء عقار في التجزئة لأسباب واهية وصفها كثيرون بالعنصرية
أعادت ‘ݣلوبال شيرن وان’ الاتصال بمتروي عن طريق جنيفر. كم ضحك متروي يومها! وكان الهدف، هو استعادة التوكيل لتسهيل إجراء إلغائه وتحرير توكيل جديد. وعدته بمكافأة كبيرة، وبفرصة تأمين تأشيرة للسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، والقيام بالإجراءات اللازمة لاستقراره، رغم الشروط الصعبة التي أدخلتها الإدارة الجديدة والموجهة ضد مواطني بعض البلدان، لا يدخل المغرب ضمنها. سخر متروي منها، لأنه لم يفكر يوما في العيش بعيدا عن دياره. كما أنه يعلم ما آلت إليه جماعة من الناشطيين الحقوقيين والسياسيين وغيرهم الذين فضلوا الدفاع عن آرائهم بعيدا عن الساحة، وعاشوا في أبراج عاجية، قبل أن يعودوا بخفي حنين. ولكنه سايرها وعبر عن استعداده تسليم التوكيل، ولكن أمام سلطة لها صلاحية ذلك لتجنب مفاجأة غير سارة في المستقبل. انتظر أياما، ولم يتصل به أحد. قرر أن يعتكف في غرفته المعلقة سيما وأن أيامه للعيش فيها أصبحت معدودة
وذات يوم، أتى رائد إليه، وهو يلهث وكأنه ركض أميالا، ليخبره بأن حطاب وسامي ومستعد وابنته زينب يتجولون قرب القنطرة ويسجلون ملاحظات. وكان معهم مهندس معماري مشهور، سبق له وأن أنجز تحفا معمارية رشحت لجائزة ‘أغا خان للعمارة’ أكثر من مرة
:سمع رائد سامي يقول
ـــ أنا لن أغامر قبل أن تصفوا الأمور
:وأجابه مستعد
ـــ سنصفي الأمور. السادة الذين تمثلهم زينب يعرفون من أين تأكل الكتف
ـــ سنشرع في مشروع التجزئة، أوضح المهندس
ـــ ومتى سينتهي العمل؟ سأل سامي
ـــ سيستغرق العمل ثلاث إلى أربع سنوات، أتمنى أن تكون مشاكل القنطرة قد حلت ليكون الربط بينها وبين المشروع تحصيل حاصل.ـــ متروي هذا يزعجني! تذمر سامي
ـــ بلا عنف! اعترضت زينب، إنه ليس سوى مطية
ـــ حاولت جينفر ولم تنجح، قال سامي. أنا مستثمر ولست بمحتال أو مجرم؛ فقط للتذكير
ـــ نعرف كيف نقنعه، تدخل حطاب
ـــ كيف؟ سأل سامي وعيناه تنضحان بالشك
ـــ توجد في حياته امرأة قارئة الفنجان
ـــ لا أفهم
ـــ قارئة الفنجان أغنية مشهورة للمطرب عبد الحليم حافظ، واصل حطاب
ـــ أعرف عبد الحليم حافظ، أنا مغربي، هل نسيت؟ احتج سامي
ـــ يقال إن هذه الأغنية كانت آخر ما غنى عبد الحليم حافظ في حفل حي. ويحكى أنه كان يتطير منها، وأنه ندم على أنه رضخ لإلحاح نزار قباني، الشاعر، الذي أجبره على قبولها وإعطائها لمحمد الموجي لتلحينها. لم يعش العندليب طويلا بعد أدائها
ـــ أنا لا أومن بالخرافات. عندنا مشروع من ذهب، ولا بد من إنجازه مهما كان الثمن، جزم سامي
ـــ بعض الجهات، من ناحيتكم، غير مرتاحة لأننا نسير بسرعة مبالغ فيها
ـــ لا يهم. نسرع، وإذا حصلت حوادث، نشرع
ـــ التشريع يأخذ وقتا كبيرا
ـــ ولذلك، فإن الديمقراطية، الفلسفة العظيمة ــ والتي أومن بها في حدود ــ ليست جيدة في أحيان كثيرة. التطور يتطلب الجرأة والقدرة على اتخاذ القرارات الاستراتيجية في الوقت المناسب، أي من قبل الذين لهم دراية كاملة بتضاريس السياسة وتشعباتها ومصائبها
ـــ أستسمح، ولكن ما نقوم به، لا علاقة له بالديمقراطية، لاحظ المهندس
ـــ أستسمح بدوري، وأطلب منك أن تحتفظ برأيك لنفسك، انتفض سامي؛ وإذا كنت ترمز لمبدأ التقادم، وما إليه من مبادئ جوفاء، فهذا لا يهمني. التقادم لا يجري على أمور الدين
ـــ وما علاقة الدين بكل هذا؟ سألت زينب، وهي تعض على شفتيهاـــ علاقة كبيرة وعضوية ورائعة. سوف تفهمبن عندما تكتمل المشاريع التي نخطط لها. ثم لا تنسي من أنت؟ وكيف وأين كنت؟ ولا أنصحك بالتكلم على التقادم والتفاهم والتقاسم وحسن النية والحكمة في الطنجية
ـــ سوف نهتم بالأمر، تدخل حطاب
ـــ أعرف ذلك. أتذكر كم كنت سعيدا وأنت تتجول في شوارع القدس؟ أجابه سامي بنوع من التهديد
ـــ سوف نقوم بالمتعين، قال مستعد
ـــ أول شيء، متروي هذا… يجب إبعاده بهدوء وسلام إذا أمكن
(يتبع)