في القنطرة جلجلة
في القنطرة جلجلة (الجزء السادس-4-)
بعد أن غادر مفيد ومحاميه، اجتمع المحققون، للنظر في الاستنتاجات التي توصلوا إليها. اقترحت إلهام أن يتم استدعاء انتظار. كان اقتراحا وجيها، ولكن مجدي كان له رأي آخر. بالنسبة له، انتظار ذكية جدا، ولا يمكن استجوابها إلا بعد النيل من الأشخاص موضوع الشبهات. فربما تكون هي نفسها متورطة في حادثة زوجها. الأهم في الوقت الراهن، يرى العميد، هو اكتشاف هل مستتر قتل زوجته أم لا؟ لأن هذا الموضوع هو الذي يشغل بال الرأي العام المحلي ازدادت القضية تشويقا عندما حل مبارز ضيفا على متروي. كانت دهشة هذا الأخير كبيرة. لم ينتظر كي يصب جام غضبه على صديقه، الذي التزم الصمت في أول الأمر، قبل أن ينفجر بدوره ويخبره بأنه أتى ليحتج عليه، لأنه سلمه ظرفا وبداخله مخطوط لا قيمة له. وأضاف أنه انتقل إلى تافراوت كما أوصاه متروي لتسليم المخطوط إلى صهره في حالة غيابه لمدة طويلة؛ وهو ما قام به، ليفاجئه هذا الأخير برفضه تسلم المخطوط بدعوى أنه لعنة كبرى. لم يفلح مبارز في الاتصال بمفتاحة ولا بأي شخص مهم في القرية، حيث تجلى أن كل من سألهم يتوجسون من شيء ما. الوحيد الذي حاول استدراجه للكلام، هو شخص إسمه محمد. سأل كثيرا عن متروي، وعن مكانه وأسئلة غريبة أخرى
شعر متروي ببعض الندم وطلب من صديقه المعذرة
ـــ آسف جدا. لكن أطلب منك أن تتفهم أنني في ورطة
ـــ وما مدى خطورة الورطة؟
ـــ أبعد مما قد تتصور
ـــ هذا المخطوط الذي سلمتني عديم الفائدة
ـــ أبدا، هو مهم، ولكنه كان جزءا من خطة التمويه التي تصورتها
ـــ ولماذا رفض صهرك أن يتسلمه؟
….ـــ لأنه متورط في قضايا
ـــ جنائية؟
ـــ لا، أخلاقية. صهري كان شاهدا على أشياء، والتزم الصمت. ولا يرغب أن تتجه إليه الأنظار، مثله في ذلك مثل عدد من أعيان المنطقة
ـــ صراع حول الأرض؟
ـــ الأرض والسلطة والسمعة والنسب والأنفة والتبجح وأشياء كثيرة
ـــ ولماذا أنت مختبئ هنا؟
ـــ وكيف علمت بوجودي في هذا المكان، أسألك أولا؟
ـــ أخبرني معتصم. كان في حالة غير طبيعية. طلب مني أن أتدخل لكي أقنعك بالرجوع إلى تافراوت ووضع حد للمهزلة
ـــ أية مهزلة؟ أنا ضحية مثل الآخرين. وحول سؤالك، أنا لست مختبئا، الكل يعرف مكاني، والدليل أنك وصلت إليه بكامل السهولة
ـــ المهم بالنسبة لي هو إعادة المخطوط إليك
ـــ احتفظ به كتذكار. إنه يتكلم في بعض صفحانه عن هندسة القِطَّارات
ـــ صحيح؟
….ـــ صحيح، هذه التقنية الفريدة التي اشتهرت في زاكورة وتافيلالت وفي أماكن أخرى
….ـــ إذن سأحتفظ به. وسأقرأه
:وقبل أن يكمل جملته، سمع صوتا يقول
ـــ لا لن تحتفظ به! سنحتفظ به
كان ذلك صوت المفتش مترجي ترافقه المفتشة إلهام
ـــ السلام عليكما، أضافت إلهام. ربما نحن جئنا في الوقت المثالي
ـــ ربما، سخر متروي
ـــ من تكون أنت يا سيدي، سألت متوجهة بالكلام إلى مبارز؟
ـــ أنا مبارز، صديق متردي
ـــ ممتاز. أين تسكن؟ وماهو الغرض من زيارتك؟
ـــ أسكن في نواحي تاحناوت، وأشرف على تعاونية نسائية بمولاي إبراهيم. وسبب زيارتي هو إعادة مخطوط كان إئتمنني عليه
ـــ وما أهمية المخطوط؟
ـــ يتحدث المخطوط عن القطَّارات
ـــ وما أهمية القطَّارات؟
:تدخل متروي
ـــ كانت القطَّارات تقنية رائدة استعملت كثيرا في الماضي من أجل اقتصاد الماء واستعماله للشرب والسقي في الأراضي القاحلة أو التي لا تعرف تساقطات مطرية منتظمة
ـــ أنا أشك في كونك أتيت من بعيد، يا سيد مبارز، لتسلم مخطوطا يتحدث عن قطَّارات لم تعد ذات فائدة، عقب مترجي
ـــ أنت حر في ألا تصدقني، ولكني لم أكذب
ـــ ليس هذا ما يهمنا، سنصادر هذا المخطوط وسنعيده إلى السيد متروي عندما نغلق الملفات العالقة، لاحظت إلهام، التي تابعت
….ـــ يبدو أنك لا تأبه بالسلطات، أيها السيد متروي
ـــ كيف لا أبه؟ ما الذي أمرت أن أقوم به ولم أفعل؟
ـــ لِمَ لم تغير اللافتات والمقولات؟
ـــ سوف أقوم بذلك
ـــ لمعلوماتك الشخصية، ونحن نتقدم في التحقيقات، نتأكد، فعلا، أنك أصبحت شاهد إثبات
!ـــ إثبات ماذا؟ اتركوني وشأني
ـــ سنتركك عندما ستتحمل مسؤوليتك كاملة. إلى اللقاء قريبا، سيد متردي، ختمت إلهام
:وعندما غادر المفتشان، سال مبارز
…ـــ غريب أمر هذين المفتشين، مرة ينادوك باسم متردي ومرة باسم متروي
!ـــ تلك حكاية طويلة، ولا تسأل فريد الأطرش عنها
ـــ وما حكاية اللافتات؟
ـــ أنظر في جنبات العربة
:تنقلت عينيا مبارز ما بين اللافتات وقرأ بصوت عال
ـــ “قمة الذكاء أن تكون غبيا …ولن تنفعك…”؛ “أحلى تجليات السعادة لحظات جنون!”؛ “الحب رصيد ينتهي؛ ليس إلا!”؛ “أكتب قبل أن يجف المداد؛ سيحفظ تعبك عسس المجهول”؛ “السماء سقف والأرض سرير”، وبينهما يتنمّر الأثيـــ أتذكر هذه المقولات، أو البعض منها. كان أستاذنا مناجي يرددها كثيرا، إذا لم تخني الذاكرة
ـــ ذاكرتك قوية. والبعض الآخر من تأليف جدي
ـــ كان جدك عالما كبيرا
ـــ وكان عاشقا كبيرا أيضا
ـــ عادي جدا، لأنه كان متصوفا
ـــ بين جدي والتصوف دزينة من الزرابي، كل خيط فيها يتنهد بالهيام
ـــ لا أفهم
ـــ حسنا ألا تفهم
ـــ أصبحت غريب الأطوار
ـــ ربما
ـــ أنت لم تنس انتظار
ـــ لا، لم أنس
ـــ وزوجتك؟
…ـــ اسأل فيروز هذه المرة: زروني كل سنة
!ـــ أنت غريب الأطوار فعلا
!ـــ دعك من كل هذا الآن واسمح لي بدعوتك إلى مكان أحبه كثيرا
ـــ ما اسمه؟
ـــ تعال معي وسوف تعرف
ـــ أتمنى ألا تكون الدعوة مناورة من مناوراتك
ـــ ثق بي، يا صديقي، سوف ترتاح كثيرا بعد زيارة المكان
ـــ فلنتوكل على الله
:استأذن متروي صديقه ودخل إلى الغرفة الصغيرة، حيث جمع بعض الأغراض ووضعها في كيس صغير وقال
ـــ إتبعني
:كانت وجهة متروي الحمام الشعبي. وما أن وصل إلى هناك، حتى بادره مصطفي
ـــ أين غبت يارجل؟
ـــ إذا لم تسحب هذه العبارة، فلن ألج الحمام مرة أخرى
ـــ أنا أمزح معك. ومن يكون هذا الضيف الذي تبدو عليه علامات الوقار؟
ـــ صديق عزيز جدا. وأنت مطالب بالاعتناء به
ـــ كما تأمر
ظل مبارز ينقل نظره بين مصطفى ومتردي، وهو مندهش من المرونة التي يتعاملان بها مع بعضهما البعض. وبينما كان متردي ومبارز يخلعان ملابسهما، التحق بهما صاحب الحمام، ليرحب بهما، ثم بعد هنيهة، سأل
ـــ هل كل شيء على ما يرام؟
ـــ نعم. لماذا تسأل؟
ـــ سمعت كلاما، وأريد أن أتحقق منه معك
ـــ ماذا سمعت؟
ـــ تعتقد الشرطة أن جرائم قتل اقترفت خلال السنوات الأخيرة، وأن القنطرة كانت مسرحا لها
ـــ هذا الاستنتاج معروف وقد سمعته من العميد مجدي
ـــ أظن أن الجرائم التي أتحدث عنها لا تدخل في خانة تلك التي أخبرك بها مجدي
ـــ لا يهمني الأمر. أنا وصديقي مبارز جئنا لنستحم. وسوف أتحرى الأمر، إذا كان ذلك سيفيد
ـــ كما تشاء
جاء دور مصطفى. التزم الحذر في الأول، لأن مشغله لم يكن قد غادر بعد. أظهر نوعا من الحيوية لم يعهدها متروي فيه. كان يتصرف وكأنه يغلي على نار. أنهى العناية بمبارز في وقت قياسي. ثم اهتم بمتروي
ـــ سمعت أنك كنت بطل الفيلم بدون منازع
ـــ من قال لك هذا؟ الناس تبالغ. والفيلم لم يكن جيدا بالشكل الذي كنا ننتظره
ـــ المهم هو أنك أصبحت مشهورا
ـــ أعلم ذلك، ولا أكثرت. ما الذي تريد أن تقوله بالضبط؟ أنا أعرفك جيدا، لا تستغبيني، أفرغ ما في جعبتك
ـــ طيب. علمت أن مستعد سيضع يده في يد حطاب ويقومان بأشياء لا تبشر بخير بالنسبة لنا وللقنطرة
ـــ أفصح، أنا لم أفهم
ـــ هناك خطر يتهدد القنطرة
ـــ من قبل مستعد وحطاب؟
ـــ بالفعل
ـــ ومتى كان حطاب أو مستعد يشكلان خطرا من قبل؟ إنهما مجرد كومبارسات
ـــ أعرف ذلك؛ إنهما مفوضان من قبل من يشتغلانهما لكي يحدثا شيئا ما ليس جيدا بالنسبة للقنطرة. وبالنسبة لك
ـــ أنا؟ لماذا؟
ـــ لا أعرف. ولكني سمعت مستعد يتحدث في المحمول مع شخص ما وأفضى إليه بما يشبه ما أخبرتك به اللحظة
ـــ أنا دائما أحاول أن أفهم ما تقول، ولكن لا أخفيك أنني لا أفهم شيئا
ـــ مستعد تغير كثيرا. أظن أنه فقد السيطرة على الوضع، ولاسيما بعد أن أصبحت إبنته الصغيرة، زينب، تتلاعب بأختيها وبرجالهما. كما اتضح أنها كانت وراء اتهامك بالحصول على المال من قبل الخليجيين
ـــ لم تفلح خطتها إذن؛ هذا إذا كان ما تدعيه صحيحا
ـــ معلوماتي ومصادري موثوق بها
ـــ ليكن ما يكون! حان الوقت لطي كل الصفحات والرحيل
ـــ لن تتمكن من الرحيل. الجميع على رأي واحد، وهو أنك جزء من المشكلة ــ إن لم تكن أنت المشكلة كلها
ـــ سمعت افتراء من هذا النوع مرات، ولست أكترث
ـــ على هواك أنت الذي لا يهمك سواك، فليس الدخول من الباب كالقفز من الشباك
!ـــ كم أنت رائع يا مصطفى وأنت تحيك القصص بالسجية، وكأنك تمسك بخيوط القضية
ـــ أنا نبهتك، ودوري انتهى. كما أنني انتهيت من مهمتي الآن؛ هل تريد وصلة تدليك؟
!ـــ لا، شكرا. اهتم بمبارز
ـــ هو الآخر، لا يريد تدليكا
ـــ إذن، شكرا جزيلا، وسنراك في قاعة الاستراحة
خارج الحمام، لاحظ متروي أن صديقه التزم الصمت، وبالكاد حرك رأسه عندما اقترح عليه أن يعرجا على ‘المنتزه’ للاستراحة وتذوق شاي بالنعناع. سأله
ـــ ماذا بك؟
ـــ الحياة
ـــ مالها الحياة؟
ـــ قطعت مسافة طويلة لأكتشف أنك لم تتغير
ـــ ولمَ تريدني أن أتغير؟
ـــ لست أدري. هل تذكر خلوتنا في إيموزار إد أوتنان؟
ـــ نعم
ـــ اعتقد أنني لم أغادرها أبدا
ـــ ولا أنا. في رأيك، ما هو السبب؟
ـــ لفحة الشك، تضارب المعتقد، السفر بين تيارات الوثوقية والسباحة في بحار التردد التي لا تنتهي
ـــ وما الذي يمنعك من أن تغير ما يجب تغييره؟
ـــ الوقت
ـــ ماذا عن الأولاد؟
!ـــ إسأل مفتاحة
ـــ وما علاقتها بالأولاد؟
ـــ إسألها؟
ـــ غريب أمرك. أنت تتحدث مثل معتصم
ـــ اسألها أيضا عن معتصم
ـــ لن أسأل أحدا. وربما لن أنفذ بجلدي من الوقائع التي تستحوذ على أذهان الناس هنا
ـــ سأغادر
ـــ قبل أن تغادر، سأسلمك شيئا؛ ولتحتفظ به هذه المرة، وإذا لم تستطع، قم بإتلافه
هجم المساء على ‘المنتزه’، فتوجه الصديقان إلى العربة. لم ينتظر مبارز طويلا. سلمه متردي مفكرته البنية ملفوفة في ثوب أخضر اللون، وطلب منه تسليمها إلى أمه إذا حدث له مكروه. وغادر مبارز على الفور
(يتبع)