في القنطرة جلجلة
(الجزء 3) في القنطرة جلجلة
ترددت مفتاحة قليلا. كانت تعبث بخصلة من شعرها وتحاول السيطرة على مشاعرها. انتبه متروي إلى ذلك، ولكنه لم يتدخل. منذ كانا صغيرين، اعتمدا نوعا من قانون سلوك يتلخص في ترك مساحة كافية للآخر عندما يكون في حيرة ويريد الكشف عن شيء مهم. جمعت مفاتحة كل قوتها، وقالت
ـــ هناك شيء آخر، محمد جن جنونه لما رأى معتصم بجوار منزلنا. إنه كثير الغيرة كما تعلم. المهم، هو أنه أصبح يحوم حول منزلنا مؤخرا؛ وكي أكون أكثر وضوحا، أقول إنه أصبح يحوم حولي
ـــ لا، أصدق هذا
ـــ وقد أسر والده لأحد الجيران أنه… ربما يريد أن يتقدم لطلب يدي
ـــ لا أفهم. هل نسي من أنت؟ المشاغبة أيام ابن زهر؟
ـــ الذاكرة القوية لا تسعف الجميع؛ ثم هناك أشياء أخرى يا أخي العزيز تعتبر النساء فيها أذكى من الرجال ألف مرة
ـــ ومع ذلك، لا أفهم، هو غيور على زوجته السابقة التي طلقها… وفي نفس الوقت يريد الزواج من أخت شخص لا يحبه إطلاقا، وهي مطلقة. كما أن أباه، وهو الرجل القوي الذي لا يعرف للمرونة معنى، لا يرى مانعا من ذلك، رغم أنه يعلم جيدا أن ابنه الوحيد لن يترك ذرية
ـــ تماما. يبدو الوضع غريبا. والأغرب، هو أنك لم تدافع عني عندما أرغمني أبوك على الزواج
ـــ لا أحد كان يمكنه أن يدافع عنك. كنت مشاغبة ولسانك طويل
ـــ ليس هذا ما يشفع لك. ولكن
ـــ ولكن ماذا؟
ـــ علمت أن محمد ينتظر عودتك للقيام بما يجب القيام به
ـــ وأنت؟ ما هو رأيك؟
ـــ رأيي سيكون رأيك
ـــ أنا لا أحب هذا الشخص. سرق مني المرأة التي أحببتها. والآن يريد أن يسرق مني أختي
ـــ عذرا يا أخي، هو لم يسرق منك شيئا. أنت الذي تخليت عن الغجرية
ـــ أشياء مهمة تغيب عنك حول ما تسمينها غجرية. لو عرفت من أين تنحدر أصلا، لغيرت رأيك حولها
ـــ من تكون؟
ـــ سوف تنكشف الأمور ذات يوم
ـــ لم لا تخبرني الآن؟
ـــ الأمر سابق لأوانه. كل ما يبدو لنا واضحا وبديهيا، ليس كذلك
ـــ الغجرية لا تهمني. لتكن من تريدها أنت أن تكون. صدق من قال إن الحب أعمى. المهم، هو أنني لم أستقر بعد على قرار. ولكن، مبدئيا على الأقل، سأعالج الموضوع على طريقتي
ـــ الرأي رأيك، كما يقال. ولكن هناك إشكال آخر، كيف ستعالجين موضوع ابن عمنا؟
ـــ مختار؟ لا عليك. أنا أعرف كيف أروضه. إنه يتكلم كثيرا، ولا يمكن له أن يحتفظ بسر
ـــ لا تنسي أنني كتبت له تفويضا
ـــ أعلم. أخبرني أن التفويض صوري من الألف إلى الياء. قلت لك إنه لا يحتفظ بسر. ويمكن أن أجزم بأن ساكنة المنطقة كلها على علم بذلك
ـــ لك واسع النظر
ـــ لم تسألني عن حال مليحة؟ لم تكرهها إلى هذا الحد؟
ـــ أنا لا أكره أحد. أسأل عن الأقارب أولا. كيف حالها؟
ـــ إنها أكثر غضبا من محمد ومن أمنا. إنها تكره الغجرية. يكفينا مسلسلات الطلاق. إذا طلقتها، ستقتل نفسها
ـــ ومن قال إنني سوف أطلقها؟
ـــ أنا وعيناك
ـــ خيل لي، ذات يوم، أن أحدا كان يضايقك في هذا الجوار
ـــ كثيرون يا أخي. هل نسيت المشاغبة التي أكون؟ أنا فقط أمزح. كان هناك شاب… أصغر مني… حاول مرة أو مرتين، وأسمعته ما لم يكن يتصور أن يسمعه. ثم، بعدها، لما زرتك آخر مرة، كان كالحمل الوديع. ثم إنك تعرفه، ولكن لا داعي لأن أفتح ملفا جديدا قد يشغلك عن الأهم
ـــ ملف جديد؟ أنا خيل لي أنك كنت هنا… ولم تزوريني. وكان هناك أحد الشباب يسير خلفك
ـــ أنت مخطئ. منذ دخول قانون منع التحرش ضد المرأة، تطورت الأمور، أصبح الشباب ــ وغير الشباب، إياك أعني واسمعي يا جارة ــ أقل جرأة. يحيا الزجر
ـــ رغم ذلك، أعتقد أنك كنت في الجوار
ـــ أنت واعتقادك إلى الجحيم يا أخي العزيز
ـــ وماهو الملف الجديد؟
ـــ ستعرف كل شيء في حينه
ـــ متى سأراك؟
ـــ كل شيء في حينه، قلت لك. إلى اللقاء
عقد الاجتماع المنتظر في منزل مفيد، الذي كان غير بعيد عن المنزل الذي عقد فيه قران انتطار ومستتر. إضافة إلى مستتر ومفيد، حضر مستعد ومنتصر؛ وقد أطلقوا على نفسهم إسم ‘جماعة دار بوعزة’. لم يحضر ميمون والحطاب، بعد أن كانا قد أكذا حضورهما سابقا. في جملة مختصرة، يمكن الجزم بأن الاجتماع لم يمر في أحسن الظروف، وأن الجميع خرج محبطا. ما السبب؟ عدة أسباب في الحقيقة. الإعداد لم يكن جيدا، الحضور كانوا من أعيرة مختلفة، وسقف الانتظارات كان عاليا، والامكانيات لم تكن متوفرة. عند بداية الاجتماع، حاول مفيد السيطرة على الوضع، لأنه هو المستضيف، ولأن وضعه الاجتماعي يعطيه أفضلية لا تتوفر عند الحاضرين الآخرين. بدا ذلك جليا من خلال نوعية الأكل والأثاث وغيرها من مظاهر التبجح ــ قد يقول قائل إنه يعبر عن ذوق سيء. طيلة الاجتماع، كان مستتر يتبادل النظرات مع منتصر، وكأنه يستشيره قبل إبداء أي رأي. بينما عمد مستعد إلى التدخل بين كل ثانية ودقيقة، وكأنه يريد أن يؤكد حضوره. وكان تصرفه يثير بعض الحرج للحاضرين. لم يتقدم أي من المشاركين بفكرة تفيد، كان باديا على الوجوه أن غياب الحطاب وميمون سيؤثر كثيرا على نتائج الاجتماع. كان لا بد من حفظ ماء وجه الجميع، فاقترح مفيد أن تكون الخطوة الأولى، بعد الاجتماع، هي الطعن في بقاء متروي مسؤولا عن القنطرة، ولم لا طرده؟ فإذا تم إنجاز ذلك، سيكون من السهل إرضاء المتغيبين والتخلص من ‘ݣلوبال شيرن وان’. لم يحظ الاقتراح بالموافقة، نظرا لعدم جديته، فرفع مفيد الاجتماع. هل انتهى كل شيء؟ أبدا، بدأت الحرب الفعلية، واستعد كل واحد من الحاضرين والغائبين لشحذ أسلحته تحسبا للمعركة الكبرى. وكان من أهم وأفتك الأسلحة، حزمة المعلومات السرية التي يتوفر عليها كل واحد عن الآخرين ويمكن استعمالها ضدهم
في الوقت الذي عقد فيه الاجتماع في منزل مفيد، كان ميمون وحطاب يتداولان فكرة اقترحها سامي، وهي فتح مجمع يضم مطعما ومقهى ومكتبة وحديقة ذكية تتقاطع مع المسجد والكنيس والكنيسة، كمرحلة أولى، قبل ربط القنطرة بالتجزئة التي اقتنتها الشركة العالمية في المرحلة الثانية. ماهي العلاقة بين ميمون وحطاب؟ ميمون، شخص مغامر، عرف عنه جنوحه إلى تطبيق أفكار لا تخطر على بال أحد. ومن بين الأفكار التي استحوذت على ذهنه، فكرة قنطرة معلقة على نسق القنطرة الحقيقية تكون على شكل مقهى من طابقين؛ طابق أول لخدمة عشاق تذوق القهوة النادرة والفواكه الغريبة المستوردة من جزر الكاريبي وأمريكا الوسطى؛ والطابق الثاني يوضع تحت تصرف عشاق القراءة ويضم كتب وأشرطة مدمجة وغيرها من وسائل الترفيه. لم تكن فكرة ميمون عبثية، بل كانت محاولة إعادة تطبيق فكرة نجحت في السابق، وهي مقهى ‘ريكس’ في الدار البيضاء. هذا المقهى الأسطوري، الذي أرخ لأحداث الفيلم الشهير ‘كازابلانكا’، رغم أن الفيلم لم يصور أبدا في هذه المدينة، ولكن سيدة أمريكية ذكية استعارت الفكرة وفتحت مطعما مشابها، أصبح، مع مرور السنين، مكانا محببا لدى السياح ونخبة من المغاربة العاشقين لنوع راق من الترفيه. أعجبت الفكرة حطاب، الذي نقلها إلى سامي. تحمس لها كثيرا، لأنها تدخل في إطار مشروعه الكبير الذي سماه ‘إعادة ربط الجسور مع الجذور.’ هذا المشروع تم الترويج له عن طريق حطاب. حطاب، الذي وجد نفسه غنيا بين عشية وضحاها وأصبح عراب رحلة مدينة القدس التي حولها إلى أصل تجاري، رغم أن ما تبع رحلته المشهورة، كانت سفرياته المتعددة إلى تركيا واليونان وقبرص