في القنطرة جلجلة

في القنطرة جلجلة
صورة الغلاف للتشكيلية الازربيدجانية جميلة هاشموفا

في القنطرة جلجلة

في القنطرة جلجلة: الجزء الثالث (6)

تناول المخطوط، وفتح إحدى صفحاته حيث أخفى به رسالة أولى. تردد، أغمض عينيه، ثم بدأ في القراءة
“أيتها القريبة البعيدة سأكفر بالنقط والفواصل لعلني أرغم الغوغاء على صرف أنظارها عني وعنك وما ذلك عليهم بصعب هم الذين أنكروا على الأحبة أن تصيب في ميولها ما هي ترضاه أهلا لفؤادها وما تراه حقا يضخ في شرايين من يحب دماء جديدة كل يوم وهل من حظنا الموبوء أن ننام على صخرة الرفض والمياه جارية تحت أقدامنا  وهل من صواب القول أن نجزم أن الطريق الوحيد إلى السعادة واحد ونحن نرى في كل يوم صخورا تتكسر من ضربة منقار عصفور مهاجر يداوم على السفر وهو لا يعلم أين سيعجز ريشه المنفوش عن مسايرة الرياح ليسعف جناحيه كي يطيرا إلى الأبد أنا وأنت نعلم أن الظلم نعيشه قبل أن نعيشه فعلا فالافتراض نعمة حين يكون الواقع خدعة وإني بك لمتيم إلى حد النخاع وهل لأن مكانتي بين القوم عالية أعيش ألم العزلة التي فرضتها على قلبي وهل الخشوع إلا لحظة تأمل وليس له من فائض في عالم العشق الذي أريده لك ولي نقطة رذاذ يا من أراها مقبلة مدبرة في الليل وفي النهار تستفز كبريائي وكأنها تلعن إلحاحي أنت التي لا أسطيع إيذاءها ولو أني أستطيع في كل لحظة وحين هل كتب علينا أن نتعس لأن الطبيعة دجنت من قبل من نسي أو تناسى أنها تتكيف لم لا نتكيف مع الجديد حين تزل قدم القديم  ولا يستقيم شيء بعده يا حياتي أين المفر من موت محقق حين ينزف الدم حتى آخر قطرة و يعوض بزخات دخيلة قد تكون أي شيء إلا ماء”
توقف متروي عن القراءة. يا ليته لم يبحث في الصناديق! يا ليته سمع بنصيحة أمه، عندما قالت ” الرؤية بالعين أبلغ من أية رواية! ماذا ستستفيد يا بني من النبش في الماضي؟ هل تظن أن فطنتك أعمق من فطنة من سبقوك؟ أترك الزمن يعدد مروره ويوثق ما يراه جديرا بالتوثيق! الزم حدودك! من أدراك بأن من بدأ الحملة يريد أن تكتمل في وقتها؟ ما ترك جدك ليس كتابا مقدسا. قد يكون أخطأ ـــ وأعلم أنه أخطأ كثيرا في أشياء أعرفها من خلال رواية جدتك. أعرف أنك تريد أن تنتقم لكرامتك. تلك الفتاة لا تستحقك! لا تفسد حياتك لأن من تحبها خذلتك ــ أو أنها أجبرت على خذلانك! البشر كثيرون، وأغلب الأحياء لم يكونوا ذرية لقصة حب مثالية. إسمعني جيدا، يابني، ما تحسبه اكتشافا يعرفه علية القوم، ولكنهم لا يريدون فتنة. فرجاء، ولدي، لا تشعل الفتنة! والأجدر بك، أن تسافر بعيدا حتى تهدأ الأوضاع.”
كم كانت نصائح أمه ثمينة، ولكنه لم يعمل إلا بالقليل منها. فلتت دمعة مارقة من عينه، وتركها تسقط على المخطوط. عاد للقراءة
” أكاد لا أسمع غير صوتي وأنا أقطع غرفة نومي ذهابا وإيابا لايهمني سخط الأهل ولا نرفزة الجيران وأتمنى أن أخنق الأثير حين لا يأتيني من عندك خبر أو أن أسجنه حين أتنفس عطرك في الضاحية هل كان من العدل أن تنامي في حضن غيري وأن أنام في حضن غيرك ولكم زرت المستحيل أقدم نفسي قربانا له ولكم حز في نفسي أن دمي لا أريج له بل يحدث القرف ويخلف العفن وحق الأذكار التي أرددها في حب الأعلى أنني ما كنت أرددها إلا و رجائي أن أخترق الحدود بيننا وأغرفك مثلما أغرف لبن البعير وهي تطعم وليدها أول جرعة كي يستقيم على قدميه وما أنا بأناني وما أنا بقاطع رزق وما أنا بحرباء لا تخاف من شيء سوى ألوانها وتخشى أن لا تفيد في لحظة العطاء ولكني أتألم كثيرا لأن الأثير والأذكار واللبن والحرباء لا تمدني بما أنا أشتهيه كي أسبح في سواد شعرك وأشعر بالطمأنينة لأن لا أحد يراني غير نفسي تسبح في نفسي لتنفذ إليك”
لم يستطع إتمام القراءة. تذكر آخر يوم رأى فيه تلك التي لم تف بوعدها ولم يكن، هو نفسه، قادرا على الوفاء بوعده. كانا جالسين فوق الهضبة في مرتفعات ‘أݣادير أُو فِلَّا’، يراقبان البحر من بعيد ويتسليان ــ أو كان يحاولان ــ بعدِّ مراكب الصيد التي كانت تبدو كنقط سوداء صغيرة تتقاذفها الأمواج. لكنهما كانا يتظاهران فقط، فبداخلهما ما يشبه بركانا ويكاد أن ينفجر؛ وكأن ترددات زلزال أݣادير، قبل خمسين سنة، استعادت حيويتها من جديد. كانا يعلمان بأن اللقاء بينهما مهم وحيوي لاستمرار علاقتهما. وكانا يعلمان أيضا أن المعطيات والظروف تسير في غير صالحهما. كانا على مفترق الطرق. الدراسة الجامعية انتهت بالنسبة إليه، بينما كانت تنتظرها سنوات أخرى لإتمامها، رغم أن فارق السن بينهما لم يكن كبيرا جدا. ولكن تخصصها كان يتطلب ذلك. كانا يدركان أن تطلعات المستقبل تختلف، وأن الأهل يسطرون خططا غير التي خططاها لمستقبلهما
سألته وهي تتلاعب بحجرة صغيرة ترفعها إلى السماء وتلتقطها في حركات تترجم النرفزة وعدم الارتياح
ـــ ما هو قرارك؟
لم يتمكن من استيعاب ما يجري، وهو الذي تخرج من بين الثلاث الأوائل في مجموعته. التقط حجرة صغيرة، مثلها، ورماها بعيدا. علقت على حركته
ـــ هل سترميني بعيدا كما رميت هذه الحجرة؟
كان لسانه مغلولا، فلم يسعفه جواب. وقف، ثم جلس، ثم أمسك بيدها، وأجاب عن غير اقتناع
ـــ اتركي لي مساحة من الوقت. لا أستطيع أن أفكر الآن. أنت تعرفين من أنا. أنا لست حرا كما تتصورين. هناك تقاليد وأعراف ومسؤولية
ـــ وماذا عني؟ أتقلل من شأني؟
ـــ لا أستطيع أن أتخذ قرارا صعبا مثل هذا الآن. تريثي حتى تكملين دراستك
ـــ لم أسمعك تتحدث عن أي قرار. وماذا عن كل ما درسناه؟ ماذا عن ضرورة ترك تلك المنطقة التي لا يحدث فيها شيء أبدا؟ ماذا عن خططنا وكل أحلامنا؟ هل تظن أنك أكثر مني ارتباطا بالأرض؟
ـــ لا أستطيع أن أفكر
ـــ سأساعدك. إذا لم تتخذ قرارا الآن، فلن تتخذه أبدا
ـــ أشياء كثيرة تنغص علي حياتي. أنا المسؤول عن إرث العائلة. مفتاحة لا يمكنها فعل أي شيء. أما أمي.. آه أمي! تلك السجينة التي لا تريد أن تتحرر
ـــ إذن، سأقبل العرض
ـــ لا، أرجوك، اتركي لي بعض الوقت
ـــ آسفة. لا أستطيع أن أنتظر أطول
ـــ أرجوك، انتظري
ـــ سأعطيك آخر فرصة، أنظر إلى تلك الصخرة هناك. سأعود بعد أيام، وسأترك لك شيئا. شيئا سيحدد مدى رغبتك في أن نستمر معا أم لا. وأنت ملزم بترك شيء ما على مقاس الشيء الذي سأتركه
ـــ هل يمكن لي أن أعرف الآن؟
قهقهت، وبعد أن جمعت في كفها قشور بيض ملقاة على الأرض، رمتها بعيدا، وقالت
ـــ صحيح أن إسمي يوحي بذلك، لكنني لن أنتظر أحدا. من الآن فصاعدا، سأتقدم إلى الأمام، وسيتبعني الجميع، إلا أنت. سأمنعك حتى ولو غيرت رأيك. وداعا
ـــ حتى ولوتركت لك شيئا في محيط تلك الصخرة؟
ـــ استوعب الفكرة أولا، قبل أن تخبط خبطة عشواء، كما هي عادتك.
تركته فاتحا فمه كالمسطول، ونزلت جريا تاركة ‘أݣادير أُو فِلَّا’، تتهكم عليه. يا لخيبته! كان يطمح إلى ربح الوقت، ولكن الوقت لم يعد له مسافة. ربما ضاع كل شيء. لا، لن يقبل بهذا الواقع، سيحاول من جديد، وسيرتب أوراقه مع الأسرة، وسيتخذ القرار الصائب
استفزته الرسالة، فعاد إلى أحضانها، لعله يطفئ حريق الذكريات. وتابع القراءة
“سأغير الأوراد قليلا وسأفتي بما يسعفني به حظي ربما سيعبد الطريق بيننا وسأنجح لا محالة لأن لا أحد يمكنه أن يطعن في علمي أنا الذي أسست لتاريخ المنطقة ولم يكن أحد يعرف عنه شيئا ولم تكن الأخبار سوى فتات لا تأكيد لها بعد أن قضى الرواة وأخذوا تقريبا كل شيء معهم وما تبقى منه تصرفت فيه أياد وكتمته شفاه وأغفلته أعين وما الأوراد والأذكار إلا اجتهاد فهل سيحرمني من هم أقل علما وأقل مكانة مني من أن أقر بالذي هو في صالحنا جميعا لن أسمح وسوف أقدم تنازلات ستسيل لعاب كل متطفل فيغلق فمه إلى الأبد إلا أنت لا أستطيع أن أفتي بشأنك شيئا إلا ما تحسين به نحوي إن أنا لم يخني حدسي وأمعنت في تصور الذي غير ما تصورت هذا الذي يحول العاقل إلى مجنون منبوذ والمجنون إلى خلق يختلق الحكايا ويسعد السامعين وهم يعلمون أنه يهذي وهل لأنه يدفع إلى الجنون نحرمه من شذرات السعادة التي ينعم بها بعيدا عن الضوضاء والهوس لا أبدا لا بد من تكريمه وكما قال أحدهم في الماضي البعيد أن يصيبك الجنون بفعل شيء يسعدك أرفع درجة وأعمق وقعا من أن يتسيدك العقل ويمنعك من الاسترخاء ولو للحظة لتتذكر براءة الطفل في شخصك وأنا أخاف من نفسي حين تأمرني بخلع الخرقة والسفر إليك وأنا أعلم أن رحلة العودة إن لم تكن مستحيلة فستكون صعبة ولكنني أحب أيضا أن أمخر عباب الجنون كي أكسر صخرة الرفض التي وضعوها بيننا وهم يعلمون أن اللهيب الذي نصطلي به سيحرقها قبل أن تحرقنا”
سقطت الرسالة من يده، وأجهش بالبكاء. بكى كما لم يبك من قبل. ”وهل بكاء الرجل ضعف؟” قالت له أمه ذات يوم، بينما كان يتخبط في حيرته بين عقله وقلبه وما تفرضه مسؤوليته كوصي على أسرته الكبيرة والصغيرة
”ما هو المشكل في أن يبكي رجل؟ كن عاطفيا دائما وأبدا، لأن العاطفة تقرب البشر من الإنسان. رجل لا يبكي، ما هذه السخافة؟ النساء يعشن أكثر من الرجال لسببين، أولا، لأنهن عاطفيات ويبكين كثيرا؛ وثانيا، لأنهن يحضن. وفي كلتا الحالتين يطهرن أنفسهن من خبث القلب وخبث الجسد. وعندما يبكي رجل، فهذا أقل ما يمكن أن يقوم به ليعمر أكثر. ولا أتمنى لأي رجل أن يحيض حتى ولو سمحت الطبيعة بذلك في يوم من الأيام”
كم كانت حكيمة أمه! لولا وجودها في لحظات عصيبة من حياته، لقهره الزمن. مسح عينيه بكف يده، وابتسم وهو يتذكر كيف فتحت له قلبها وهو صغير غداة ختانه، حيث أكدت له أن الرجولة ليست مرتبطة بقضيب الرجل، بل بأخلاقه. ظل يبكي لأيام لأن الختان لم يمر على الوجه الأحسن واضطر المعلم الختان أن يعيد العملية ثلاث مرات. كم كان ذلك مؤلما! وسمع نساء يقلن إنه لن يكون رجلا أبدا، لأن نصف عضوه الذكري أكله المقص. طمأنته أمه وهي تنظر في عينيه بجرأة كبيرة بأن الطول والعرض لا يشكلان هاجسا كبيرا إذا كان الحب متوفرا بين شخصين يحبان بعضهما البعض.  لم تكن مواساة أمه تشفي الغليل ولم يهدأ له بال إلا حين بلغ سن الرشد ونام في حضن أول بائعة هوى بعيدا عن أعين عيون القبيلة وبإيعاز من جده الذي دبر كل شيء. وحينها، تنفس الصعداء، واكتشف لذة الجسد
أطفأ النور وحاول أن ينام، وهو يجاهد في طرد جميع الأفكار الرمادية التي أصبحت تعشعش في رأسه. لكن صورة أمه وجده عادتا لتستقرا في أحد الأركان. ثم بعد حين، التحقت بهما انتظار
تحولت حياة متروي إلى شبه كابوس، دعي إلى اجتماعين للمجلس البلدي، هذه المرة. لم يكونا أفضل من سابقهما، اجتماع الوكالة الحضرية. ظل الجميع يحوم حول الكأس دون أن يملأها أو يفرغها أحد. لاحظ أن الجميع يتخبط في الارتجال. لوحظ، أكثر من مرة، أنه لا بد من انتظار التعليمات. وفطن متروي إلى أن المتنافسين على صفقات القنطرة طرقوا أبوابا عدة وأن بعضهم أقنع قلة من المستشارين للدفاع عن مشروعه بالإيعاز والتلميح. وفي كل مرة، يلتفت رئيس المجلس إلى متروي، وكأنه ينتظر منه أن ينطق بشيء أو أن يعلن عن اللون الذي سيدافع عنه بشكل من الأشكال. وبدا جليا أنهم لا يعرفون من يكون متروي؛ إنسان لا يباع ولا يشترى. طرح أحد المستشارين نقطة نظام تتعلق بمبدأ التقادم وهل سيطبق في حق القنطرة، نظرا لخصوصيتها. ظل الجميع صامتا. رفعت الجلسة
 وبينما كان متروي يهم بمغادرة قاعة الاجتماع، قال له رئيس الجلسة
ـــ كان من المفروض أن تساعدني؛ فأنا مكبل اليدين بين إدارة المرفق العام ولعب ورقة السياسة. أنا أحتاج إلى طي ملف القنطرة في أقرب وقت ممكن
ـــ كيف يمكن أن أساعدك وأنا لست سوى كومبارس؟
ـــ يمكنك بكل سهولة
ـــ كيف؟
ـــ تحدث إلى السيد مفيد
ـــ مفيد لماذا؟
ـــ لعلمك الخاص، السيد مفيد صهري، وهو يتوفر على أوراق جيدة. قد يساعدك
ـــ ولم لا تلجأ إليه وتطوي الملف كما يحلو لك؟
ـــ أنت تتذاكى. يجب أن أبقى بعيدا عن الشبهات وأن آخذ مسافة بين المتنافسين ــ على الأقل، نظريا. هل فهمت الآن؟
ـــ نعم، فهمت أنه حان الوقت للرحيل
خرج مهرولا، وهو يلعن اليوم الذي بدأ فيه مسلسل الارتجال في كل شيء. آه، أيا قدماه!  أين المسير؟ أين المصير؟
(يتبع)

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية المديرة المشرفة على موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بهموم مغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com