أقصوصة:فوق الجبين
فوق الجبين
للكاتب السعيد الحمولي
تَتَقَلَّصُ المسافة التي تفصلني عن الهدف يوما بعد يوم، أصبحت قاب قوسين أو أدنى من قبضتي رائحة الغربة التي يشتكون منها، تُثير شهيتي تُدَغدغ كل مشاعري، توقظ الرغبة والحماس والخوف، تبدو كندا قريبة للغاية لا يفصلني عنها الآن إلا هذا الحاجز الزجاجي. هذا الجدار الشفاف الذي يحول بين هذا الليل الدامس في هذه الأرض الطيبة الحارة، والنهار المشرق كل يوم على مدينة مونتريال بين هذه الجنّة التي أتُوقُ أن أسبح في أنهارها، وأن أتفيّاً تحت ظلال أشجارها الزاهية الألوان. باختصار شديد فكرت أن أحلّق في جنة الكفار هذه أن أطأ أرضها الحقيقية لا كما خبرتها عبر الوسائل الإخبارية والبرامج الوثائقية وعبر الصور… تبدو على مرمى عيني سيدة شقراء. حورية من الحواري تسبح خارج محيطها، جاء بها الزمن إلى هذه العتمة لتفرز الغث من السمين كناقد متخصص في فرز الجبر من الرديء. جاءت في هذه اللحظة لأجلي، ربّما لأجلي لا يفصلنا عن بعضنا البعض إلا هذا البرزخ الذي يمتد كالصراط يدي المستقيم. بلغني نداء الشقراء من مكبر الصوت “العربي بن حَمَّادٌ وقفتُ أمام الجدار الفاصل، تسلّلت. خارج هذا الصهد الذي أنا فيه تمدّدت جهة الشقراء محلفة في فضاء حُر بجواز أخضر يطير بلا أجنحة تقتنصه “زرقاء اليمامة“، تضعه أمامها تتساقط أوراقه البيضاء في بحر عينها قبل حلول الخريف تُمعن النظر إلى هذه الذات المنكسرة، تركز كما لو أنها تقرأ، طالعه تُطالعني من وراء حجاب، أطالع نفسي بنفس متقطعة منهكة مترقبة. هذه المروضة تحمل قدري بين يديها وتلاعبه كَفرد ينزلقُ من بين أناملها إلى سطح المكتب تلتقطه، تذهبُ به يتحرك في داخلي بركان أحمر. تعود به تقلب صفحاته كما لو أنها تبحث عن أخطاء إملائية نحوية تركيبية. نظرت بتمعن إلى وجهي المبتسم أمعنت النظر كما لو أنها تعرفُ أن في هذه الابتسامة “إن” وأن لكل “إن” أخوات تعود بغتة إلى الصورة تبحث في تراكيب ملامحي، تنقب عن لغز ما في أعماقي، المهمة عن هذه الخالة التي حولت إحدى العينين غينا، غاصت في الأخطاء حتى طفوت على السطح كغريق، ورغم كل ذلك كانت الابتسامة لاتزال مرتسمة على وجهي مشدودة إلى ملامحي بخيط رفيع لا يستطيعُ الجنّ الأزرقُ أن يزيلها ما دام هذا الوصل النادر ما بيني وبين الشقراء قائما. تتمعنني من جديد بَدَتْ لي من وراء الزجاج السميك، أنها ليست هي. سألتني ببلاهة العارف عن لحيتي الكنة: أين هي؟ أجبتها بنباهة الجاهل: “هي؟” مددتُ يدي إلى ذقني تلمست وجنتي بشمالي ورسمتُ بسبابتي وإبهامي نصف دائرة امتدت من جوانب منخري حتى سقطت تحت شفتي السفلى، وزعت أصابعي لتشمل ذقني وبعضا من جوانب لحيتي التي حرصت على إزالتها قبل قدومي. يداي ترتجفان قدمي اليُسرى تدوس مقدمة قدمي اليمنى التي خطوت بها عند دخولي، وقلت: “بسم الله“. انقطعت أنفاسي للحظات وأنا أردّد فاتحة الكتاب، بسملتُ في خاطري مرة أخرى، وبدأت أتمعن في السؤال أحنت رأسها كما لو أنني أجبتها عن سؤالها الملغوم، وانشغلت برسم خطوط يبدو مدادها الأسود كقلب أبي لهب أحنت وصوبت عينها الرصاصتين صوب صورتي في الجواز ودون أن تنتظر أي رد هوت بالخاتم الإداري بكل قوتها شعرت كما لو أنها عطلت شيئا ما في فمي، لعله اللسان أو الأسنان أو كلاهما مدت يدها إلي به مددت يدي اليسرى المرتعشة إليه تراجعتُ إلى الوراء، توقفت على بعد خطوتين من الجدار الفاصل فتحتُ الجواز، كانت ورقة شجرة القَيْقَب الحمراء فوق الجبين الأسمر مباشرة
السعيد الحمولي