المطربة غيثة بن عبد السلام: حلاوة البرتقال

ابن الوز عوام…

هذه المقولة أفرزت لنا أحيانا عائلات فنية تقتفي فروعها آثار الأصول، ولنا في فناننا الكبير محمد بن عبد السلام الذي غادرنا لدار البقاء قبل أسابيع أسطع دليل، فزوجته أمينة ادريس، وأختها بهيجة ادريس وأخوهما محمد الإدريسي علاوة على محمود الإدريسي كلهم ولجوا عالم الغناء، ثم طلعت علينا في منتصف السبعينات ابنته غيثة بصوت يشيع في الحنايا نشوة تذكرنا بأغاني الصباح الجميلة تشدو بها عايدة الشاعر وليلي نظمي أيام زمان، إنه صوت يقطر حلاوة كأنه البرتقال.
تشكل غيثة مع نعيمة سميح ولطيفة رأفت ثالوث الأصوات المانحة للسحر مضمخا بعطر الأرض المغربية، ولقد لعب والدها الفنان المقتدر محمد بن عبد السلام دورا أساسيا في نجاحها، كيف لا وهو من صنع الألحان الناجحة بأسلوبه المغربي الأصيل، فبصم ذاكرة الأغنية المغربية بأعمال شكلت وجدان المغاربة، ويكفينا أن نستحضر له: سولت عليك العود والناي ـ عطشانة ـ السنارة ـ يا بنت المدينة ـ الطوموبيل وغير ذلك.
في البداية أهداها بعضا من ألحانه السابقة مثل: الله عليها زيارة والتي غنتها من قبل نعيمة سميح، باهوى فلاح لنعيمة صبري، الشمعة لمحمود الإدريسي، وقد استطاعت غيثة أن تلبس هذه القطع رداء جديدا فيه أنفاسها وأحاسيسها وتلويناتها فصفقنا لها وعشقناها، وكرت السبحة بينهما في أعمال أخرى عابقة بالجمال مثل: يا حبيبي وانت أعلم بي ـ ياصاح ـ يا بديع العيون ـ كل شيء يمكن يداوي ـ لا تصوفنيش ـ ما بقا لي علاش نخاف ـ كداب……… حتى بلغت ذروة التألق وهي تغني من ألحانه عن الغربة في قطعتيها الشهيرتين (عام في الغربة ـ الغافل)، كان إحساسها عاليا وهي تئن شوقا إلى الغالي الغائب: بطا عليا وقتاش نشوفك/ عام في الغربة ولا وصلني منك مرسول/ ولا كتاب نقرا فيه حروفك/ طال صبري وكيف نعمل واش المعمول/ ياك مافيا نساوك/…)
وعلى أنغامه الوطنية حلقت بنا إلى الأعالي وهي تنشد ما أبدعه قلم العبقري علي الحداني (وطني يا شمس وضوات/ ومدت خيوط من الحرير/ الله يبارك الخطوات/ ويجعل كل أيامك خير..) ومن نوادرها الوطنية الحاملة للنفس القومي أغنية تحتفظ منها ذاكرتي بهذا المقطع الجميل (لكم نحن كما أنتم لنا/ إخوة أبناء أم وأب) وقد أنشدتها صحبة محمد الحياني، وأشرك محمد بن عبد السلام غيثة مع الفنانين محمد رشدي وهاني شاكر في قطعة سجلت بمصر بمناسبة حرب أكتوبر سنة 1973 تحت عنوان (المجد العربي.
لم تكن غيثة حبيسة ألحان والدها، بدليل أنها انفتحت على ملحنين آخرين مثل عبد الله عصامي الذي وظف دراساته العلمية المعمقة وتجربته الطويلة ليكشف لنا عن مفاتن جديدة في صوتها من خلال قطعة (كتمان)، ما أعذب غنائها وهي تتساءل: (فمتى نلتقي وتنتهي حيرتي/ وينتشي خافقي بالحب والفرحة ، ولها مع الملحن عبد الرفيق الشنقيطي أغنية تفيض بالرقة (أول ميعاد).
كبر النجاح وكبر الطموح، فنادتها الساحة العربية لتعانق ألحانا خليجية وليبية وتتألق فيها بشكل لافت (ياميمتي ـ الجواب سرقوه ـ ايه ده كله ـ قرب ـ ارحم ـ أنا اللي اعرف احبك ـ يا اللي أنت عليا زعلان ـ ما عليهش تواسيني …) .
لم يكن صوتها هو رأسمالها الفني الوحيد، كانت تختزن باقة من المواهب، فهي تكتب وتلحن بل وتمثل، ورغم قلة ظهوراتها السينمائية (القنفودي لنبيل لحلو – جرح في الحائط للجيلالي فرحاتي – علاوة على فيلم مشترك مع رومانيا تحت عنوان: أذرع أفروديت).
ولا ننسى أيضا اقتحامها للاستعراض حيث غنت صحبة فرقة راقصة.
ورغم أننا لم نعد نسمع جديدها منذ اعتزالها في نهاية التسعينات ، فإن أغانيها لا زالت حية في وجداننا، وكلما استيقظ صوتها من الزمن الجميل مترنما سرت حلاوة البرتقال في عروقنا.