….من النظرة الأولى

خذ نفسًا عميقًا، ثم فكّر…
بقلم: د. مهدي عامري

…قل الحقيقة
اعترف.. لقد أفسدتك المسلسلات اللاتينية. “أنت أو لا أحد”، “غوادالوبي”، “مانويلا”، القُبل في زوايا المنازل، العيون المبللة بالدموع، المشاعر التي تتدفق كالنهر في موسم الأمطار. الرجال ذوو الشعر المصفف بعناية، الذين يركضون تحت المطر لأجل حب مستحيل. النساء اللاتي يبكين كما لو أن الحياة بلا حب مجرد كابوس مرعب. كُفَّ عن هذا الهراء. اجلس. اسكب لنفسك كأسًا من الشاي بالنعناع. خذ نفسًا عميقًا. واسمع.. هذه ليست قصة حب كما تريد أن تراها، لكنها قصة حب كما هي في الواقع. من أين نبدأ الحكاية؟ كانت جدتي تبلغ من العمر خمسة عشر عامًا. طفلة. بالكاد تعرف كيف تمشط شعرها، بالكاد تفهم كيف يتحول الليل إلى صباح. لكنهم قالوا لها: “ستتزوجين.” ولم يكن هناك “هل تحبني؟” أو “هل توافقين؟” بل فقط مولاي التهامي، رجلٌ يكبرها بعشرين عامًا، جاهزٌ ليؤسس بيتًا. لم يكن لديها خيار. ثم بعد بضعة أشهر، كانت حاملاً. تخيّل.. طفلة بعمر الزهور، تجد نفسها مسؤولة عن كائن آخر ينمو بداخلها. ثم بعد عام ونصف، حملٌ آخر. وبعده آخر، وآخر، وآخر، إلى أن صار هناك عشرة أبناء: أربع بنات، وستة ذكور. وفي غضون سنوات قليلة، تحولت لالة حليمة إلى آلة إنجاب. الحب، يا عزيزي، ليس كما تعتقد.. ولدت جدتي عام 1915 في مراكش، في زمن لم يكن فيه الحب مشابها لما يحدث في الأفلام الفرنسية. لم يكن هناك رجال يقرعون أبواب الحبيبات حاملين ورودًا حمراء، ولا قصائد تُلقى على ضوء الشموع. لكن كان هناك خبز يُعجن، طاجين لذيذ يُطهى ببطء، أطفالٌ يركضون في أرجاء البيت، يضحكون بأصابع رقيقة ملوثة بالحلوى، ويرتمون في حضن الأم الرؤوم بفرح غامر. كان الحب أفعالًا، لم يكن كلمات. كان يتجلى في إعداد الفطور، في ترتيب السرير، في تنظيف البيت، في تحويل الفوضى إلى نظام، في تحويل العدم إلى شيء يُعاش. كان جدي الحاج التهامي يستيقظ كل يوم في الثالثة والنصف صباحًا، ويخرج إلى الضيعات القريبة. كان يجرُّ قدميه في الظلام الدامس، يشتري الحليب، يحمله في أوعية ضخمة، ثم يتجه إلى محله الصغير في أزقة الطالعة في أعماق المدينة القديمة بمراكش. هناك، كان يبيع الحليب، والزبدة، والرايب، ويعود منهكًا بعد الظهر، بوجه متجهم، بظهر مقوس، وبملابس تفوح منها رائحة اللبن المتخثر. لم يكن بينه وبين جدتي أي حديث. لا جلسات مسائية لشرب القهوة، لا رسائل حب مخبأة بين الملابس، ولا نظرات طويلة متبادلة عبر مائدة العشاء. كان هناك فقط صمتٌ طويل ممتد كعمرهما معًا
أيها الحب.. أين أنت؟
كان موجودًا. ستقول لي: “هذا ليس حبًا! تبًا، أين العناق؟ أين القُبل؟ أين الاعترافات الملتهبة؟”
.وأنا سأقول لك: اسكت، وأنصت يرحمك الله
قضيت حياتك تستهلك حبًا مصطنعًا من مسلسلات زائفة. الحب ليس موسيقى حزينة ولقطات بالأبيض والأسود فحسب. الحب ليس كلمة تُقال، بل وجبة تُقدَّم ساخنة، بيتٌ يُنظَّف كل يوم، أطفالٌ يُرَبَّون حتى لو كان ذلك مرهقًا. في الأعياد، في حفلات العقيقة، في حفلات الختان، خلال نقش الحناء على أيادي الفتيات، لم يكن هناك أدنى تعبير مادي عن الحب بين الجدين، كما في المسلسلات التركية الرديئة. لكن كانت هناك نظراتٌ سريعة، وأفعالٌ صغيرة لا يلاحظها أحد، ووجباتٌ تُعدّ بعناية فائقة، وكلماتٌ مقتضبة لكنها حقيقية. مولاي التهامي لم يقل يومًا للالة حليمة “أحبك”، لكن حينما سأله أحفاده ذات يوم بدعابة: “هل تحب جدتي؟”
:شرع ينظر إليها كما ينظر الطفل إلى أمه، وقال هامسًا
“تاج راسي وراسمالي. لهلا يخطيها علي”
…هذا، يا صديقي، كان يكفي
.ومرت الأعوام. وكبر الأبناء. وتفرق الأحفاد
:صار مولاي التهامي عجوزًا بالكاد يقف ليؤدي الصلاة. وقبل رحيله إلى دار الحق، جمع أبناءه وقال لهم
“عندما أموت، أريد جنازة ضخمة، أريد أن تطعموا كل من يحضر ما لذ وطاب، لا تبخلوا بشيء
وحين مات، فعلوا ما طلب. لالة حليمة باعت جزءًا من مجوهراتها، وأقامت جنازة حضرها القريب والغريب. كان هناك طعام كثير، ذبائح، مقرئون يرددون الذكر الحكيم، وناس يأكلون، ويشربون، ويذكرون مناقب الفقيد
تمهل. القصة لم تنتهِ.. بعد وفاته، لم تنسَ لالة حليمة مولاي التهامي أبدًا. لم تتزوج رجلًا آخر. لم تفكر حتى في ذلك. لقد أمضت ما تبقى لها من سنوات عمرها تحيي ذكراه. كانت تنظم الولائم كل عام، تدعو الناس، تعقد مجالس الذكر… كانت تحيي ذكراه كما لو أنه لم يغادر أبدًا. كأنها كانت تهمس: “لقد كان حبيبي
والآن، دعني أسألك.. ما هو الحب الحقيقي؟
هل هو القصائد الفارغة والوعود الزائفة التي تتحطم عند أول اختبار؟ أم هو الحب الصامت، الذي لم تُنطق فيه كلمة “أحبك” ولو مرة، لكنه استمر أربعين عامًا؟ أي الحبّين تفضّل؟
…لا تُجب الآن. اشرب شايك قبل أن يبرد، خذ نفسًا عميقًا، ثم فكّر