ورقة نقدية للأستاذ عبد العالي أناني

ورقة نقدية للأستاذ عبد العالي أناني

 لرواية” عَلَى جُرٌفٍ هَارٍ ” للكاتب المغربي لحسن أحمامة المعنونة ب: “بقايا روح”

                            ذ. عبد العالي أناني

صدر مؤخرا عن دار الثقافة للنشر بالدار البيضاء رواية موسومة: ب ” عَلَى جُرٌفٍ هَارٍ ” للأديب المغربي ” لحسن أحمامة “. هذا المنتوج الأدبي الذي يقدمه لنا الكاتب في حلة باذخة، تزين غلافه لوحة صممت لتعكس تيمة النص بصفة احترافية للفنان: أحمد ضهور. تمتزج فيها الألوان وتختلط حاضنة أرقام غير متسلسلة تسبح في ضباب يرمز إلى القمار، والتخمين، في محاولة اصطياد الفائزة منها، والتي جاءت في خلفية الصورة على شكل توليفات جاهزة للمراهنة عليها.

عَلَى جُرٌفٍ هَارٍ، عنوان يختزل بدقة شديدة الرواية التي اختير من لأجلها. فأدت الكلمات التي شُكل منها المحتوى مهمتها بنجاح. “عَلَى” حرف جر يفيد الاستعلاء وإن كان مجازيا. “جُرٌف” الجرف وكما هو معرف ومتداول منحدر قد كون صخريّا شاهقا يصلح للوقوف عليه من أ جل التمتع برؤية جمال الطبيعة، كغروب الشمس مثلا أما الوقوف على حافته، فيشكل مغامرة خاصة إن كان هاريا على وشك الانجراف. وهذا ما تعنيه كلمة “هَارٍ” أي انصدع وأشرف على السقوط.

القمار، المراهنة، المغامرة، كمصطلحات بدت داخل النسيج الروائي كتلك الشجرة التي تخفي الغابة. عبد القهار، إحدى الشخصيات الرئيسة، رجل كان في الماضي القريب موظفا رزينا، ورب أسرة مسؤول، لدرجة أنه أرغم قرينته على الاستقالة من عملها بدافع الغيرة فقط. تحول إلى نقيض ما كان يمثله بتأثير سلبي من طرف علي، أحد أصدقائه المقربين. فأشرقت شمس الغابة المحجوبة، أجلت كل المشاكل التي تشكلت مباشرة بعد الغرق في إدمان القمار والمراهنة، واللهفة للربح السريع.

عبد القهار، بطل الرواية، رجل لم ترفق به الحياة، ولم تعد تغريه بأفراحها ومسراتها، أصبح روحا تحتضرـ، وتلك اللهفة للربح السريع حولته لإنسان غريب حتى على نفسه. انتظار الفرصة الأخيرة التي تمكنه من الربح السريع، وتقدفه إلى عالم آخر حيث تتحقق أمنياته، غدت تلازمه، وأسقطته في دوامة من التساؤلات يغلب عليها طابع الفقر والبؤس والكآبة. حولته إلى سارق تخلى عن مبادئه، أصبح

لا يعير اهتماما للقيم والأخلاق، برغم استمرار ضميره في تأنيبه فقد نجح في إخماده كلما دعت الضرورة لذلك. يتضح ذلك بالصفحة 211:” والحق أنني أحسست بشيء من تأنيب الضمير لكوني صرت أكذب مثلما أتنفس. ثم إنني لست الأول والأخير الذي يكذب. الكذب منتشر في كل مكان وفي أي شيء. في الدعاية، في الإعلام، في الحظ.. في.. في…”، في سقوطه لم يكن وحيدا، فقد أسقط معه الأهل والأصدقاء، بعد أن مات الإحساس بدواخله.

تنقسم الرواية إلى فصول شكلت خطوات يتقدم بها السرد بثبات، عبر بناء فضاء قصصي يعرض حكايات متباينة، تبرز لنا ما يحاول الكاتب المغربي، لحسن احمامة، تمريره للقارئ المفترض. عبر نسيج روائي قُسم إلى فصول اختير لها كعناوين أسماء الشخصيات المحورية لتحديد الهدف / الأهداف التي هُندس من أجل العمل الأدبي، باعتبارها أول العتبات التي تلقي بالقارئ إلى عالم النص، الذي يندلق فيه السرد بصفة انسيابية، وبلغة بسيطة تحتفي بمحتوى يخضع لدراسة تفصيلية للفرد والمجتمع، مع الحافظ على بنية الرواية الحديثة، التي تتعدد الأصوات بين ضفتيها، وتتحرك داخلها الشخصيات الرئيسة، والعابرة التي تغير الاتجاهات، وفي بعض الأحيان حتى طريقة التفكير، بكل أريحية لتشارك في المشهد / المشاهد، بواقعية وجودية غير مصطنعة تغري بالمتابعة.

تلك الفصول/ العوالم، تعج بأحداث ووقائع تتشابه وتختلف، تتجاذب وتتنافر، فيما بينها لتنتج شخصيات ورموز تنفرد بذاتها، لكنها تتحد لتشكل جسورا تمتد الأحداث والوقائع من خلالها. تحدثت بلسانها وقصت ما تشعر به، وما تحيا لأجله، كما أنها جسدت الصراعات والتفاعلات التي أضفت عنصر التشويق والإثارة.

عملية رسم ونحت الأبطال / الرموز، حولت الكاتب إلى طبيب نفساني، يقوم بتشريح الشخصيات لفهم انحرافاتها السلوكية، دون أن يغفل باقي العناصر المؤثرة التي تحدد قالب الشخصية. فعمل على تحديد المرحلة الزمنية التي تضم الفضاء الروائي العام، بالتوازي مع استحضار مسرح الأحداث والوقائع، والظروف الاجتماعية، والسياسية والثقافية، وكذلك الإنسانية، نظرا لكون هذه الأخيرة لها تأثير كبير ومباشر على علاقات الأفراد فيما بينهم، كما حصل لعلي وعبد القهار بطل الرواية، الذي حولته علاقته بصديقه المقرب من النقيض إلى النقيض، حيث أصبح خيال لنفسه. فقد تحول من شخص يعيش حياة عادية روتينية إلى مدمن على

الرهان، ثم إلى سارق. وكذلك فاتن التي أغرت بهيجة وحولتها من ربة بيت إلى عاهرة انتهى بها المطاف بدائرة الشرطة.

في خضم جريان الأحداث نحو مصبها، يأخذ المبدع الوقت ليصف لنا المدينة الحديثة، ليعرض لنا المشاكل التي تتخبط فيها، والتي تكون سببا مباشرا بطريقة أو أخرى للانحراف السلوكي لأشخاص لديهم استعداد لذلك. كالعطالة والفقر اللذين يشكلان خط انطلاق كافة الأمراض الاجتماعية. والازدحام الذي بدوره يولد منافسة غير شريفة، بالإضافة إلى الكثافة السكانية التي تزايدت بفعل توافد أجناس أخرى، كالأفارقة المهاجرين من جنوب الصحراء الذين احتلوا الأرصفة والأماكن العمومية. مدينة حيث اختفت التابوهات وأصبح الفن تجارة….

القمار موضوع يبدو للوهلة الأولى مستهلك، وشائع بين الناس منهم من يعتبره تسلية، أو مغامرة قد تصيب وتخطئ وبالتالي لا يؤثر على حياتهم بصفة مباشرة لكن، للأسف منهم من يدمن عليه، ويرى فيه نوع من الخلاص، نحو القفز بشكل تلقائي إلى الأفضل، فقط بضربة حظ. لكن حين يصبح موضوع للكتابة الروائية تختلف الأمور. بالتالي يغدو التركيز على كيفية التعامل مع هذا الموضوع الإشكالية، وكيفية تحويل ذلك الفعل الذي يجمع بين الوجود والخيال، وكيفية تحويل تلك المتلازمة الشائكة إلى حبر على ورق. وجود ينبع من الفقر والأمراض النفسية، وخيال يسبح في الحلم بغد أفضل يتحقق بربح سريع.

في هذه الرواية لا يتعامل الكاتب مع القمار باعتباره معطى يفرض نفسه، ويدعو لتفاعل معه عبر تحديده كمصطلح. بل يهتم بدرجة أكبر بتحديد ما ينتج عن إدمانه دون نسيان الدوافع والأسباب التي تختلف من شخص للآخر، لكنها تصب في مصب واحد، وإن اختلف الفضاء الذي يمارس فيه القمار. معتبرا إدمان المقامرة، مرضا نفسيا خطيرا يمكن أن يدمر الحياة. ينتج عن رغبة لا يمكن السيطرة عليها برغم الإلمام بنتائجها الوخيمة. يتحول إلى ممارسة تجعل المدمن عليه مستعد للمخاطرة بكل ما يملك للربح السريع. وبذلك يُؤذي الشخص المدمن عليه نفسه وكذلك أسرته وبيئته. خاصة حين يتحول الإدمان إلى مرض قهري تنتج عنه اضطرابات شخصية كالاكتئاب والقلق، وضعف في تحمل المسؤولية والأداء الوظيفي. وهذا ما أبرزه الكاتب حين قدم عبد القهار استقالته للمدير العام للشركة التي كان يشتغل بها. فضل العطالة التي حولته في الآخر إلى لص حقير يعترض سبيل المارة. يبدو ذلك بالصفحة :177 حين قدم استقالته، قال لنقسه:” يخالجني شعور

بأنني لم أعد أصلح لأي شيء. قد تكون بهيجة على حق. صرت في الواقع غير مسؤول عن بيتي. ونفضت يدي من كل شيء.”

تأسيا على ما قيل، يبرز لنا الكاتب الكيفية التي انهارت بها القيم في المجتمع المديني المعاصر، حيث يسود التفكك الأسري، وأصبح فيه الكل يراهن بطريقته الخاصة. راهن عبد القهار على الخيول طمعا في الربح. راهنت بهيجة على عبد القهار من أجل استقرار عائلي. راهن الطفل هيثم على جده ليعيش الحب الأسري الذي فقده في بيت يعاني من الجفاف العاطفي. راهنت فاتن على بهيجة من خلال إغرائها لكسب كمال وما يغدق عليها من هدايا. راهنت بهيجة في المرة الثانية على كمال لاستعادة حيويتها وشبابها. راهن الطالب في قسم السوسيولوجيا على المال لإتمام دراسته، ولم ينتبه إلا حين وجد نفسه حبيس مقهى القمار. حتى الأماكن نفسها داخل الفضاء الروائي تعكس ذلك الانهيار. البيت حزين يفتقد اللمة الأسرية التي تحافظ على الاستقرار وبالتالي الاستمرار. المقهى مكب العاطلين والمهمشين، حيت التلاسن والسباب بأبشع الكلمات والجمل، مكان العمل حيت يسود الحسد والكره والصراع. الحافلات حيت السرقة والتحرش. الحديقة حيث التشرد والدعارة. الشارع أصبح مرتع المهاجرين الغير الشرعيين، وبدوي النفوس المريضة التي لا تتوانى عن فعل أي شيء لإشباع رغباتها المنحرفة، الدور المعدة للدعارة، والسهرات الماجنة التي تنتشر كالفطر ….

استطاع المنجز الروائي أن يزيل الستار عن الغابة المحجوبة، ويزيح الضباب الذي يستر العلل والمشاكل، التي غوَّلَت المدينة، وتنهشها جاعلة العدوى في بعض الأحيان إجبارية، من خلال لغة بسيطة وأسلوب سلس، ينساب ببطء من المنبع إلى المصب. مشكلا في جريانه وعاء لمحمول هادف، يخضع لدراسة آنية. اختلف باختلاف الأماكن التي مر من خلالها، مزيلا عنها ضبابتيها، مبرزا عيوبها ومشاكلها من خلال النبش في مرجعياتها وأسبابها ودوافعها. مستشهدا بشخصيات مختلفة، أخضعها للتشريح داخل دائرة معيشتها، من أجل إظهار ونشر انحرافاتها السلوكية، والنفسية، وانهيار العلاقات الإنسانية بصفة عامة. وبذلك يكون الكاتب أنتج عملا أدبيا يعطي أهمية كبيرة للزمان ومكان داخل فضاء محدد، باعتبارهما يلعبان أدوارا مهمة في حياكة وغزل تشكلة اجتماعية تعيش نفس التفاعلات والاكراهات الحياتية.

Zahra

زهرة منون ناصر: صحفية مغربية كندية مديرة وإعلامية موقع صحيفة ألوان، باعتباره منبرا إعلاميا شاملا يهتم بمغاربة العالم في الميادين الابداعية والثقافية، الاجتماعية والاقتصادية و التواصل والإعلام. Zahra Mennoune: Journalist Morocco-Canadian Responsible of publishing the Website : (Alwane "Colors" ) in Arabic language. (French) هام جدا: يرجى إرسال المقالات في حدود ألف ومائتين كلمة كل المقالات و المواد التي تصل ألوان تراجع من قبل لجنة االقراءة قبل النشر، ولا تعاد إلى أصحابها سواء نشرت أم لم تنشر رابط الموقع: Alwanne.com للتواصل و المراسلات:jaridatealwane@alwanne.com

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *