الملحن عبد السلام عامر: المبدع الضرير
قزحية اللحن الخالد
بقلم ذ:عبد المجيد شكير
مدهشة هي الحان عبد السلام عامر، توقظ فيك الاحساس بالمتعة، وتجسد الجمال امام ناظريك، وتحلق بك في رحاب النغم وهو ينساب متدفقا تارة بعزف الآلات وأخرى عبر تغريد الاصوات وشدوها، لم يكن صدفة ان تفوح كل الحانه بالجمال، فالرجل يفكر ويبحث ليخطط ويصمم لابداعه الحلة الرائقة، وفي الحلة توشيات والوان، كل واحد منها يضفي على الاغنية قسطا من السحر والجاذبية، وتتضافر كلها في النهاية لتمنح للمتذوقين والعشاق تحفة نغمية تهواها قلوبهم وترددها السنتهم، وبمعنى آخر فعامر كان يلف آلحانه عادة في غطاء تزركشه عناصر عديدة سنحاول الآن توضيحها.
كان عامر ينطلق في التصميم الجمالي لألحانه من الكلمة والتي ينتقيها بدقة شديدة، فولعه بالأدب وتذوقه للشعر وإحساسه العالي بالعبارة وتفاعله معها، كل هذا يحضر وهو يختار قصيدة لشاعر من الشرق مثل (احمد رامي ـ فاروق شوشة ـ محمود حسن اسماعيل ـ مصطفى عبد الرحمان ….) أو لشاعر من المغرب مثل (عبد الرفيع الجواهري ـ محمد الخمار الكنوني …..) او يختار زجلا راقيا هو في الغالب لحسن المفتي، وللدلالة على دراية عامر بعالم الكلمة الغنائية ما أسر لي به الشاعر المهدي زريوح ذات لقاء جمعني به من ان عامر هو من كتب بنفسه البيتين الأولين من قطعة (موكب الخالدين) وطلب من زريوح ان يتم القصيدة على منوالهما مستعرضا تاريخ المغرب.
ثم تاتي مرحلة البحت عن الصوت المناسب، وفي هذا الصدد نلاحظ انه لم يتعامل مع اصوات كثيرة، كانت بدايته مع صوت عبد الوهاب الدكالي(آخر آه ـ حبيبتي) تلاه اللقاء المتميز مع صوت عبد الهادي بلخياط، لقاء صنع للاغنية المغربية أمجادا وصل صداها الى الشرق العربي، حتى اذا انقطع حبل الود بينهما بعد سنوات من التعاون المشهود وزع عامر بعض اعماله والتي تغنى بها صديق الأمس على اصوات متمكنة حيث اعاد اسماعيل احمد قطعة (قالوا لي حب) ومحمود الادريسي (تعالي) وسميرة سعيد (سبحان الاله) ومحمد الحياني (راحلة)، وقد حاول عامر ان يجعل من هذا الآخير بديلا لبلخياط حيث خصه بالعديد من الالحان، واللافت ان هناك ثلاتة اصوات احتكرت النصيب الاوفر من اعماله وهم عبد الهادي بلخياط ومحمد الحياني وعبد الحي الصقلي، وبعيدا عن هذا الثلاثي وعن اعماله مع الدكالي، تظل الحانه معدودة على رؤوس الاصابع، وكم كنا نتمنى ان نسمع انغامه باصوات اخرى مقتدرة مثل محمد علي وسعاد محمد المغربية.
اتسمت الحان عامر عموما بالتجدد والبعد عن التكرار والتقليد، فلكل نوع من الاغاني لبوسه الخاص الذي يناسبه، فالاغاني العاطفية لها لحن وجداني، وللوطنيات طابع حماسي عسكري يحضر فيه الكورال بشكل ملحوظ، واما الدينيات فيكسوها برداء روحاني مثل (سبحان الإله ـ صلوات) وهما للشاعرة روحية القليبي، و(القطب الرباني) للزجال احمد الطيب لعلج، وداخل كل نوع يختلف اللحن من قطعة لاخرى، بل وداخل القطعة الواحدة يتجدد اللحن من جملة لاخرى متموجا مع معاني النص وماتحمله في ثناياها من مشاعر واحاسيس، ومن هنا نفهم ان اللحن الراقص لاغنية (تعالي) يجسد فرحة اللقاء بين الحبيبين، وكان لحن (راحلة) دراميا يخيم عليه آلام الفراق والرحيل، واما لحن (سمعت عينيك) فكان رومانسيا رقيقا يصور تواصل العاشقين عبر لغة العيون.
وتزدان الكثير من ابداعاته بالعزف المنفرد للالات الموسيقية ، وعلى سبيل المثال حضور العود في (قصة الاشواق) والناي في (راحلة(، وتجنبا للرتابة كان عامر يهمل اللازمة في الحانه عموما، واذا كانت ابداعاته عموما تمتاز بتماسكها مما يمنحها طابع الوحدة العضوية كما نجد في اغنية (الشاطئ ـ الغائب) فهناك اعمال اخرى له تتضمن مقدمات موسيقية يمكن عزلها وكانها معزوفات موسيقية قائمة بذاتها، وخير دليل على هذا مقدمة قطعة (واحة العمر) وقطعة (وغنت لنا الدنيا) ، كما يتفرد اللحن العامري بلمسة مضافة من ابتكاره، مما يرفع من درجة جاذبية اعماله، ومن ذلك القراءة الشعرية لمحمد الطوخي بصوته الجهوري في ملحمة (العرش الخالد) والتي اشترك في كتابتها الشاعر المغربي احمد عبد السلام البقالي والشاعر السوري عمر ابو ريشة، وهناك ايضا افتتاح عبد الهادي بلخياط لقطعة (الجهاد المقدس بالتكبير وهو ما لانجده في النص الاصلي لصاحب القصيدة الشاعر مفدي زكرياء، ولعبت المؤثرات الصوتية دورا مهما في زخرفة ألحانه ، نستحضر هنا صوت عقارب الساعة في اغنية (ميعاد).
كان عامر يحب ان يخرج عن المألوف من حين لآخر، فهاهو يسند قطعة (مواكب النصر) لمطربين هما عب الهادي بلخياط وعبد الحي الصقلي، وقطعة (النخيل) لمطربتين هما رداد الوكيلي وبهيجة الشنا، كما تغتني جمالية اللحن عنده بنفسه الطويل، ان الكثير من اعماله تتجاوز مدتها الزمنية خمسة عشر دقيقة، بل وتقارب احيانا الثلاثين دقيقة او تربو عليها، وخير مثال على هذا القطع الآتية (وغنت لنا الدنيا ـ موكب الخالدين ـ العرش الخالد ….) وهذا يمنح للمتلقي فرصة للاستمتاع اكثر.
رغم عماه ورغم جهله للموسيقى، كان عامر واثقا من موهبته وقدراته اللحنية فسعى الى إثبات ذاته امام المشارقة، ولنا في مشواره الفني عدة مؤشرات، نستحضر منها أنه أسمع محمد عبد الوهاب اغنية (القمر الاحمر) وهيأ لحن قصيدة (الشاطئ) للمطرب كارم محمود، ولحن الزجل المصري (قطعة غالي حبك لحسين السيد)، كما التمس من أم كلثوم اثناء زيارتها للمغرب ان تسمح لجوقها الخاص بعزف بعض من الحانه بصوت عبد الهادي بلخياط، وقد شهد له اعلام المشرق الذين اتيحت لهم فرصة الاستماع الى إبداعاته بالنبوغ والعبقرية، والاكيد ان من اسرار هذا النبوغ الصياغة اللحنية المزخرفة بمحسنات شتى وضحناها في كلامنا السابق، ومن ثم بدت الحانه كلوحات فنية تناسقت فيها الالوان، فطلعت ساحرة في الآذان وآسرة للقلوب، وتتربع قطعة (القمر الأحمر) على قمة لوحاته، ففيها تجمعت جل المحسنات التي اشرنا اليها، بداية من الكلمة الاصيلة والجميلة النابعة من تجربة خاصة عاشها الشاعر عبد الرفيع الجواهري، وجاء صوت بلخياط بملامحه المغربية منسجما مع موضوع القصيدة بطابعه المغربي، واما اللحن فجاء منسابا ومتدفقا مجسدا بذلك تدفق الجمال هنا وهناك في طبيعة المغرب، مرورا بالتقديم النثري للاعلامية لطيفة الفاسي، والقراءة الشعرية لكاتب القصيدة، والعزف المنفرد للعود تارة والقانون تارة اخرى، ووصولا الى صوت تلاطم الامواج، والمقدمة الموسيقية المهيأة لتكون معزوفة مستقلة، وقد صاغ عامر كل هذا في محاورة غنائية بين بلخياط وبهيجة ادريس ناهزت مدتها الزمنية الاربعين دقيقة.
من أجمل ما لحن عبد السلام عامر قصيدة (الشاطئ) التي كتبها الشاعر مصطفى عبد الرحمان وغناها عبد الهادي بلخياط:
أين يا شط لياليك النديات الحسان
أين غابت أين واراها عن العين الزمان
فرغت كأسي وجفت من منى النفس الدنان
أين يا شط لياليك النديات الحسان
راح أمسي وتولى من يدي
غير ذكرى تبعث الماضي الدفين
آه من هام الغريب المبعد
بين نار وعذاب وحنين
لا رمال الشط إن راح يناديها تجيب
لا ولا يحنو على مدمعه الهامي حبيب
شفه الوجد فأمسى من جوى الوجد يذوب
يسأل الليل عن الفجر البعيد
ويمني النفس باللقيا غدا
فإذا لاح سنا الصبح الجديد
ذهبت كل أمانيه سدى
ها هنا أشرق للأيام فجري
وهنا غنت الأمواج و الشطآن والدنيا لنا
أين ما كان على الشاطئ من أفراحنا؟
من معيدي لليالي الخوالي
وعهود خلدت في خاطري
نسبق الفجر إلى شط الجمال
ونرى الماضي بعين الحاضر