جدلية الموت والحياة في ديوان الشاعر نورالدين ضرار
ديوان “إشراقات من حياة أخرى” للشاعر نورالدين ضرار
” الحياة في سيرة معظم الخلق حلم كاذب بنكهة الوهم وطعم الرغبة في البقاء..شخصيا في كل محنة من سالف وعكاتي المنذرة بالنهاية، كنت أكذب الموت فلا تلبث أن تصدق معي الحياة..ومن أدراني أن التطبيع مع الألم هو ما يبقيني إلى الآن على قيد الحياة؟”
بهذا الاستهلال يفتتح الشاعر ديوانه، يحفر الألم أخاديده في الذات الشاعرة، لكنه لا يحيل على العدم، والموت بالنسبة له جزء من الحياة، أو هو الوجه الآخر للحياة
في حديث عابر عن نصوص الديوان، أسر لي الشاعر عن ظروف كتابة النص الأول، الذي يحمل عنوان “موجة بأديم اليابسة”، القديم من حيث الكتابة والجديد من حيث النشر، وعن حيثيات كتابته التي تمت في ظروف حرجة، وهو مقبل على دقيقة، نسبة نجاحها ضئيلة، فما كان منه إلا أن تناول هاتفه ودبج كلماته ثم أطفأ هاتفه، وأسلم أمره لخالقه بطمأنينة وصدر رحب
:يقول
..أيتها الرحاب
قليلا من الهواء
لأتنفس العالم
..بصدر أرحب من رئة واحدة
..أيها الأصدقاء
قليلا من الوفاء
لعلي أبقى في الذاكرة
أعزوفة بأجنحة شفيفة
،كقوسٍ حانٍ على خاصرة كمنجة
أو ثقوب ناي نحتته الريحُ
..على شفاه رابية
:لم يكن الشاعر يهاب الموت، فقط يرغب في عبور هادئ من سماء إلى سماء
أيتها الأطيار
أرواحا محلقة
..في كل هذي الرحاب
قليلا من الدعاء
كي أعبر من سماء لأخرى
وأتلبس زرقة موجة
..تتلبس أديم التراب
التجربة الشعرية عند ضرار هي طاقة مشدودة إلى الحياة، فيما هي تغازل الموت
:يقول
..يا أيها الرب الجميل
..حتما هنا، أو هناك
سيظل كل فجر في ربوعي قبسا
..من شموعك المشرقة
يزيح من طريقه كل الوساطات، ويتقدم بخطى ثابتة إلى رحاب الله
” يا أيها الرب الجميل
حمدا لجنابك العظيم
،على هذه الفسحة الهادئة
ها أنت أخيرا اسمي الوحيد
،في لائحة الأصدقاء
،وحيدا تبقى الأقرب إليَّ
،وحيدا أبقى الأقرب إليك
ووحيدين نبقى معا
وجها لوجه ملء الرحاب
،بلا شحاذين أو أولياء
..بلا شياطين أو أنبياء
..فقط أنا وأنت هنا
..لا برَّ بيننا
..لا بحرَ دُونَنا
..لا أرض..لا ولا سماء
في كل أعماره الممتدة الطاعنة في الحضور، يُطَبِّع الشاعر مع الموت فتصدُقُ معه الحياة، إذ يطل علينا دوما من وراء الحجب الشعرية، وهو يتغنى بالموت، غير آبه بما يعترض طريقه من عقبات
من جبين اللحظة تتفصد أسرار الموت، بالكثير من الشبق يعانق الموت، بالكثير من الشبق يعانق الحياة ويعدها باللقاء في عالم آخر. متحفز للرقص، يشبك يديه في يدي الموت ويرقصان احتفاء بحياة أخرى، كما كشفت عنها مخيلته
” بتلويحة من ” فيفالدي
تحلق بي هذه الأوركسترا
..في مواكب من أطيار الجنة
بأناقة ملاك قديس
لي أن أقص الشريط الأحمر
لفردوس أوديسياس في جنازة مهيبة
وكي تكتمل مراسيم الحفل
أحوِّط خصر باتريسيا
ونندغم معا في رقصة الخلد
،على أنغام ألف ليلة وليلة
وحين نتعب
،نرتخي على الأريكة الزاهية
نرفع في صحة الموتى أنخاب السهر
وحيدين نستقرئ خواطر الليل
“..ونلتحم فتيلا من أضوائه الخافتة
هكذا نخلص إلى أن تجربة الشاعر ضرار حياة وشعرا، هي نوع من التعاضد وتوطيد العلاقة بين ذات الشاعر والذات الشاعرة، فهو يقيم علاقة صداقة مع الموت فيما هو يعانق الحياة. ولا يزال يواصل رحلة الموت في سراديب الحياة، أو رحلة الحياة في سراديب الموت، وهو في ذلك يراكم كما من الإبداعات التي تجعلنا نطل منها على عالمه المنذور للألم، المنفتح على الإشراق
فاطمة عدلي